تجليات نجيب محفوظ في الأدب السعودي

تجليات نجيب محفوظ في الأدب السعودي

الحميدان - التركي نموذجاً

عصام أبو الدهب

[email protected]

يمتد نجيب محفوظ كروائي مشغول بهم وقضية في هذه الحارة الطويلة الممتدة من أسوان إلى الإسكندرية، ويعدها الجغرافيون السياسيون شارعا طويلا من شمالها إلى جنوبها، ويطلق بعض النقاد على محفوظ حكايَّ الحارة المصرية التي استطاع أن ينقل أحاسيسها ونبضاتها ومفرداتها وتقلباتها بمقدرة إبداعية فذة متسربا إلى صميمها، متشربا تناقضاتها، مستوعبا ضرورتيها، مستيقنا حتمية وجودها في مجتمع تتنوع مصادر ثقافاته وتتلون بألوان حامليها وتتقنع بوجوههم وأشكالهم، يسجل كل هذا بعين راوي لا يحاول أن يفرض تصوراته وتوجهاته على شخصياته بل يحيكها بقناعاتها هي كما يراها في عيون الآخرين، لقد كان محفوظ سمَّاعا جيدا يطأطئ أذنيه في كل الاتجاهات ليسمع همسات القلوب ونجوى العيون ورعشات الشفاه وارتعاشات الأيدي ودبيب الأقدام، يسجل كل هذا في ذاكرة خزانة قادرة على استعادة التفاصيل في الوقت المناسب لتضعها موضعها من تفسير الحدث في الرؤية الإبداعية.

لقد ألتصق محفوظ بهذه الحارة الممتدة حتى أنه كما يذكرون عنه لم يخرج منها؛ وأنه لم يحمل يوما جواز سفر لنية الرحيل عنها، وحتى عند فوزه بجائزة نوبل العالمية أوفد ابنتيه لاستلامها، فهو لم ير غير مصر وشعبها وحواريها وشوارعها، عايش همومهم وأحزانهم وعانق أفراحهم وأحلامهم، بل كان محفوظ تجري في عروقه أشد أعراض المجتمع المصري بروزا، إذ كان مرتبطا بالوظيفة ارتباطا وثيقا، كما أنه كان بيروقراطيا صارما، وهذا يدل على أنه مصري بامتياز بإيجابياته وسلبياته يعبر عن وجدانها وشعورها تعبيرا صادقا واعيا، ولذا لم تقف مصريته عند حدودها الجغرافية بل امتدت تاريخيا وحضاريا وثقافيا لتتواصل مع محيطها العربي والإسلامي من خلال رواياته وقصصه وإبداعاته، لتلتحم مع أطيافا أخرى من ألوان الإبداع مكونة هذا المسمى الرواية العربية، ويعد فيها بجيب محفوظ أستاذها بلا منازع ومفجر طاقاتها ومخصب أرضها يشاركه غيره وإن كان جهده الأبرز والأميز لاعتبارات كثيرة، وإن الباحث في تلافيف ذاكرة الرواية العربية ليجد نجيب محفوظ مخبوءا في كل زاوية وتحت كل سطر منها بشكل من الأشكال وبوجه من الوجوه.

من هذا الوجه كانت هذه الإطلالة العارضة على تجليات محفوظ في الأدب السعودي الذي أصبح له ميسمه الخاص به ولغته الواضحة الملامح، ولا يمنع هذا أن ننظر فيه لنرى وجه الرجل الذي رحل وقد غيبه الموت لتبق ذكراه ماثلة في الوجدان الثقافي سواء من أيده وأحبه أو من عارضه وذمه. والأدب ليس وثيقة تدين المجتمع أو يمكن الحكم بها على مجمل أوضاع مجتمع ما؛ بل هي تسجيل بريء لظواهر قد تكون فردية أو جماعية، ولكنها في النهاية وجهة نظر خاصة بكاتبها وغالبا ما نكون جائرين إذا ما استند على رواية ما أو قصة ما لنحكم بها على أي مجتمع أحكاما مطلقة، في جلسة واحدة من جلساتنا يمكننا أن نقول أكثر مما تقوله أكثر الروايات تشاؤما، ولكن تبقى للكلمة المكتوبة سطوتها ونفوذها.

