الترجمة في أدبيات الإمام حسن البنا
الترجمة في أدبيات الإمام حسن البنا
الإمام الشهيد حسن البنا |
أ.د/ جابر قميحة |
يقصد بالترجمة –في إيجاز شديد- عرض حياة الشخصية. مع ملاحظة تنوع مناهج هذا العرض. وهى نوعان:
(1) الترجمة الذاتية أو الشخصية
AUTOBIOGRAPHX
وهي التي تتناول حياة الكاتب نفسه بقلمه، ويكشف بها عن ملامحه، وسيرورة هذه الحياة.
ويذهب بعض النقاد المحدثين إلى أن الترجمة الذاتية الفنية ليست هي التي يكتبها صاحبها على شكل "مذكرات" يعنى فيها بتصوير الأحداث التاريخية أكثر من عنايته بتصوير واقعه الذاتي.
وليست هي التي تكتب على صورة "ذكريات" يعنى فيها صاحبها بتصوير البيئة والمجتمع والمشاهدات أكثر من عنايته بتصوير ذاته. وليست هى المكتوبة على شكل "يوميات" تبدو فيها الأحداث على نحو غير رتيب، وليست في آخر الأمر "اعترافات" يخرج فيها صاحبها على نهج الاعتراف الصحيح، وليست هي "الرواية الفنية" التي تعتمد في أحداثها ومواقفها على الحياة الخاصة لكاتبها.
فكل هذه الأشكال فيها ملامح الترجمة الذاتية، وليست هي؛ لأنها تفتقر إلى كثير من الأسس التي تعتمد عليها الترجمة الذاتية الفنية(1).
***
ولكن هذا الرأي –أو هذا التنظير- لا يخلو من التشدد، بل من الإجحاف والاعتساف:
- فمن حق كاتب الترجمة الذاتية أن يتخذ لها الشكل أو القالب الذى يراه ملائما، فيكتب ترجمته في شكل حكائي، أو في شكل مذكرات أو اعترافات.
- والناقد نفسه (الدكتور يحي إبراهيم) قد اعتبر "اعترافات القديس أوغسطين" أشهر التراجم الذاتية في العصور الوسطى، وهى تمثل في رأيه قمة الاعترافات، وقد حذا حذوها من كتب بعده..(2)
- واهتمام كاتب الترجمة الذاتية بالأحداث العامة، وتيارات البيئة لا يضعف من بناء الترجمة الذاتية.. فهذا الاهتمام يمثل بصدق مدى إحساس الكاتب بالجو الذي يعيش فيه، واستجابته له، أو تمرده عليه، أي يمثل موقفه من عصره بيئة وزمنا.
ومن يستطيع أن ينكر تلك الترجمة الذاتية التي سجلها أسامة بن منقذ في كتابه "الاعتبار" وهي مذكرات بديعة تصور لنا الفروسية العربية زمن الصليبيين، كما تصور حياة المسلمين لعصره،وحياة الصليبيين، وهو تصوير أمين دقيق(3).
ويتحدث أسامة عن أعدائه وأعداء المسلمين بروح الإنصاف والعدل، فيذكر ما لهم وما عليهم..(4)
- "واعترفات جان جاك روسو" تعتبر من أشهر التراجم الذاتية، مع أن حظ البيئة والمجتمع ورجال الدين والكنيسة حظ وافر في كل صفحات هذه الاعترافات.
- وفكرة "الواقع الذاتي" التي ألمح إليها الكاتب بهذا التحديد الإنعزالي الحاد لا وجود لها إلا في الخيال: فالكاتب لا يمكن أن يصور ملامحه الذاتية، وخصائصه النفسية والعقلية والخلقية وقيمه التي يؤمن بها إلا في ظل البيئة التي يمثل هو نقطة سابحة في سمائها، أو نبتة ناجمة في أرضها، وخصوصا إذا كانت أحداث عصره من الوقائع المتوهجة الكبيرة التي غيرت مجرى التاريخ أو تركت بصماتها غائرة على صفحته.
- وليس المهم في الترجمة الذاتية أي الجانبين أغلب: تصوير الذات أم تصوير الأحداث والتيارات الاجتماعية وما شابهها، بل المهم أن يحدد الكاتب مكانه في زحمة هذه الأحداث، وتلك التيارات، ومدى تفاعله معها إقبالا واستجابة وانسجاما، أو معارضة وتمردا،بحيث تكون شخصيته هي نقطة الارتكاز، ثم لا يقاس حظ كاتب الترجمة وحظ البيئة قياسا كميا. بل ليُبحث في الترجمة عن الأبعاد والأعماق، ومدى إحساس الكاتب وصدقه فيما كتب.
