قصص من التاريخ الإسلامي للأطفال
ملامح قصة الأطفال الموجهة في مجموعة
لأبي الحسن الندوي
الشيخ علي أبو الحسن الندوي
د. سعد أبو الرضا*
مدخل:
القصة جنس أدبي يحقق إثراء الفكر وإمتاع الوجدان، وهي من أجل ذلك وسيلة لتحقيق كثير من الغايات التي اختلفت باختلاف المذاهب الأدبية، وربما كانت الواقعية بتوجهاتها الاجتماعية أكثر المذاهب توظيفاً لها في التعبير عن قضايا الفرد والمجتمع، والتبشير بالتغيير نحو الأفضل والأصلح، من هنا فقد اصطبغت القصة الواقعية بكثير من ملامح الواقع؛ واعتمدت على البيئة(1) في تشكيل بنيتها، ودقة رسم الشخصيات فيها، والكشف عن السلبيات، والإرهاص بتغييرها، وتوظيف لغة الحياد، وربما كان التزام الحياد الدرامي في الراوي المتكلم، من أهم السمات في القصة، لدرجة جعلت بعض النقاد يصفون هذا الموقف بالجمود المطلق وخلوه من المشاعر(2).
وبرغم أن هذا المبدأ يكاد أن يكون ملمحاً مميزاً للقصة اليوم، لكن المعالجة الفنية للتاريخ في القصص يمكن أن تتجاوز هذا الحياد الدرامي، خاصة في قصص الأطفال الموجهة، دون أن تستغرق المباشرة القصة.
حقاً إن التجرد والحيدة يدعمان البناء الفني؛ ومن هنا كانت صعوبة قصة الأطفال الموجهة، في وقوفها على الخط الفاصل بين الحيدة والمباشرة، وعند هذا الخط تتعدد وسائل التوجيه، كما سوف يتضح في مجموعة (قصص من التاريخ الإسلامي للأطفال) لشيخنا أبي الحسن الندوي.
وأعني بالتوجيه هنا توظيف الكاتب للوسائل التعبيرية في الشرح والتفسير مع المحافظة على الشكل القصصي، وتحقيق غاياته الفنية والفكرية الإسلامية، وذلك يتصل بالرؤية والأداة الكاشفة عنها، وما بينهما من ارتباط عضوي(3)، وسوف أشير إن شاء الله خلال معالجتي لهذه المجموعة القصصية، إلى بعض هذه الوسائل التعبيرية، التي تشكل خاصية التوجيه، وإسهامها في بناء هذه القصص، وتجليها كملمح مميز لها في طريقة الكاتب في التأليف والإبداع.
العوامل المؤثرة:
ولقد كتب الشيخ أبو الحسن الندوي للكبار، وللناشئة، كما كتب للأطفال، ومن أهم ما كتبه في هذا المجال مجموعة (قصص النبيين للأطفال)، ثم (قصص من التاريخ الإسلامي للأطفال) معتمداً على كثير من المصادر التراثية في التاريخ الإسلامي وغيره منها: سيرة ابن هشام، وزاد المعاد لابن القيم، وصحيح البخاري، والكامل في التاريخ لابن الأثير، والبداية والنهاية لابن كثير، وغيرها، كما استفاد من بعض المصادر الأجنبية مثل كتاب (جنكيز خان) لهيرلد ليمب، وكتاب (الدعوة إلى الإسلام) لتوما آرنولد.
وإذا كان الشيخ قد ظهرت لديه موهبة الخطابة، فقد نمت وتجلت بفضل اتصاله بشيخه محمد إلياس، الذي التقى به في دلهي، وقد أعجب الشيخ أبو الحسن به: خاصة في توجهه للجماهير، وارتحاله إليهم، وحسن استقبالهم لخطبه، وتأثيره العظيم فيهم(4)، بفضل طريقته في الدعوة إلى الله، وعرضه للأدلة، وبسطها وسلامة ترتيبها، وتقديمه لما به تصلح أحوال المسلمين وتتطور، من هنا فقد أصبح شيخنا أبو الحسن خطيباً داعية، أو داعية خطيباً، ولقد شكل هذا التوجه معالجته لقصص التاريخ الإسلامي، إذ يغلب على هذه القصص أسلوب الخطيب الداعية، وهو مما يجلي فكرة القصة الموجهة لديه، كما سوف يتضح.