إشارة قبل الطريق

وليست هذه قراءة وفق المصطلح النقدي " التّناصّ " الذي يعني أنّ نسيج أيّ نص جديد اختزن نصوصاً كثيرة وتأثر صاحب هذا النّصّ تأثُّراً غير مباشر بها، بوساطة القراءة والاطلاع والاهتمام، وكأنّ النّصّ الجديد غير بِكْر؛ باعتباره مزيجا من نصوص عدّة. وإنما المقصود هنا علاقـة النّصّ الرّوائيّ السعودي اللاحق ( الحميدان / التركي ) بالنصّ الروائي المحفوظي السّابق. وليس في هذا أي ضير أو عيب إذ كانت الرواية المصرية في عمومها مثالا وقدوة تحتذى من قبل كل الروائيين العرب وقد أكد الدكتور سيد حامد النساج في كتابه " بانوراما الروايـة العربية " ( ص  110وما بعدها) أن الرواية العربية في مصر كانت تُوضع دائماً موضع المثال الذي ينبغي أن يُحتـذى من طرف كتّاب الرواية في الوطن العربي وسوريا خصوصا، وذكر الناقد محمد أبو خضور في كتابه " دراسات نقدية في الرواية السورية" (ص 16) على أن الأديب الكبير حنا مينة احتذى في روايته " المصابيح الزرق" الصادرة عام (1954) رواية نجيب محفوظ : زقاق المدق (1947). ألم ينتج بعض الروائيين العرب، ثلاثيات ورباعيات كما فعل صدقي إسماعيل في ثلاثيته (العصاة)، ونبيل سليمان في رباعيته (مدارات الشرق)، وعبد الرحمن منيف في خماسيته (مدن الملح)، وعبد الكريم ناصيف في ثلاثيته (الطريق إلى الشمس)، ومحمد ديب في ثلاثيته (الجزائر) وخيري الذهبي ونبيل سليمان وخيري شلبي وأحمد إبراهيم الفقيـه وإبراهيم الكوني وشريف حتاتـة تعالج جوانب في مجتمعات بلدانهم تداني ما عالجه نجيب محفوظ في ثلاثيته مما يخص المجتمع في مصر، هذا ما يجعل التعرف على شيء من روافد التواصل بين نجيب محفوظ والأدب السعودي ضرورة تفرضها أوجاع الرحيل.

الحميدان رائد السريدية السعودية

يمتلك الروائي السعودي إبراهيم الناصر الحميدان رصيدا ضخما من الإنتاج الأدبي امتد عبر قرابة النصف قرن، حيث صدرت أعماله  القصصية كاملة بالرياض تحت عنوان (مجلد الأعمال القصصية الكاملة) وضمت ست مجموعات قصصية كان الحميدان قد أصدرها عبر الفترة (1960/2004م ) و هي: أمهاتنا والنضال، أرض بلا مطر، غدير البنات، عيون القطط، نجمتان للمساء، العذراء العاشقة، وتحتوي هذه الأعمال على 106 قصص قصيرة، وللحميدان كذلك ثمانية روايات صدرت موازية لصدور مجموعاته القصصية، صدرت أولها في العام 1961م بعنوان: (ثقب في رداء الليل) وآخرها عام 2005م بعنوان (حيطان الريح).

وقد وصف الحميدان في إحدى الندوات الأدبية التي عقدت في الرياض بكونه أحدث في الرواية السعودية ما أحدثه نجيب محفوظ في الرواية العربية، وهذا هو المدخل الأساسي في محاولة الاقتراب من تجليات نجيب على الحميدان في أدبه، فالحميدان رغم لغته المتمتعة بأقصى درجات الخصوصية إلا أنه كان يضع أمامه محفوظ نموذجا يحتذى به ويصبو إلى الوصول إلى تقنياته وآليات عمله الروائي، وإلقاء الضوء على عالم الحميدان القصصي من زوايا جديدة تقنيا ومضمونيا، يخرج بنا بكونه قد خرج من نطاق التسجيل الفوتغرافي للمواقف والأحداث إلى نطاق التصوير الرمزي المنفتح الذي يغني التجربة الواحدة بمستويات مختلفة من المعاني والإشعاعات، ويتمثل الإنجاز الواعي لدى الحميدان في قدرته على إحداث التوازن المطلوب بين الحقيقة الخارجية والحقيقة الداخلية، وهذه إحدى المفاصل الأساسية التي تجلت في أدب محفوظ.