***
(2) الترجمة الغيرية
BIOGRAPHY
وإذا كانت الترجمة الذاتية تمثل تاريخ كاتبها، فإن الترجمة الغيرية تصوير لتاريخ الآخرين. وقد عرفها بعض الكتاب- في صورتها المثلى بأنها "البحث عن الحقيقة في حياة إنسان فذ،والكشف عن مواهبه، وأسرار عبقريته من ظروف حياته التي عاشها، والأحداث التي واجهها في محيطه، والأثر الذى خلفه في جيله"(5)
والتعريف السابق قد يمثل المناهج الحديثة في كتابة التراجم الغيرية، أو بعضها على الأقل، ولكنه لا يتسع للمنهج التقليدى القديم في كتابة الترجمة الغيرية، وأعني به "المنهج السردي"، وهو ذلك المنهج الذي يعتمد على مجرد رصد الحقائق والأخبار عن المترجم له، دون البحث في الدلالات النفسية والعقلية، والخلقية، والاجتماعية لها.
فالمترجم هنا بمقام الجامع الراصد دون تدخل منه في الغالب(6).
والذى يهمنا في دراستنا هذه النوع الأول من التراجم أى: الترجمة الذاتية لأن كتاب الإمام الشهيد "مذكرات الدعوة والداعية" ينتسب في رأينا إلى هذا النوع بالمقاييس التي ذكرناها آنفا.
وفي الصفحات الآتية نعرض في إيجاز طبيعة التوجه الموضوعي وملامح المنهج في هذا الكتاب:
مذكرات الدعوة والداعية
كتب أبو الحسن الندوي في تقديمه لهذا الكتاب ".. ألفيته كتابا أساسيا، ومفتاحا رئيسيا لفهم دعوة الإمام الشهيد وشخصيه، وفيه يجد القارئ منابع قوته، ومصادر عظمته، وأسباب نجاحه واستحوازه على النفوس: وهي سلامة الفطرة، وصفاء النفس، وإشراق الروح، والغيرة على الدين، والتحرك للإسلام، والتوجع من استشراء الفساد، والاتصال الوثيق بالله تعالى، والحرص على العبادة، وشحن "بطارية القلب" بالذكر والدعاء والاستغفار، والخلوة في الأسحار، والاتصال المباشر بالشعب، وعامة الناس في مواضع اجتماعهم، ومراكز شغلهم وهوايتهم، والتدرج، ومراعاة الحكمة في الدعوة والتربية والنشاط الدائم، والعمل الدائب. وهذه الخلال كلها هي أركان دعوة إسلامية ربانية، وحركة دينية تهدف إلى أن تحدث في المجتمع ثورة إصلاحية بناءة، وتغير مجرى الحوادث والتاريخ.."(7)
وفي هذا الجزء من التقديم صورة نفسية مركزة للإمام الشهيد، والصلة الوثيقة بين شخصية الداعي وطبيعة الدعوة الإسلامية.
ومن عجب أن نرى الإمام الشهيد في صدر تقديمه يوصي الذين يعرضون للعمل العام، ويرون أنفسهم عرضة للاحتكاك بالحكومات ألا يحرصوا على الكتابة.
وهو يطرح هذا التوجيه بعد أن عثرت النيابة على مذكراته الخاصة سنة 1943، وقد لقى من المحقق عنتا وإرهاقا في غير جدوى ولا طائل ولا موجب إلا تحميل الألفاظ غير ما تحمل، واستنباط النتائج التي لا تؤدي إليها المقدمات بحجة أن هذه هي مهمة النيابة العمومية باعتبارها سلطة اتهام(8).
وقد ضاعت معظم هذه المذكرات المكتوبة. فأعاد كتابة مذكراته التي بين أيدينا اعتمادا على الذاكرة، وقد رأينا أنه كان يتمتع بقوة في الحفظ نادرة الشبيه.
***
وفي هذه الترجمة الذاتية تتعدد المحاور والتلاحم بين العناصر الموضوعية الآتية:
1- التصوير الذاتي، وعرض مشاعره ورؤيته الخاصة للوقائع والأحداث والشخصيات.