ملامح التوجيه: الضمائر والعلاقات:
ففي قصته (رسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)(5) يستثمر الشيخ ما روي من أن رجلاً جاء (يوم اليرموك إلى أبي عبيدة رضي الله عنه – قائد المسلمين - فقال: إنني قد تهيأت لأمري (أي للشهادة)، فهل لك من حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو عبيدة: نعم! تقرئه عني السلام، وتقول: يا رسول الله صلى الله عليك وعلى آلك وسلم! إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً) (6).
من ثم يتشكل الحدث في هذه القصة معتمداً على هذا الخبر، لتجسيد عنصر الحكاية بمعنييه اللغوي والفني(7)، اللغوي على معنى النقل، أي النقل من التاريخ الإسلامي، وحكاية الكلام، والفني بمعنى توظيف هذا الحدث في بنية القصة لتحقيق الغايات الفنية، والإسلامية المنوطة بها، ومنها أن تثبت في ذهن الأطفال ما نعتقده نحن المسلمين من (وصول الميت إلى عالم الآخرة، واجتماع الشهيد برسول الله صلى الله عليه وسلم)(8)، وبرغم أنها فكرة مجردة لكن الشيخ يحاول بحسه الخطابي أن يقدم لها ما يسوغها بدليل بسيط يناسب مرحلة الطفولة المتأخرة (من 9-12سنة)، منتقلاً عن طريق التماثل من علاقة مألوفة بسيطة يدركها الأطفال، هي علاقة الأب بالابن، وما بينهما من حب وحدب ورعاية، إلى علاقة أخرى تماثلها في كونها بين طرفين لكنها تحتاج إلى مستوى أرقى في الإدراك، وهي علاقة الأمة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وما أثر عنه من رعاية شديدة لها، ليقيس الطفل الثانية على الأولى، فتستقر الفكرة العقدية المبتغاة في ذهنه، ويستطيع استيعابها، فالطفل في هذه المرحلة السنية المشار إليها يكون قادراً على القياس، وإدراك بعض العلاقات(9).
وهو يقدم هذا الدليل مقترناً بعدة وسائل تعبيرية أخرى أسهمت في تشكيل القصة، وإعطائها هذا الطابع الموجه الذي يعد من أهم سمات قصص الأطفال في هذه المجموعة عند الشيخ أبي الحسن، وهو ما خصصنا له هذه الدراسة، وهو في الوقت نفسه نتيجة لحسه الخطابي في الاتصال بالجماهير، من هذه الوسائل التعبيرية هيمنة ضمير الخطاب (ك) على الفقرة الأولى من القصة هيمنة تجسد قوة الاتصال بين المرسل والمستقبل، فيتأكد التواصل المرجو بينهما، والتعاطف وحسن التلقي بين الطفل والعمل الأدبي، يتضح ذلك في (جاءك – أباك – لك – منك – بأبيك - أبوك – عنك – صحتك).
التصوير:
فإذا ما تحقق هذا المستوى من التواصل والإدراك والاستيعاب بالنسبة للطفل، لا يلبث الشيخ أن يدعمه بوسيلة تعبيرية أخرى في الفقرة الثانية: هي التصوير البياني المتمثل في التشبيه، الذي - برغم فنيته - يمكن أن يناسب هذه المرحلة من مراحل الطفولة، فهو قياس على شكل صورة بيانية، تكشف عن علاقة الدنيا بالآخرة، وتوضح اعتقاد المسلمين أن الموت هو الجسر الذي يربط بينهما، (وكل ما عبر هذا الجسر من المسلمين وصل إلى الآخرة، واجتمع هنالك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشرف بزيارته، ولا بد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سائل عن أمته)(10).
