رواية (حلم وردي فاتح اللون) للروائية (ميسلون هادي)
مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية:
رواية (حلم وردي فاتح اللون)
للروائية (ميسلون هادي)
حسين سرمك حسن
(1)
ملاحظة : انتهيت من كتابة هذه الدراسة يوم 2/آب/2010
ملاحظة :
تأخر نشر هذه الدراسة أشهر عدة لاعتراض بعض القراء الذين اطلعوا على القسم الأول الذي نشر منها في جريدة (الزمان) قائلين أن هناك روايات كثيرة صدرت وهي في مستوى الشدائد الفاجعة التي عصفت وتعصف بالعراق . فاضطررت إلى مراجعة أغلب ما صدر من روايات بعد عام الاحتلال فتأكدت ، من جديد ، قناعتي بأن ما هو في مستوى المحنة ، فنيا ومضمونيا وجماليا ، من روايات ، قليل وقليل جدا ، وهو تقصير فادح .
( كيف أخرج من هذا الظلام وأنا ابنة واحدة من أولات الألباب في التضرّع للأولياء الصالحين بالقرابين وإشعال الشموع ؟ . كانت هي وعمتي وجدتي لا يمللن من النذور والزيارات .. واحدة نذرت أن ترقص في الشارع إن عاد ابنها سالما من الجبهة ، والأخرى نذرت أن تعبر جسر الأئمة حافية القدمين إلى الكاظم لو عاد ولدها سالما من الأسر .. فما ذهبت عمتي حافية إلّا إلى قبرها الذي دُفنت فيه بعد سماعها خبر ابنها بأيام .. وما خرجت أمّي إلى الشارع راقصة إلّا مع خروج جنازة ابنها من البيت . خرجن من بيوتهن الدافئة الجميلة إلى الظلام ، الظلام الذي يلفنا جميعا ويحيطنا بأشباح ترانا ولا نراها ، ونقول لها إننا نخاف صمتها في الظلام ، فلتتحدث إلينا بكلام مسموع ، لتفتح لنا شباك ضوء يمسح عنا هذا العمى . ولكنها ، من شدّة الزعل ، صامتة وتنوس خلف الأبواب ، بل ترفض حتى الإنصات إلى النذور ... )
( ميسلون هادي )
رواية ( حلم وردي فاتح اللون )
# تمهيد .. أين روايات الشدائد العراقية الفاجعة :
.. هذه رواية الشدائد الفاجعة ، والشدة الفاجعة – علمياً وإجرائياً - أعظم هولاً من المحنة والكارثة .. الكارثة والمحنة قد توفر الكثيرين من تأثيراتها السلبية ، ولكن الشدة الفاجعة لا توفّر أحداً .. وقد عبرنا حدود المحنة منذ سنوات والحمد لله وصرنا نقف في مركز جحيم الشدة الفاجعة . ورواية الشدائد الفاجعة عطلتها " ميسلون هادي " طويلا . ويتحدثون عن ضرورة أن يكون الواقع متفجراً وصاخباً وممزقاً ليقدم للروائي عجينة ساخنة يشكّل منها إبداعه .. طيّب هذه عجينة بحجم الكون .. وهذا تنور بسعة جهنم .. وهذا حطب بمقدار خمسة وعشرين مليونا .. فماذا تنتظرون .. أيها الكتاب العراقيون ؟؟ .. دخل واقعكم مرحلته المابعد- سوريالية وأنتم تتحدثون عن تعطيل مسيرة الإبداع من قبل النظام السابق ؟!.
وإثر موت "فرانكو" دكتاتور أسبانيا السابق تحدث الروائي الأسباني المعروف (خوان غويتيسولو) الذي قضى قسطاً كبيراً من حياته في المنفى ، في باريس ، هرباً من الجحيم الذي أقامه فرانكو لأكثر من (35) عاما ، تحدث إلى مجلة " تري كوارترلي" الأمريكية . قال غويتسولو :
(يجب أن اعترف أنني احتجت إلى سنوات من الإقامة في الخارج للتخلص ليس من الرقابة وحدها، بل ومن الرقابة الذاتية التي استبطنتها وطبقتها على شغلي . فعلّق مراسل المجلة قائلا : إثبات آخر للنتائج الوخيمة للرقابة الذاتية هو أنه بعد موت فرانكو توقع كثيرون منا أن مخطوطات كثيرة لم يتح لها أن تنشر في ظل فرانكو ستخرج بطريقة سحرية من أدراجها في اسبانيا كلها) .