من جانب آخر اعتنى الحميدان بالموضوع الإنساني بشموله وتنوعه واختلافه وتناقضاته في تناول المشكلات الاجتماعية والشخصيات المنبثقة عنها، ولم يكن يقصد من وراء ذلك " التشهير وكشف الأسرار وإيذاء نفر من الناس، أو الهجوم على فريق من المجتمع من خلال كشف تلك الأخطاء والممارسات غير الحضارية، إنما وضع اليد على موطن الداء هو السبيل إلى اجتثاثه.."(انفتاح الرواية يحقق رؤية إنسانية واسعة، في مجلة "قوافل" الرياض، السنة 4، م4؛ العدد الثامن، وهو العدد الخاص عن الرواية المحلية شوال 1417هـ/1997م، ص51)، وهذا ما أكده أيضا منصور إبراهيم الحازمي في كتابه "فن القصة في الأدب السعودي الحديث" الصادر عام 1983م.

وتمركزت منطلقات الحميدان القصصية على نواح أربعة، أولها: استلهام التراث بجميع مفرداته ويقصد بالتراث جميع المرتكزات التي أثرت في الوجدان الشعبي لمجتمع الجزيرة العربية بقصصه الشعبية وشعره العامي محاولا في تحديد العلاقة بين المكان والزمان ومعلما على الدوائر التي تربط بينهما بحثا عن هوية المجتمع السعودي في مرحليته الراهنة، وقد كانت هذه مرحلة أساسية وأولية في أدب نجيب محفوظ، وثانيها: الانطلاق من قضايا المحيط الذي يعيش فيه الأديب بحيث لا يغفل التفاصيل في الأشخاص والأمكنة والأشياء ولقد كان الحميدان معنيا بإلقاء الضوء على هذه الطبقات المهمشة الراحلة في دروب النسيان مقدما التاريخ التحتي الموازي للطبقات الظاهرة الماتعة بسيرة الناس الخصبة الفياضة بالبراءة والتلقائية في التعامل والمدهشة في بداءتها وتجاوزتها، كم كانت المرأة في أدب الحميدان وجها من وجوه الحياة الخصبة التي لا تقف عند حد معين بل تبحث في تفاصيل التفاصيل فتظهر فيها المرأة الخاضعة واللينة والبريئة والعاشقة والمغوية والزوجة الثانية والبدوية والقروية والغجرية وغيرها كثير، وهذا الانشغال يدل على وعي متجذر في الحميدان بأهمية استعراض ألوان الحياة بلا أحكام مسبقة، وثالثها: البعد الإنساني ارتكز أدب الحميدان على العديد من القيم الإنسانية التي حاول معالجتها في علاقتها بالمجتمع ولكن هناك قضيتان مهمتان كانتا هما الشغل الشاغل له، وهما ( المعرفة والحرية) فصصه تهتف دائما ( الأعمال متوافرة يا أماه.. ولكن الحرية هي الأزمة) ويزيد العلاقة عمقا بقوله ( المعرفة هي ينبوع الحرية أبدا) وهاتان القضيتان كانت الشغل الشاغل لنجيب محفوظ حاول تلمس تفاصيلهما في حياة المجتمع المصري وكذلك حاول الحميدان، ورابعها: القيمة الفنية في ذاتها التي كان الحميدان يبحث عنها خلال مسيرته الروائية بحيث نقل الرواية السردية من التعليمية التقريرية إلى أسمى مراقى التقنية الفنية العالية.

ويؤكد البحث عن العلاقة بين أدب محفوظ والحميدان إلى أن هناك أوشاجا وأنساغا بينهما تتمثل في تقارب وجهات النظر، وتداخل المنازع النفسية، النجوى والحوار، البنيان والأسلوب، ومستويات المعنى، ومسارات الشخصيات، وتراكيب مفاهيم القدرية والحتمية، الحدث كوحدة فنية قائمة بذاتها متصلة بغيرها، وأنماط التوليف، والوعي بالشخصيات وأنساقها الفكرية. 

الحمد والمحفوظية السعودية

تركي الحمد أحد أبرز العلامات الثقافية في السعودية، ولد في عام 1952 بالأردن لأسرة سعودية تنتمي إلى العقيلات، وهو كاتب وروائي يعد من أشهر الروائيين السعوديين من خلال ثلاثيته  المعروفة بـ( أطياف الأزقة المهجورة )، والتي تتكون من ثلاث روايات، صدرت أولها عام 1995 بعنوان (العدامة)، وأعقبتها (الشميسي)، ومن ثم (الكراديب)، يضاف إليها روايات أخرى أقل شهرة وهي (شرق الوادي) ، و(ريح الجنة)، و(جروح الذاكرة)، ولم يكن نتاج التركي منحازا فقط إلى الرواية بل تعاطي مع العمل الأكاديمي وذلك باعتبار تخصصه كأستاذ للعلوم السياسية، ومن مؤلفاته: (الحركات الثورية المقارنة)، و(دراسات أيديولوجية في الحالة العربية)، و(الثقافة العربية أمام تحديات التغيير) و(عن الإنسان أتحدث) وغيرها.