2- مسيرة الدعوة من بدايتها في الإسماعيلية والانتقال إلى القاهرة، ونشرها في عدد كبير من المدن والقرى المصرية، وجهود رجالها، وما تعرضوا له من مؤامرات ومحن.
3- موقف الإخوان من الأحداث، ومن قضية فلسطين وقضايا العالم الإسلامي.
4- عرض نظام الجماعة، ومجالسها، ولوائحها، ووجوه نشاطها الدعوي، والثقافي، والتربوي.
***
وفي كل المواقف والأحداث والوقائع يرى القارئ للإمام الشهيد حضورا قويا، ومعايشة صادقة، يستوي في ذلك ما كبر منها وما صغر.
وفي ما يزيد على ثلاثمائة صفحة يعرض الإمام الشهيد الأحداث بطريقة عفوية مرسلة، ابتداء من التحاقه بمدرسة الرشاد الدينية، وقد استغرقت هذه الفترة من عمره من الثامنة إلى الثانية عشرة، وبعدها التحاقه بالمدرسة الإعدادية، ثم مدرسة المعلمين الأولية بدمنهور، واندماجه في الطريقة الحصافية، واشتراكه في الحركة الوطنية سنة 1919.
ثم التحاقه بدار العلوم، وتخرجه فيها سنة 1927، وتعيينه مدرسا في الإسماعيلية. وتكوينه أول شعبة للإخوان من ستة أشخاص.
وبعدها اتسعت جهود الإمام الشهيد، وبارك الله قدرته في نشر الدعوة في الإسماعيلية، وخارجها مثل : أبو صير، وبورسعيد، ومدن البحر الصغير.
وبعد مجهودات صادقة في نشر الدعوة انتقل الإمام إلى القاهرة لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الدعوة قبل الحرب العالمية الثانية.
***
وفي تفصيل مطرد يعرض الإمام أنواع نشاط الإخوان في هذه الفترة التي استغرقت سبع سنين، وانتظم الأنواع الآتية:
1- المحاضرات والدروس في الدور والمساجد، وتأسيس درس الثلاثاء
2- إصدار رسالة المرشد العام عددين فقط، ثم مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية أولا وثانيا، وفي أثناء ذلك مجلة النذير لسنتين من أول عهدها.
3- إصدار عدد من الرسائل والنشرات.
4- إنشاء الشعب في القاهرة، زيادة شعب الأقاليم، ونشر الشعب في الخارج.
5- تنظيم التشكيلات الكشفية والرياضية.
6- تركيز الدعوة في الجامعة والمدارس، وإنشاء قسم الطلاب، والانتفاع بجهود الأزهر الشريف: علمائه وطلابه.
7- إقامة عدة مؤتمرات دورية للإخوان في القاهرة والأقاليم.
8- المساهمة في إحياء الاحتفالات الإسلامية، والذكريات المجيدة في القاهرة والأقاليم كذلك.
9- المساهمة في مناصرة القضايا الإسلامية الوطنية، وبخاصة قضية فلسطين.
10- تناول الناحية الإصلاحية السياسية والاجتماعية بالبيان والإيضاح والتوجيه، وكتابة المذكرات والمقالات والرسائل بهذا الخصوص.
11- المساهمة في الحركات الإسلامية، كحركة مقاومة التبشير، وحركة تشجيع التعليم الديني.
12- مهاجمة الحكومات المقصرة إسلاميا، ومهاجمة الحزبية والدعوة –في وضوح- إلى المنهاج الإسلامي، وتأليف اللجان لدراسات فنية في هذه النواحي(9).
* * *
وقد أخذ الإخوان أنفسهم عمليا بهذا التخطيط، وخصوصا ما عرضه الإمام من جهود الإخوان في منطقتي المنزلة وبورسعيد في مقاومة التبشير(10).
وعرض الإمام نص العريضة التي رفعها مجلس الشورى العام للإخوان إلى الملك فؤاد لحماية الشعب من عدوان المبشرين الصارخ على عقائده وأبنائه، وفلذات كبده، بتكفيرهم وتشريدهم، وإخفائهم، وتزويجهم من غير أبناء دينهم...(11).
ويعرض الإمام النظام الإداري للجماعة، ونشاط الإخوان في الجامعة والمدارس العليا. ونماذج من مؤتمرات الإخوان في الأقاليم، ونموذجا من اجتماعات الجمعية العمومية للإخوان في الأقاليم. وقرارات مكتب الإرشاد ونظامه، وموقف الإخوان من الآخرين.