غويتيسولو: لم يداخلني هذا الوهم أو ذاك الأمل لسبب بسيط هو أنني خلال سنوات طويلة في باريس كنت المدير الأدبي لطبعات "غاليمار" - وبالتحديد لأن دعاية فرانكو كانت تتهمني لأنني ناشر الأعمال المعادية لأسبانيا ( والمقصود بها معادية لفرانكو )- فقد كنت أتلقى مخطوطات (مدمّرة) من أناس كانوا يقولون إنهم لم يرسلوها إلى الرقيب . وقد اكتشفت بحزن خاص أنه ليس فيها استحقاق أدبي- أي ليس لها قيمة أدبية بالنسبة للقارئ الفرنسي. كانت ببساطة شهادات مباشرة ولكنها، بالتدقيق، لم تكن أعمالاً أدبية) .
فأين الأعمال الروائية التي كانوا يقولون أنهم أخفوها في طيات ضلوعهم لعقود طويلة .. وأن خزاناتهم قد امتلأت بالمخطوطات المقموعة ؟ طيّب .. سقط النظام الدكتاتوري السابق والعراق يتمزق ، وأنزل الأمريكان الغزاة جهنم من السماء إلى أرض العراق .. فمتى تكتبون رواية المحنة على الأقل ؟
والآن تأتي رواية الشدة الفاجعة من ميسلون هادي التي كتبت - قبل الإحتلال - أكثر الروايات جرأة وفنية في مهاجمة الواقع الفاسد السابق في رواياتها "العيون السود" و"يواقيت الأرض" وقصصها القصيرة الكثيرة – راجع كتابنا عنها الصادر عن دار الشروق عام 2002 - ، وها هي تقدم رواية الشدة الفاجعة الناضجة مبنى ومعنى ، لعلها تكسر أبواب الإحتباس السردية . رواية "حلم وردي فاتح اللون" ليست رواية تقريرية عن الخراب الذي يعصف بالمجتمع العراقي من كل جانب ، بل هي درس في كيفية تحويل تراب المعاناة إلى تبر الفن السردي الباهر ، المشكلة ليست في "تسجيل" الخراب الجنوني سرديا ، فهذا تصوره الصحافة والفضائيات كل لحظة وتعرضه بأفضل شكل وبصورة ساخنة ، لكن المعضلة هي في كيفية تقديم نص يسبق الواقع أو يسير- على الأقل – بموازاته . قلت سابقا أن مشكلة الكتاب العراقيين صارت تتمثل في أن الواقع العراقي المتفجّر سبقهم وباتوا يلهثون خلفه ، في حين أن ما اصطلح الإتفاق عليه منذ قرون مديدة هو أن الإبداع يسبق الواقع ويشكّله ، صارت عواصف الواقع العراقي تتلاعب بالمبدع العراقي وتطوّح بكيانه .
# أنامل المبدع تحوّل حجارة الشدّة السود إلى لآلىء :
قال الروائي "عبد السلام العجيلي" سابقا : " الأمم السعيدة ليست لديها روايات " ، أي أن الرواية وليدة تعاسات الشعوب وأحزانها ، فكيف والواقع العراقي قد دشن ومنذ سنوات مرحلة "ما بعد الحزن" ، و "ما بعد التعاسة"!! . لكن هذا لا يستعصي على أنامل المبدعين المقتدرين أمثال "ميسلون هادي" التي حوّلت حجارة الفاجعة الوطنية السوداء إلى لآليء سردية مشرقة ، مشرقة بالخيبة وإيحاءات الفقدانات الجسيمة . بنبرتها الأسلوبية الهادئة التي عُرفت بها تمزّق روحك ؛ بحركة شخوصها التي تحكي وليس الراوية (فادية) التي تسجل ، تخز - مع كلّ مشهد يقتحم فيه الأمريكان المنزل وخشية الأم (آني) من أن يُلقى القبض على ولدها الوحيد (ياسر) الذي جاءت به من الموصل هاربا بعد أن لطم صديقه لأنه اشتغل مترجما مع الأمريكان ، ولأنه أيضا صار نزيل الجوامع هربا من أنياب الكارثة ، مع كل مشهد قتل كالصيدلي الذي كانت تشتري منه الدواء والذي جاءت أبوه واحتضن جثته في عراء الشارع بعد أن لم يقترب منه أحد لأن (الجماعة) يقتلون من يتعاطف مع ضحيتهم ، ولا أحد يعرف من هم (الجماعة) ، وقد يكون هذا ليس الضرورة الأولى ، ففي العراق "الجديد" لم يعد يشغلنا من الذي ( يَقتُل ) ؟ بل أن نعرف من الذي ( لا يُقتل ) ، حيث يُقتل الصيدلي وأستاذ الجامعة والطبيب والضابط مثلما يُقتل بائع الثلج والحلّاق والخبّاز !! ، ومع كل جثة عراقي يُقتل أكثر من مرّة – والشاب ذو النظارة السوداء الذي قتله خاطفوه الملثمون وألقوه مكتوفا من صندوق السيارة ، أكلت منه حتى الكلاب ، ثم جاءت الشرطة وأطلقت عليه النار ، أي أنه قُتل ثلاث مرّات على أيدي : القتلة والكلاب والشرطة ، فتتساءل الكاتبة ( كم مرّة يجب أن يموت الإنسان في هذا البلد ؟ ) ، مع كل جرح يصاب به بريء مثل جرح عمّار وهو يحاول إنقاذ رجل أطلق عليه (الجماعة) النار وكان لايزال حيّا، مع كل ذكرى عن أيام المسرّات المتناقضة في السبعينات حيث كان الحلاقون يعلقون صور گوگوش الإيرانية وهوليا التركية ، ليأتي محافظ بغداد ويأمر بصبغ سيقان البنات المكشوفة !! تداعياتها مع صديقتها (ريم) وهنّ يذهبن إلى كلية الزراعة في أبي غريب – أقول مع كل ذكرى جميلة راحلة ومشهد موت حاضر معاش تخز الكاتبة قلوبنا بخنجر صغير أنيق ومدبّب . وكلّ هذا يتم بتخطيط وقصدية عاليين . حتى مكان عمل فادية – وسنرى أن اسمها من "الفادي" فعلا – ووظيفتها كان مقصودا . كل شيء كان موظفا من أجل هدفين : الأول الإمعان في تجسيد بل شخصنة الشدائد الفاجعة التي نعيشها ، ثم الهدف الثاني الذي عجز عن تصويره كثير من المبدعين ، بل أن بعضهم أساء تصويره حيث صاروا يقدمون لنا أعمالا فنية عن مساويء صراع السنة والشيعة فيحوّلون الطائفية إلى فن رغم النوايا الطيبة في رسم أضرارها . الهدف الثاني تربوي وطني هاديء يستتر بأردية الفن السردي الآسرة .. الأم ( آني ) مسيحية ، زوجها ( تمام ) مسلم شيوعي سابقا .. وأبوه (الجد) قومي ناصري .. والإبن (ياسر) متديّن ؛ الإبن وحده كان يمكن أن تشتغل ميسلون على تحوّلاته الفكرية والسلوكية الرهيبة وإحباطاته موضوعا مستقلا لرواية قائمة بذاتها تشمل لا معاناة وتمزقات الشباب العراقيين حسب بل معاناة وتمزّقات الشبان العرب والمسلمين في كل مكان أيضا .. شاب كان مغرما بالموسيقى وأرسلته أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد إلى الولايات المتحدة للحصول على شهادة الماجستير في الموسيقى ، وكانوا يعدونه لقيادة الفرقة السمفونية – ولاحظ اختيار الولايات المتحدة كمكان والرسالة الخطيرة التي تريد ميسلون توصيلها حيث يقول لها ياسر الذي تديّن هناك : هناك تجدين إسلاما أفضل !! - . هناك يتديّن ويعيش المفارقات الممزقة : أستاذ الموسيقى الأمريكي يقيم كل أسبوع حفلة لنصرة أطفال العراق فيتساءل كيف ينتصر هذا الأجنبي للعراق وهو العراقي يترك وطنه الممتحن ويغادره .والأمريكية لبنانية الأصل (جوزيل) العازفة معه في الفرقة التي يعشقها وهو يرى أنها الوحيدة التي رفضت شرب قنينة الكوكا كولا لأنها تقاطع هذه الشركة التي تتعامل مع الكيان الصهيوني ثم يتركها لأنها جلست تتشمس بملابس تكشف مفاتن جسدها ، وصاحبه الطبيب العراقي المهووس بالجواز الأمريكي الذي حصل عليه لأنه سيخلصه من المهانة في مطارات الدول العربية !!) . في الرواية كل شيء ينطق بالخراب : جرس الباب الصامت - وهو من "أبطال" الرواية - الذي لم يدقه أحد بسبب تمزق الأحياء وهجرة الناس إلى المنافي وتداعيات الساردة حوله .. أوراق الحديقة الذابلة ..