وإذا كان ضمير الخطاب هو المهيمن في الفقرة الأولى، فإن ضمير الغياب هو المسيطر في الفقرة الثانية، وذلك انتقال من المخاطب: الطفل الموجهة إليه القصة، إلى الغائب وهم المسلمون، الذين تتحدث القصة عن معتقدهم في الصلة بين الدنيا والآخرة، وعلاقة المصطفى صلى الله عليه وسلم بأمته، ومكانة الشهيد، وصلته بذلك المعتقد، عندما ينتقل من الدنيا إلى الآخرة، وينال الحظوة بلقاء المصطفى صلى الله عليه وسلم، من ثم كان الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمائر الغيب، وسيلة تعبيرية أخرى لتثبيت الفكرة ودعمها في ذهن الطفل، عن طريق الالتفات بواسطة هذه المغايرة بين الضمائر، وأثر هذه المغايرة في تهيئة الطفل للتلقي والاستيعاب للفكرة.
وتأتي علاقة التخالف في الفقرة الثالثة ليستكمل بها شيخنا تقرير وتثبيت هذا المعتقد في نفس الطفل، فإذا كانت علاقة التماثل في الفقرة الأولى قد كشفت عن اهتمام الابن بالاتصال بأبيه، لإبلاغ سلامه إليه عن طريق القريب أو الصديق المسافر، وحرص الوالد على استقبال أخبار ابنه والاتصال به بواسطة هذا القريب أو الصديق المسافر كما يحرص الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الموت على الالتقاء بالشهيد، وسؤاله عن أخبار أمته اهتماماً بهم، فإن الفقرة الثالثة تبين أن القريب أو الصديق المسافر قد لا يلتقي بالأب، ومن ثم لا تصل أخبار الابن وسلامه إلى أبيه ولا يتم الاتصال بينهما، وهنا تتحقق المخالفة في أننا نحن المسلمين لا نشك في وصول الميت إلى عالم الآخرة واجتماع الشهيد لمكانته برسول الله صلى الله عليه وسلم واتصاله به، وسؤال المصطفى عن أحوال أمته، وذلك معتقد للمسلمين لا يتبدل أو ينتقض، وعلى أساس هذه المخالفة يمكن أن تهيأ نفس الطفل لاستقبال ذلك المعتقد، ومن ثم يستقر في وجدانه.
التناص وحكاية الحدث:
ويشكل التناص مع القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف لبنة مهمة أخرى في بنية هذه
القصة، خاصة وهي تتحدث عن انتصار المسلمين، ووعد الله لهم بذلك، كما في قوله تعالى
(إن جندنا لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون)، وكذلك حديث المصطفى صلى الله
عليه وسلم عندما بشر بذلك (لتفتحن كنوز كسرى) وقيصر، والنصان معاً في صلب القصة
بشرى لكل مؤمن بالنصر، مما يجلي الرغبة في الشهادة في ميدان الحرب غاية سامية
إيجابية، يتطلع إليها المؤمنون، لأنها شهادة قرينة بالنصر، من ثم فقد جاء ذلك الرجل
إلى أبي عبيدة وهو موقن بالأمرين معاً: الشهادة والنصر، متطلع إليهما معاً، حريص
على لقاء المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبذلك يسهم التناص في تشكيل الحدث مجسداً
عنصر الحكاية، كما أشرت في بداية هذه الدراسة، والحكاية هنا، هي ما يحكى ويقص، من
مرسل إلى مستقبل مباشرة أو استحضاراً، فيتأكد التواصل وحسن التلقي، والاستيعاب
والتوجيه في القصة. وهكذا تتآزر هذه الوسائل التي تكشف عن محاولة الشيخ أبي الحسن
تشكيل قصة للأطفال، تعتمد على الخبر التراثي، وهو الاتصال بين الدنيا والآخرة
والتقاء الشهيد هناك بالمصطفى صلى الله عليه وسلم.