وعرض الإمام لجهود الإخوان لنشر الدعوة في الأقطار الشقيقة، وزيارة مجموعة من الإخوان إلى دمشق وبيروت.
ولأول مرة نقرأ في المذكرات تاريخا يوميا (يوميات) لزيارة الإمام للصعيد سنة 1354(12).
وصور الإمام موقف الإخوان من قضية فلسطين، وكثيرا من لوائح وتنظيمات الإخوان المالية والإدارية. ومظاهر النشاط الأسبوعي والرحلات، ومعسكرات الصيف.
وعرض نص المذكرة الطويلة التي رفعها إلى رئيس الحكومة على ماهر باشا في شعبان 1358- أكتوبر 1939 (أي بعد قيام الحرب العالمية الثانية بأيام) شارحا رأى الإخوان في موقف مصر الدولي، ورأيهم في الإصلاح الداخلي(13).
***
وقد رأينا أن الإمام الشهيد –وهو مرشد جماعة، وحامل رسالة- يعطي اهتماما كبيرا للوقائع والأمور العامة، ومسيرة الجماعة ونظامها، ومواقفها من الحكام والقضايا. وهو خط يمثل محورا أو جزءا من المنهج.
ولكن هذا الاهتمام لم يكن على حساب عرض الوقائع الخاصة، والرؤى الذاتية. ومن هذه الوقائع واقعة الرؤيا الصالحة التي رآها ليلة امتحان النحو والصرف(14).
وحادثة زميله في الدراسة والسكن، وقد كان يحقد عليه تفوقه في الدراسة، مما دفعه إلى أن يصب على وجهه وعنقه وهو نائم زجاجة من صبغة اليود المركزة، ولكن الله مكنه من التغلب على الأخطار بغسل الوجه(15).
ويتحدث عن صداقته لأحمد السكري، وفتحه دكانا لتصليح الساعات في مدينة المحمودية في العطلة الصيفية، والهدف الأساسي من ذلك هو قضاء العطلة مع صديقه الحميم أحمد السكري. وأثناء ذلك كان –كما قال- يجد سعادتين في هذه الحياة: سعادة الاعتماد على النفس، والكسب من عمل اليد، وسعادة الاجتماع بالأخ أحمد أفندي (السكري)، وقضاء الوقت معه، ومع (الطريقة) الحصافية، وقضاء ليالي هذه الإجازة معهم يذكرون الله، ويتذاكرون العلم في المسجد تارة، وفي المنازل تارة، وفي الخلوات بظاهر البلد تارة أخرى(16).
ويقدم صورة طريفة للمنزل الذى استأجر دوره العلوي وبعض زملائه في الإسماعيلية، واستؤجر دوره الأوسط مجتمعا لمجموعة من المسيحيين، اتخذوا منه ناديا وكنيسة، ودوره الأسفل مجتمعا لمجموعة من اليهود، اتخذوا منه ناديا وكنيسة، وكان مع زملائه يقيمون الصلاة، ويتخذون هذا المسكن مصلى، فكأنما كان هذا المنزل يمثل الأديان الثلاثة(17).
وفي تضاعيف المذكرات نلتقي كثيرا من آراء الإمام الشهيد ونظراته الخاصة البناءة في شتى الأوضاع والمجالات، مثال ذلك ما كتبه عن آليات نهضة الأمة ومرتكزاتها، وأهمها "التربية"، فتربّى الأمة أولا، وتفهم حقوقها تماما، وتتعلم الوسائل التى تنال بها هذه الحقوق، وتربى على الإيمان بها، ويبث في نفسها هذا الإيمان بقوة.. أي تدرس منهاج تهضتها درسا نظريا وعمليا وروحيا(18).
كما يرى أنه لا نهوض لأمة بغير خلق، فإذا استطاعت الأمة أن تتشبع بروح الجهاد والتضحية، وكبح جماح النفوس والشهوات أمكنها أن تنجح، بمعنى أن الأمة إذا استطاعت أن تتحرر من قيود المطالب النفسية، والكمالات الحيوية أمكنها أن تتحرر من كل شيء، فليكن حجر الزاوية إصلاح خلق الأمة(19).