سنادين الورد ( ولا أعرف من هو الناقد الذي قال ذات مرّة أن ميسلون لم تكن موفقة وهي تعد أسماء النباتات في روايتها الرائعة "نبوءة فرعون" – وهي أيضا من روايات المحنة المهمة وكانت ، باعتقادي ، تمهيدا لهذه الرواية ، ناسيا هذا الناقد أن الإلتحام بالطبيعة حدّ التفاصيل هو من سمات "الأدب النسوي" ، وأضع هذا المصطلح بين قوسين لأن الرجل الذي يتمتع بقوة الظل الأنثوي – anima في لاشعوره ، حسب التعبير "اليونغي" يمكنه أن يكتب أدبا " نسويا " رفيعا ، وراجع "مدام بوفاري" ). ميسلون إبنة هذه الطبيعة الأم المباركة ومن روحها استقت ومضة البقاء وسط عتمة الموت ، ونبضات قلب متفائل في أحشاء جسد واقع يحتضر . وهذه الفلاحة العشتارية تقدم الدرس في كل روايتها من خلال "الحديقة" التي هي مكون أساس من مكونات المكان في نصوص ميسلون .. الحديقة تتكلم و "تسرد" وتعِض وتقدم الدروس والعبر . وليس أبلغ من تحولات الحياة في حديقة المنزل الذي استأجرته فادية وهو بيت جدّ صديقتها (سارة) .. وحديقة (ختام) – ولاحظ دلالة الإسم - . ولا أعلم لماذا لم تطور ميسلون الثيمة العظيمة لختام المتصدّعة نفسيا باضطراباتها المحيّرة وهي ترمي كلّ يوم قطعة من أثاث المنزل إلى الشارع فيصطدم بالأسفلت بصوت مدوي ؟ وهل هناك تمثيل فني بارع للخراب أبلغ من هذا ؟ ، ثم حوار ختام البليغ مع الضابط الأمريكي ..و..و..والنهاية العظيمة للرواية التي تلاعبت بنا الكيفية التي صمّمت فيها المشهد الممتد الختامي بحيث أنها قادتنا ونحن محمّلين بقناعة أننا سنجد شيئا انتظرناه طويلا، فنعثر على شيء آخر صادم ومغاير تماما كما تقول إيزابيل أللندي : "جئنا نبحث عن شيء ، فوجدنا شيئا آخر".
(2)
ملاحظة : انتهيت من كتابة هذه الدراسة يوم 2/آب/2010
# جرس الباب العراقي له مخالب ! :
لعل الرسالة الأولى التي ترسلها إلينا الكاتبة – ومنذ الصفحة الأولى في روايتها هي أن أي شيء في العراق لم يعد يشبه أي شيء في العالم الآن ويختلف عنه جذريا ، يختلف بإيحاءاته الوجدانية وبمحمولاته الرمزية . لاشيء في العراق لا يحمل معاني خراب أكبر من معناه المباشر .. جرس الباب في أي مكان هو جرس الباب ... لكن في بغداد الجرس له مخالب لا ترحم :
( هذا الجرس هو نفسه الذي خمش القلوب المنتظرة بمخلبه القاسي ، عندما كان يقرعه قادم وقت الغسق يتبعه خبر مفجع أو تابوت ملفوف بالعلم ، فيتوحش البيت ويتحول إلى أثر .. فما أكثر ما يَرى هذا المنادي الصغير المختفي خلف كلكل الأشجار ، من أحزان وأفراح .. وما أغرب ما يحتمل من سبّابات العابرين وأهل المكوث من الأحبة والأهل والأصدقاء .. وما أسرع ما يتلقى اللعنات إذا ما كان الغاسق شرّا إذا وقب ، وما أقل ما يتلقى التقدير إذا كان القارع خيرا إذا نطق .. بيد أن وجوده ، ذاك الذي لا ينتبه إليه أحد ، لأنه خلوّ من الصفات والإضافات ، هو خرافة كل الأحوال ، والعلامة الفارقة التي تميّز البيوت من الخرائب والأطلال . واليوم يتحدّث بالحق بعد أن كان صامتا طوال سنوات عديدة لا يقرعه أحد ، وإن قُرع فالكل يفزع ويهرع خائفا إلى النوافذ – ص 6 ) .