والقصة بتركيزها على الحدث على هذا النحو، فقد لا يتاح للعناصر القصصية الأخرى، من
عناية الكاتب مايبرزها، وذلك لصغر حجم القصة، برغم فاعلية هذه العناصر الأخرى في
هذه المساحة الضيقة، وهي فاعلية جلية في تحديد المكان والزمان والشخوص، إذ يتجلى
ذلك في كون هذه المعركة معركة اليرموك التاريخية في الشام بقيادة أبي عبيدة بن
الجراح رضي الله عنه.
ويمكن أن تمثل هذه القصة - بهذا التوجه وذلك التشكيل - مجموعة من قصص هذا الكتاب، منها (رحلة سيدنا عمر بن الخطاب إلى بيت المقدس)(11)، مع فارق جلي بينهما: أن قصة (رسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) تعتمد في تشكيلها على الحد بالدرجة الأولى، بينما حكاية (رحلة سيدنا عمر بن الخطاب إلى بيت المقدس)، تعتمد الشخصية في بنائها وتطورها، كما تعنى بالحدث وتجليه.
التوجيه والحس الخطابي:
ومما يكشف عن التوجيه أيضاً في القصة نتيجة للحس الخطابي في هذه المجموعة القصصية: أن الكاتب قد يتجه مباشرة إلى متحدث أمامه، وكأنه يخاطبه، وذلك امتداد لتوظيف ضمائر الخطاب التي سبقت الإشارة إليها كوسيلة تعبيرية يتضح ذلك في قصته (قدر الشيء حق قده والجزاء الأوفى عليه)(12)، التي تتناول موقفاً للحسن بن علي رضي الله عنهما، وعندما رأى عبداً يأكل رغيفاً، فيضع لقمة في فمه، ويقدم الأخرى للكلب دون مغابنة حتى انتهى الرغيف، فما كان من الحسن رضي الله عنه، وإعجابه بموقف العبد إلا أن اشتراه وأعتقه، كما اشترى له البستان الذي وجده يؤاكل الكلب بجواره، يقول الكاتب في هذه القصة:
"كلكم تعرفون الحسن بن علي ابن السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.. وإليكم حكاية تدل على همته، وأنه قدر الفعل الحسن حق قدره، والجزاء الأوفى عليه..."(13).
وكذلك في قصة (جواب كان السبب في إسلام مئات ألوف من الناس)(2) التي يكشف فيها
الكاتب عن إسلام التتار بفضل حكمة ولباقة داعية إسلامي هو الشيخ جمال الدين من
بخارى عندما رد بحكمة على تغلق بن تيمور خان ملك كاشغر، الذي أسلم ودعا غيره من
مواطنيه إلى الإسلام، وبذلك تغير مستقبل الأسرة الحاكمة في تركستان من الكفر إلى
الإسلام.
يقول الكاتب في هذه القصة:
"لعلكم سمعتم أو ستقرؤون في كتب التاريخ قريباً: خبر غارة التتار على العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري.
"إليكم حكاية من حكايات هؤلاء الربانيين الكثيرة، الذين يرجع إليهم الفضل في إقبال هؤلاء التتر على الإسلام..".
ويلاحظ في كلتا القصتين أثر (ضمير الخطاب الجمع) في استحضار الكاتب للمتلقين من الأطفال كلون من ألوان الاتصال والتجاوب مع النص، والتوجيه المباشر لهؤلاء المتلقين، وذلك ملمح يتضح في كثير من حكايات هذه المجموعة، وهو في الوقت نفسه نتيجة من نتائج الحس الخطابي لدى الشيخ أبي الحسن الندوي وهو يتوجه إلى الأطفال بحكاياته المستمدة من التاريخ.
وتأمل استخدام الشيخ للفظة (حكاية) بدلاً من قصة، لأنها أبسط في شكلها، وأقرب إلى المتلقين من الأطفال، لوضوح الحدث فيها، وبساطة التعقيد، وقلة الشخصيات، واستخدام لفظة (كان...) بصورة لافتة للنظر، مؤكدة اتصال المرسل بالمستقبل وتواصلهما، وتجلي الدرس التعليمي المتمثل في لباقة الداعية إلى الله، وملاءمة الإسلام بمبادئه وتعاليمه لكل البشر.