وقد أثارت ثلاثيته ضجة واسعة حين صدروها، وذلك لما تجلى فيها من مباشرة واضحة في نقد كل شيء وإضفاء نوع من السخرية وإنكار كل شيء ذي قيمة في المجتمع، ولعب في ثلاثيته هذه بشكل واضح وصريح على الثالوث الملهم (الدين والجنس والسياسة) لكل أطياف المبدعين، ولصراحة ما ورد في روايته هذه فقد صدرت ضده عدة فتاوى بتكفيره.

تأثر تأثرا كبيرا بنهج محفوظ الروائي والفكري ويرجع ذلك لأٍسباب عدة أبرزها التقائهما في الخلفية الأيدلوجية والثقافية، والذي يؤكد مدى العلاقة الوثيقة بينهما من خلال الثلاثتين ليس على مستوى الاسم أو المنهج فقط بل التعاطي المباشر معها في ثلاثية الحمد بشكل متكرر يظهر ذلك في قول هشام :"هو الفتى المثقف الذي يقرأ لماركس وماوتسي تونع ودوستوفيسكي ونجيب محفوظ." وقوله أيضا:" كان يذاكر ذات يوم هو وعدنان كعادتهما كل عام قبل الامتحانات بفترة، ويختلس بعض اللحظات ليقرأ فيها رواية نجيب محفوظ الجديدة " أولاد حارتنا." وقوله عن هشام العابر أيضا :"عندما تحرك القطار أخيراً، كان بدأ في قراءة " الطريق " لنجيب محفوظ." بل وصلت العلاقة بين هشام/ حمد إلى الدرجة التي جعلت تفاصيل أحداث ثلاثية محفوظ وشخصياتها تراوده في أحلامه فيقول:" يأتيه صوت سي السيد أحمد عبد الجواد زاجراً وزبيدة تقهقه أمامه، وكمال يرقص بينهما، فيما ياسين يعض أرداف زنوبه."

البعد المكاني وتجلياته عند الحمد

وكما حاول محفوظ أن يكشف الغطاء عن الحقائق التي يتصورها عن القاهرة من خلال استنكاه تفاصيل الحارة المصرية المتمثلة في (بين القصرين)، كذلك حاول الحمد أن يترك الانطباع ذاته بكشف واقع مدينة الرياض التي تمثل خلاصة المجتمع السعودي في ظل تقلباته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وبالتالي الأخلاقية فيقول على لسان عبد الرحمن مخاطبا هشام :"سأجعلك تكتشف الرياض كما لم تكتشفها من قبل.. سأريك رياضاً غير الرياض."  فهو سيكشف له الرياض التي لا يعرفها، ووصل الأمر إلى الحد الذي جعل عبد الرحمن يقول :"كل شيء ممكن في الرياض" وهذه العبارة ذات الدلالة المفتوحة هي ملخص ما يعطيه الحمد عن ملامح المكان الذي يتفاعل معه كنموذج يرتئيه عنوانا على المجتمع.

كمال عبد الجواد/ هشام العابر

الشخصية الرئيسية في ثلاثية محفوظ هي شخصية كمال الابن الأصغر لأحمد عبد الجواد، وهي ذاتها في ثلاثية الحمد ولكنها حملت اسم هشاما العابر ـ ولهذا الاسم دلالته الصوفية المتوفرة في كلمة العابر وهي تشعرنا بمدى طغيان الثلاثية بأبعادها الصوفية على الحمد ـ، وكمال هو محفوظ، وهشام هو الحمد، كان محفوظ دائما ما يقول إن  كمال عبد الجواد هو الذي ألف الثلاثية، وأكد ذلك بقوله "أنا كمال عبد الجواد في الثلاثية"، ويقول محفوظ أيضا موضحا وجهة نظره في الحياة والكون وفلسفته تجاههما :"الأزمة الخاصة بكمال هي أزمتي."، والكلام ذاته قاله الحمد عن علاقته ببطل ثلاثيته بأنها " فيها الكثير مني ... فالبطل أنا من صنعه وأنا من وضع له العواطف والتجارب."