وهو إذا عرض الذاتي الخاص فلينطلق منه إلى العام لاستخلاص ما ينفع ويفيد في مجال الدعوة والمجتمع، مع إخضاع الرؤية الخاصة للتجريب العملي، ومن أشهر الوقائع في هذا المقام ما عرضه على إخوانه من الدعوة في المقاهي، وعارضه إخوانه بمقولة: إن أصحاب القهاوي لا يسمحون بذلك، ويعارضون فيه، لأنه يعطل أشغالهم، وإن جمهور الجالسين على هذه المقاهي قوم منصرفون إلى ما هم فيه. وليس أثقل عليهم من الوعظ، فكيف نتحدث في الدين والأخلاق لقوم لا يفكرون إلا في هذا اللهو الذي انصرفوا إليه؟
يقول الإمام: وكنت أخالفهم في هذه النظرة، وأعتقد أن هذا الجمهور أكثر استعدادا لسماع العظات من أي جمهور أخر حتى جمهور المسجد نفسه، لأن هذا شيء طريف وجديد عليه، والعبرة بحسن اختيار الموضوع، فلا نتعرض لما يجرح شعورهم، وبطريقة العرض فنعرض بأسلوب شائق جذاب، وبالوقت فلا نطيل عليهم القول.
ولما طال بنا الجدل حول هذا الموضوع قلت لهم: ولم لا تكون التجربة هي الحد الفاصل في الأمر؟ فقبلوا ذلك، وخرجنا، فبدأنا بالقهاوي الواقعة بميدان صلاح الدين، وأولها السيدة عائشة، ومنها إلى القهاوي المنتشرة في أحياء طولون إلى أن وصلنا من طريق الجبل إلى شارع سلامة والسيدة زينب، وأظنني ألقيت في هذه الليلة أكثر من عشرين خطبة تستغرق الواحدة منها ما بين خمس دقائق إلى عشر.
ولقد كان شعور السامعين عجيبا، وكانوا ينصتون في إصغاء، ويستمعون في شوق، وكان أصحاب المقاهي ينظرون بغرابة أول القول، ثم يطلبون المزيد بعد ذلك. وكان هؤلاء يقْسمون –بعد الخطبة- أننا لابد أن نشرب شيئا، أو نطلب طلبات، فكنا نعتذر لهم بضيق الوقت، وبأننا نذرنا هذا الوقت لله، فلا نريد أن نضيعه في شيء. وكان هذا المعنى يؤثر في أنفسهم كثيرا، ولا عجب فإن الله لم يرسل نبيا، ولا رسولا إلا كان شعاره الأول ﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ لما لهذه الناحية العفيفة من أثر جميل في نفوس المدعوين(20).
***
ونقرأ في المذكرات ما ينم على قدرة فائقة على تعمق الشخصيات وفهم أبعادها ومناحيها، وأثرها في نفسه وتوجهه، ومن ذلك ما كتبه عن أحمد الشرقاوي الهوريني الذى لم يره إلا مرة واحدة. وعن الشيخ صاوي دراز، رحمهما الله(21)
***
وأسلوب الإمام هو الأسلوب العفوي المرسل المباشر، فتقديم الفكرة هو شاغله الأول، ولكن المذكرات لا تخلو من قطع تتسم بالتوهج العاطفي والجمال الفني، ونكتفي هنا بسطور مما كتبه الإمام الشهيد عن إخوان البلاح.
"... لقد أدركوا قيمة أنفسهم، وعرفوا سمو وظيفتهم في الحياة، وقدروا فضل إنسانيتهم، فنزع من قلوبهم الخوف والذل والضعف والوهن، واعتزوا بالإيمان بالله. فلم تأسرهم المطامع التافهة، ولم تقيدهم الشهوات الحقيرة وصار أحدهم يقف أمام رئيسه عالي الرأس في أدب، شامخ الأنف في وقار.."(22)
***
وأخيرا نشير إلى أن الاستطراد(23) يكثر في المذكرات، وقد يرجع ذلك إلى أن الإمام البنا اعتمد –بصفة أساسية- على ما ذكرته في استعادة الأحداث والوقائع وتسجيلها. ومن ذلك عودته إلى حديثه عن الدعوة في البحر الصغير ص144، بعد أن تحدث عنها حديثا وافيا ص132.
***
والخلاصة أن هذه المذكرات يصدق عليها وصف "الترجمة الذاتية". وقد رأينا أنها تمثل معرضا لكثير من جوانب حياة الإمام الشهيد، ومبادئ الدعوة. وملامحها ومسيرتها، وجهود دعاة الإخوان، مما يجعل منها مصدرا أساسيا للدعوة والداعية.