بالإضافة إلى أن هذه الحكايات يمكن أن تكون امتداداً للرصيد الموروث على المستويين المحلي والعالمي لحكايات الأطفال، خاصة والفعل الماضي (كان) مع تغير ما يسند إليه كملمح لغوي مهيمن على كثير من قصص هذه المجموعة، وارتباط هذا الفعل بمعنى الحكاية اللغوي الذي أشرت إليه سابقاً، بالإضافة إلى ما أثر من حكايات (كان.. يا مكان) للأطفال التي تعتمد على الراوي، وحشد الوسائل اللغوية التي أشرت إلى بعضها، من أجل تقريب المتلقي الطفل من المبدع الذي يحكي ويفسر ويسره أحياناًَ، وتجلى ملمح التوجيه مشكلاً لبنية هذه القصص.
كل ذلك من الأسباب التي تجعلني أقترح عنواناً آخر لهذه المجموعة، هو: (حكايات للأطفال من التاريخ الاسلامي) بدلاً من (قصص من التاريخ الإسلامي للأطفال)، خاصة والمؤلف نفسه استخدم لفظة حكايات(14) في معالجته للقصص الأخيرة من هذه المجموعة.
المقدمة التفسيرية السردية:
وفي قصته (الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين)(15) نلاحظ أولاً التناص في العنوان مع سورة يوسف عليه السلام، بتوظيف مادة (حفظ) ونسبة الحفظ لله سبحانه وتعالى في كلا الموقفين: في الآية الكريمة عندما جاء إخوة يوسف عليه السلام يستأذنون أباهم في اصطحاب أخيهم الصغير إلى مصر، حيث يوسف أمين على خزائنها، دون أن يعلموا حقيقته، وكذلك في القصة الأولى من المجموعة التي نعرض لها، حيث يشير الكاتب إلى حفظ الله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ورعايته له، ومن ثم يتشكل الحدث بأجزائه وقد هيمنت عليه فكرة حفظ الله للرسل(16).
ومن مقومات الحس الخطابي هنا أيضاً محاولات الكاتب التفسير والشرح والبسط ليصل إلى عقل المتلقي ووجدانه، سواء كان هذا الشرح لبعض مفردات اللغة الموظفة، أو للمواقف والأحداث، ومن ثم تتعدد وسائل ذلك الشرح، ليتحقق التواصل بين المرسل والمستقبل، ويتحقق التأثير والإمتاع، وهما عماد الخطاب في الخطبة، ولقد تجلى ذلك في هذه القصة كأدوات للكشف عن رؤية الكاتب التي يبغي تقديمها للأطفال، لتشكيل وجداناتهم بها، وتثبيت العقائد الصحيحة، والأخلاق القويمة، في عقولهم وقلوبهم، وهي هنا يمكن أن تمثل في الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته، ورعاية الله سبحانه وتعالى وحفظه له، والحث على الجهاد في سبيل الله.
ويتصل بهذا الموقف الفني الموجه للقصة، المتمثل في الشرح والتفسير، والذي هو صدى للحس الخطابي لدى شيخنا: المقدمة السردية التمهيدية للقصة، التي يحاول الكاتب فيها الإضاءة للمواقف المشكلة للقصة، عندما يحين حديثه عنها والتحامها بجسم الحدث مشكلة له، ولذلك تبدو هذه المقدمة كتمهيد، برغم اتصالها بما يليها من أحداث جزئية، وهي في الوقت نفسه ذات طابع تفسيري سردي، وذلك ملمح يتجلى في كل قصص هذه المجموعة تقريباً.