ومن أهم الملامح التي تجمع بينهم ( محفوظ/كمال، الحمد/هشام) هو دراستهم لأحوال المجتمع من خلال الدين والفلسفة، وقوعهم تحت تأثير أمهاتهم اللاتي علمنهم كل شيء عن الحياة، وإذا كان محفوظ/ كمال قد تعلم من أمه حب أولياء الله الصالحين خاصة الحسين رضي الله عنه حتى شغل قلبه وملك عليه نفسه، فإن أم هشام/الحمد قد علمت ابنها الأخلاق والقيم وعادات المجتمع التي تخلى عنها في الرياض فيقول واصفا حاله : "وفي الرياض سقطت باقي المثل التي زرعتها أمه في ذاته."

والمتابع لقراءة شخصية كمال/ هشام في الثلاثيتين يجد اتباعا واضحا في المفاصل الأساسية فيهما، فالبعد الإيدلوجي ذاته، والتفسير الأخلاقي لسلوكيات المجتمع نفسه، وحتى البراءة والأخلاق التي تدرجت حتى سقطت في العلاقات المحرمة والشهوات هي خطواتهما معا. 

من أبرز تجليات انغماس الحمد في أدب محفوظ حتى النخاع هو محاولته تخليص رواية ( أولاد حارتنا ) الشائكة في هذا الحلم الهشامي، وإذ كانت أولاد حارتنا حاولت الاقتراب من العلاقة بين العلم/عرفة والإيمان/الجبلاوي، فإن هذا الحلم ( الكراديب ص22 - 26) الذي رواد هشام مشى في الطريق ذاته الذي خطاه محفوظ ولكن في محاولة لقراءة العلاقة بين الحرية والإبداع، وتمثل رواية ( أولاد حارتنا ) محورا رئيسا في أدب نجيب محفوظ في محاولة منه لكشف العلاقة بين العلم والإيمان المتجسدان في المجتمع بكافة أطيافه واعتبر محمود أمين العالم رواية "أولاد حارتنا" التي أصدرها المؤلف نفسه سنة 1959 "ضرورةً فكريةً تحتمّها الثلاثيّة التي هي حصيلةٌ لفلسفته عامة وآرائه المبثوثة في رواياته السابقة( محمود أمين العالم، تأمّلات في عالم نجيب محفوظ، ص86.)، ولما كان الحمد منشغلا بأدب محفوظ فلقد حاول أن يلخص أولاد حارتنا في هذا الحلم الاستهامي الهشامي، ونذكر منه فقرات تدل على مدى الالتقاء بينهما،  والحلم يتناول قصة الشك في الوجود ذاته من أساسه " فكل شيء يوحي أنه لا يسير، رغم أنه يسير..... واختفت البداية، وتلاشت النهاية" ويتناول العلاقة بين النور الذي لا يجدي في الحياة فرغم سطوعه " إلا أن  إلا أن الظلام الحالك ما زال سائداً"

أما محور الحلم فهو هذه العلاقة بين هذا الكائن الذي ظهر فجاءة وبينه كإنسان، والتي يلخصها الحوار التالي:

ـ إلى أين أيها الإنسان؟

ـ أريد المأوى والطعام والسلام ... هل هذا كثير؟

ـ وهل تعتقد أن الدخول بهذه البساطة؟ ... الواحة واحتي، ولا يدخلها إلا من يدفع الثمن. وثمنها بخس جداً ... قبول شروطي.

ـ واحتك ؟ ... شروطك ؟ ... من أعطاك إياها؟

ـ قوتي هي من أعطاني إياها ... إنها لي وحدي.

ـ القوة لا تصنع حقاً.

ـ الحاجة أساس الحق .

ـ ونخر الكائن الغريب ، ثم قال بنفاد صبر:

ـ قوتي هي الحق هنا، وإن كنت في شك من ذلك، فحاول الدخول رغماً عني.

      ولم يجد بداً من الاستسلام، فقد كانت الحرارة والبرودة والظلام والصحراء لا تطاق، فقال :

ـ حسنا ... وما هي شروطك ؟

      وافتر وجه الكائن عن بسمة رضا واسعة، وأخذ اللعاب اللزج يسيل من بين أسنانه الضخمة، فيما تحول أنفه إلى اللون الأرجواني وهو يقول:

ـ الآن أصبحت عاقلاً وحكيماً .

      ثم استطرد:

ـ ليس لي إلا شرط واحد لا غير ... أن تطيعني في كل ما آمرك به ، ولك أن تتمتع بالماء والهواء والثمار والسلام .