أثر الاستفهام في تشكيل الحدث:
ويتضح الأسلوب الإنشائي المتمثل في الاستفهام، والإجابة عنه وسيلة تعبيرية أخرى تكشف عن الحس الخطابي الموجه عندما يوظفها الكاتب للشرح والتفسير في القصة، مستحضراً جمهور الأطفال الذين (يوجه) إليهم هذه القصة، وفي الوقت نفسه: يبني به حدثه خلال تشكيلها، وقد يكون هذا السؤال نصاً تراثياً لكن الكاتب يجعله وإجابته يلتحمان ببنيته القصصية، ويسهمان في نموها: من هذه المواضع: قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه، عندما كان يتعجب من عدم اكتشاف الكفار لهما برغم يسر ذلك وهما مختفيان بغار ثور: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)(17). ثم يقرن الكاتب بذلك السؤال: النص القرآني تأكيداً لحفظ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه، وكأنه إجابة عن السؤال: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)(18)، مما ينمي الحدث، ويكشف عن الغاية الفكرية التي يجسدها العنوان، والمتمثلة في (الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين)، فيستقر في ذهن الأطفال الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحفظه له.
وهناك أسئلة تسهم في تشكيل حدث القصة أيضاً، لكن الكاتب لا يقدم إجابة عنها، ومع ذلك تحقق جانب الشرح والتفسير، لأن السياق القصصي يوحي بهذه الإجابة تصريحاً أو تلميحاً، كما أنها ترتد شاهدة على عنوان القصة، مجسدة لتحققه، وذلك كقول الكاتب تعليقاً على عدم اكتشاف المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، برغم وصولهم إلى مدخل الغار ولكن إرادة الله وحفظه جعلت العنكبوت تنسج نسجها على باب الغار!! (وكيف يدخل أحد الغار، ولا يقطع نسج العنكبوت، ويبقى على حاله؟)(19).
من ثم يتآزر هذان السؤالان بإجابتيهما في تشكيل هذا الموقف الكاشف عن حفظ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتدعم طريقة الكاتب هذه في الحكاية (بمعنى ما يحكى ويقص) غايته في تثبيت ما ينيطه بالقصة من معتقدات إسلامية.
وبرغم أن الاختفاء في الغار حدث مستقل، لكن الكاتب يربطه بغيره من المواقف التي يلتقطها من التراث، للكشف عن حفظ لله للرسول صلى الله عليه وسلم كما سوف يتضح، وليس هذا الربط ربطاً تاريخياً، وإنما هو ربط قصصي منطقي، وبذلك يستثمر الكاتب السيرة النبوية الكريمة.
ويشير الكاتب في حديثه إلى بعض التفاصيل المتعلقة ببعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم وجهاده ضد الشرك والمشركين، وهجرته إلى المدينة، مبرزاً لبعض مظاهر رعاية وحفظ الله لرسوله عليه الصلاة والسلام في هذه الأحداث، حتى تهيأ الرسول للغزو دفاعاً عن الحق، ورداً لكيد المشركين، وفي إحدى هذه الغزوات، نام الرسول أثناء العودة منها، تحت شجرة، وترك سيفه معلقاً بها، وانتهز أحد المشركين هذه الفرصة، والتقط السيف ووقف به على رأس الرسول مهدداً إياه، سابراً شجاعته وثباته، قائلاً له: من يحميك مني الآن؟ فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم في ثقة وتلقائية: الله، مما أذهل المشرك فسقط السيف من يده، وبذلك ينقلب الموقف، إذ يلتقط الرسول صلى الله عليه وسلم السيف، ويسأل خصمه عما يمنعه هو منه الآن؟ وبينما يستجدي المشرك عفو الرسول، يطلب منه الشهادة، لكن الرجل يرفض، ويعاهد الرسول صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتله، ولا يكون مع قوم يقاتلونه، مما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعفو عنه ويذهب الرجل إلى أصحابه مقرراً لهم أنه التقى بخير البشر.
وإذا كانت معظم الأحداث السابقة في هذه القصة مقررة في مصادر التراث الإسلامية، فإن أول مسوغات التقاط الكاتب لها ومحاولة الربط القصصي بينها، أنها جميعاً تكشف عن مظاهر حفظ الله للرسول صلى الله عليه وسلم ورعايته له، كما أوضحت.
ويتضح السؤال والإجابة عنه كوسيلة تعبيرية توجيهية في هذه القصة أيضاً، عندما يتناول الكاتب فيها موقفاً آخر من المواقف المشكلة لحدثها، وهو تلك الغزوة التي نام الرسول صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ليستريح أثناء العودة منها، يقول الكاتب في هذا الموقف من القصة شارحاً معنى (الغزوة): (وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة، هل تعرفون ما هي الغزوة؟) وتصبح الإجابة عن هذا السؤال شرحاً للمفردة، ومدخلاً لبناء الحدث في هذا الموقف ليتكامل مع غيره في تشكيل القصة:
(لعلكم تعلمون أن المسلمين كانوا يخرجون للجهاد في سبيل الله، وكانوا يقاتلون المشركين والكفار لوجه الله تعالى، ولعلكم تعلمون فضيلة الجهاد في سبيل الله؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج أحياناً مع المسلمين وأحياناً يمكث في المدينة لشغل أو مصلحة، ويبعث جنداً من المسلمين.
فالغزوة ما خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جند من المسلمين للجهاد في سبيل الله.
نعم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ورجع عنها في الظهيرة، وكانت أيام الصيف، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستريح..)(25).
وتأمل فيما سبق تكرير (لعلكم) بما تتضمنه من خطاب يهيمن على هذه الفقرة وسياقها، ليستحضر المخاطبين، ويتحقق التواصل والتوجيه.
محورية الفعل الماضي (كان)
ومن الطبعي في مثل هذا السياق القصصي الحكائي أن يسود الفعل الماضي ، كملمح لغوي آخر، خاصة الفعل (كان) مع تغير ما يسند إليه، كما تتخذ الأفعال المضارعة، الدلالة الزمنية نفسها في هذا السياق، مسهمة في تشكيل عنصر الحكي القصي الذي يجسد التوجيه، وهو في الوقت نفسه يجتذب الأطفال في جميع مراحل عمرهم، لكون هذا الزمن يدل على أحداث قد تمت وتحققت، خاصة عندما تتضمن ما يثير دهشتهم، بكشفها عما لا يتوقع؛ كاختفاء الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه بالغار، ووصول المشركين إليه دون اكتشافهم لمن فيه، وعدم خوف الرسول صلى الله عليه وسلم من تهديد المشرك والسيف في يده.
وقد يكون مصدر الدهشة: التحولات غير المتوقعة، خاصة عندما ترتبط ببعض مظاهر البطولة، كسقوط السيف من يد المشرك، والتقاط الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا السيف، وتحوله من مهدَّد إلى مهدِّد، ولا تفسير لغير المتوقع فيما سبق إلا إرادة الله سبحانه وتعالى الحافظة لرسوله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه، وهو ما يجسد عنوان هذه الحكاية أو القصة، كما أن مظاهر البطولة والشجاعة هنا مما يناسب نمو الطفل في هذه المرحلة السنية التي تلائمها هذه القصة، وهي مرحلة الطفولة المتأخرة(21)، التي يميل الطفل فيها إلى المغامرة والبطولة والمنافسة والشجاعة، وهذه الحكاية من الحكايات التي يمكن أن تشبع هذه الميول.
بعدٌ جديد لمفهوم التاريخ الإسلامي:
والقصتان الأخيرتان في هذه المجموعة وهما: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)، و (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) يتضح فيهما كثير من خصائص (التوجيه) التي أشرت إليها سابقاً، لكنهما تضيفان بعداً جديداً لمفهوم التاريخ الإسلامي في ذهن الأطفال، بكشفهما عن جانب من صراع المسلمين في الهند، ونضالهم من أجل عقيدتهم، والدعوة إليها، وهو جانب مجهول، بحيث تكتمل حلقات هذا التاريخ وتتصل، ويتمثل ذلك في نضال الإمام السيد أحمد بن عرفان الشهيد (1201 -1246 هـ) الذي بويع بالإمارة سنة 1241هـ منشئاً دولة إسلامية على الحدود الشمالية للهند، قاومت المستعمر وروعته، بفضل أولئك الرجال الذين رباهم على الإسلام وتعاليمه.