ـ ياله من سعر باهظ!

ـ ويالها من ثمار طيبة!

ـ وإن رفضتُ؟

ـ ليس لك إلا الصحراء والجوع والعطش وكلاب الطريق.

ـ ولكني لا أستغني عن الحرية ...

ـ ونخر الكائن مرة أخرى وهو يقول :

ـ الحرية ... ما هي الحرية ؟ مجرد كلمة.

ـ ولكن في البدء كان الكلمة .

ـ وما نفع الكلمة مع الجوع والقلق.

ـ وما نفع الشبع والسكينة مع العبودية؟

      وأخذ الكائن ينخر ويهز سوطه في الهواء، وهو يقول:

ـ دعك من هرائك هذا ... أمامك خياران، إما أن تقبل شرطي وتدخل واحتي، أو أن تعود إلى الضياع في الصحراء.

      وأخذ يفكر في الخيارين وهو يختلس النظرات إلى داخل الواحة لقد كانت مظلمة مثل الصحراء حوله، رغم الألوان التي كانت تحيط بها، وتلك الأضواء التي يراها من هو بعيد، ولكنها تختفي حالما يصلها أحدهم. ومن الداخل كانت تتراءى أشباح أهل الواحة رغم الظلام ... وجوه حمراء، وكروش منتفخه، وأعين فقدت بريق الحياة، وهم يأكلون طوال الوقت. وهيئ له أن وجوههم قد بدأت تتحول إلى شيء أقرب إلى وجه الكائن الذي يقف أمامه.

ـ ولكن قل لي ...

      قال هشام موجها حديثه للكائن:

ـ لماذا الظلام دامس في الواحة رغم الألوان والأنوار التي تتراءى من بعيد ؟ وضحك الكائن ، وهو يمتص بعض لعاب سال من جانب فمه ، قال :

ـ الظلام في كل مكان ، ولكن الطعام هنا فقط .

ـ ولكني أرى بصيص نور في الأفق يوحي بانبلاج الفجر في الصحراء، ولا أرى ذلك البصيص في الواحة!

ـ النور مزعج للعين، ونحن لا نحبه هنا فهو مفسد للسكينة والطمأنينة. ليس ألذ وأجمل من هدوء الليل، وصمت الظلام.

ـ لم لا تقول إنك أنت من يكره النور، كي لا ترى أحد وجهك المسخ.

وهناك ثار الكائن، وأخذ ينخر بشدة، ورفع السوط في الهواء يريد أن يهوي به على جسد هشام، الذي فر من أمامه وهو يقول:

ـ سأضرب في الصحراء غير آبه بالشقاء ... فلابد للصحراء من نهاية، ولا بد لليل من فجر، ولا بد أني واجد واحتي مهما طال الزمان ... واحتي سوف تكون بلا سياج ولا ظلام، ولا أمساخ بشر ... وإن مت قبل ذلك، فسوف أموت وأنا حر.

      وتابع طريقه إلى عمق الصحراء فيما الشمس توقفت عن ضحكها، وانكفأت على نفسها، والكائن يضحك من بعيد ويقول بصوت كالرعد:

ـ لن تجد أفضل من واحتي هذه، كل الواحات مثل واحتي ... سوف تعود إلى مهما طال بكل التجوال، طالباً الصفح والغفران، مستجدياً أن أقبلك عبداً من عبيدي، وساعتئذ ... ستعرف من أنا .

      وصاح هشام من بعيد :

ـ كلا ... كلا لن أعود إلى واحتك إلا بعد أن يشرق فيها النور ويخلع السياج وتعود إلى الناس وجوههم .

      وابتلعته الصحراء ، وقهقهة الكائن تدوي وراءه كالرعد ، والشمس عادت إلى ضحكها وحرقتها ، ولكنه يسير وهو يرى خيوط الفجر من بعيد ).

إنها القضايا ذاتها بأبعادها وخطورتها وعمقها، ولكن يبقى سؤال في غاية الأهمية هل استطاع حقا أن ينجح الحمد في أن ينقل صورة المجتمع السعودي من خلال قراءة واعية لمفرداته أم أنه كان متأثرا بعوامل خارجة عن حدود الجغرافيا، أم  يمكن القول إن ما كتبه الحمد لا يجاوز أن يكون سعودة لنص مغاير، على عكس الحميدان الذي مكن لأدبه أن ينبع من فيض هذا المجتمع الموار بألوان وأشكال من الاختلافات يلزمها أن تتمتع بالخصوصية المطلقة.