كما تكشف هاتان القصتان أيضاً عن (التناص مع القرآن الكريم) في العنوان، وأن ذلك وسيلة تعبيرية يعتمد عليها الكاتب، للتأثير بها في المتلقين وتوجيههم خاصة عندما يسهم هذا العنوان في تشكيل الحدث في الحكاية، في بعض قصص هذه المجموعة، والتي منها أيضاً: (الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين) التي سبقت الإشارة إليها كنموذج لهذه الوسيلة التعبيرية.
ولعل ما أشرت إليه من وسائل تعبيرية في تشكيل مجموعة (قصص من التاريخ الإسلامي للأطفال) للشيخ أبي الحسن الندوي، قد كشفت عن أثر الحس الخطابي لديه في إبراز ملامح التوجيه في هذه المجموعة القصصية، مجلية نموذجاً من نماذج قصص الأطفال وحكاياتهم، وهي قصة الأطفال الموجهة.
هوامش ملامح قصة الأطفال
* أستاذ بكلية آداب بنها- مصر – أستاذ بكلية اللغة العربية- جامعة الإمام بالرياض – السعودية: ومدير تحرير مجلة الأدب الإسلامي.
(1) انظر د. إحسان عباس كتاب العربي (24) القصة العربية أجيال.. وآفاق 15/7/89 ص9.
(2) السابق نفسه ص 16.
(3) انظر د. عبد المحسن طه بدر الرؤية والأداة. ط3 دار المعارف. القاهرة. المقدمة.
(4) انظر د. محمد رجب البيومي. أبو الحسن الندوي سيرة ذاتية.
(5) أبو الحسن علي الحسني الندوي قصص من التاريخ الإسلامي للأطفال، نشر مؤسسة الرسالة إصدار رابطة الأدب الإسلامي العالمية، العدد (4) 1412هـ/ 1992م ص 82.
(6) السابق نفسه وصفحة 83.
(7) انظر المعجم الوسيط ج1 مجمع اللغة العربية، المكتبة العلمية طهران ص 190.
(8) قصص من التاريخ الإسلامي للأطفال ص 83.
(9) انظر: غسان يعقوب (تطور الطفل عند بياجيه) دار الكتاب اللبناني، بيروت 1982م ص 81 وكذلك انظر للمؤلف: النص الأدبي للأطفال ط1 إصدار رابطة الأدب الإسلامي العالمية 1414هـ/ 1993م ص 31.
(10) السابق نفسه والصفحة نفسها، وكذلك قصص من التاريخ الإسلامي للأطفال ص 83.
(11) انظر السابق نفسه ص 90.
(12) السابق نفسه ص 97.
(13) السابق نفسه ص 97.
(14) السابق نفسه ص 114.
(15) انظر على سبيل المثال الصفحات: 117، 124، 125.
(16) انظر قصص من التاريخ الإسلامي للأطفال ص 13، وكذلك انظر سورة يوسف آية (64).
(17) انظر على سبيل المثال القصص التالية في هذه المجموعة: المضيف الجائع ص20، شهامة اليتيم ص33، من دون أحد ص45، على الخشبة ص61، رسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ص82، الغرم بدل الغنم ص85، رحلة سيدنا عمر بن الخطاب إلى بيت المقدس ص90، قدر الشيء حق قدره والجزاء الأوفى عليه ص96، لا حاجة إلى ذكر اسمي ص105، جواب كان السبب في إسلام مئات ألوف من الناس ص114.
(18) السابق نفسه ص 15.
(19) سورة التوبة، آية 40.
(20) قصص من التاريخ الإسلامي للأطفال ص 14.
(2(21) السابق نفسه ص 16، 17.
(22) انظر: ذكاء الحر: الطفل العربي وثقافة المجتمع، دار الحداثة – بيروت لبنان ط1 سنة 1984م ص 47 وكذلك انظر النص الأدبي للأطفال ص 38.