لكن البناء السردي الذي تشيده ميسلون يقوم دائما على الإيغال في تصوير فداحة الفقدانات المثكلة من خلال التمهيد المحكم في عرض "المسرّات حسنة الصيت" التي مزقتها مخالب المثكل . فهي لا يمكن أن تبدأ بخاتمة مصير كل مكون في عملها دون أن تعرض بداية " حكايته " وهنا تتجلى عظمة الفن السردي الباهر خصوصا في العمل الروائي ، فالرواية لا تقوم على "الكلّيات" ، بل على "الجزئيات" والتفاصيل . وهذه "حكاية" الجرس :
( أما جرس الباب فتلك حكاية أخرى ، هي كل ما نحتاج إليه لنخلص إلى حكاية أصغر نلملمها في منديل معقود ونرويها للصغار عندما يكبرون .. فهذا الجرس المنطوي الصامت منذ سبع سنوات يبدو أنه قد نطق أخيرا وقال كلمة حق . كان هو الشاهد على الفرح والحزن ، وعلى الحقيقة والخطأ ، وقد مرّ عليه الشحّاذون بالعشرات ، الصادقون منهم والكاذبون ، ومرّ عليه المقايضون والعطشى والتائهون والحدائقيون والغالقون وطلّاب المؤونة الفائضة عن الحاجة . قرعه الأهل والأحبة من الأخوة والآباء والأمهات ، وأعلن أخبار التخرّج والنجاح بلجاجة الضرب عليه من الأبناء والبنات ، ثم عافوه وخرجوا جميعا فرارا من النار والدمار إلى الشتات وبلدان الجوار – ص 5و6 ) .
إنه ليس جرسا من نحاس جامد ، هو كائن " مؤنسن " الآن ، يخيف ويرعب ( وذات مرّة جاءت إلى عيادتي امرأة تفقد وعيها كلما دق جرس الباب ، لأن دقاته ارتبطت " شرطيا " بصدمة الفقدان ، لحظة فتحت الباب من قبل ، وشاهدت نعش زوجها الشهيد ملفوفا بالعلم ) .
# في الرواية المشهد يتكلّم :
وتدرك الكاتبة أن المشهد في الرواية هو الذي يتكلم ، وأن على الروائي أن لا يشرح ولا يبرّر ( يقول موباسان في إحدى قصصه : كان لي صديق شاب ، ولا تستغرب أيها القاريء أن يكون لمسنّ مثلي صديق شاب !! من سألك عن التبرير .. ويقول قاص عراقي : خرجت أرش الساحة المقابلة للبيت بخرطوم ماء طوله 25 مترا !! ، طيّب وإذا كان 22 مثلا ؟ ) . الروائي يرصد الحدث ويكوّن فكرة عنه - رسالة - خطاب - رؤيا ثم يرسمها من خلال حركة موجودات المكان من شخوص وحيوانات ونباتات وأدوات وغيرها في مشهد تتفاعل فيه علاقات تلك المكونات كافة . ودائما يكون للطبيعة عموما وحديقة المنزل خصوصا حضور طاغ ومعبّر في نصوص ميسلون . فإذ تريد الحديث عن مأساة التشتت التي مزّقت الناس هنا وأن لكل بيت في الشارع الذي استأجرت فيه فادية البيت ذا الباب العالي حكاية تُروى ، فإن كل الحكايات لا تصل في جزالتها إلى لوعة البلبلة الأم التي طارت كالمجنونة من على شجرة النارنج بحثا عن طفلها البلبل ، الذي اختطفه فتى الحدائق (عمّار) بعد أن أسقطه من العش برشقة من صنبور الماء وذلك كي يبيعه في السوق:
( لولا أن البلبلة الأم انتفضت وهاجت تلوب بحثا عن ابنها الضائع بلوعة لا تختلف عن لوعة أم ضاع منها ابنها في الزحام .. كانت تمشّط الأرض بعينيها ثم تقف على حبل الغسيل وتنظر ثانية ثم تتلفت وتطير وتبحث وهي تصيح وتنوح .. شالت نفسها وحطّتها – ولاحظ التعبير العامي الأخير وفعله ، وفي رواياتها الخيرة كثرة من هذه التعبيرات التي تضعها في مكانها المناسب فتخلق تأثيرا نفسيا مضاعفا –ص11 ) . تتدخل فادية – وكيلة الطيور والبلابل – فيعيد عمار العصفور ( الطفل كما تصفه الكاتبة ) إلى عشّه . وليس عبثا أن يكون هذا الحدث هو الحدث الفعلي الأول في الرواية بعد عشر صفحات من استدعاء الذكريات الجميلة ومقارنتها بما هو قائم من دمار وهلاك ، فهل صمّمت ميسلون هذا المشهد قصديا بوعي أم أنه جاء عفويا بفعل اختناق اللاشعور بالموضوعة الرئيسية في الرواية وهو مواجهة الأم (آني) ومعها (فادية) التي تتعلق عاطفيا بالإبن ياسر احتمالات وقوع كارثة فقدانه . وحتى التفصيل الصغير الذي يحمله الحوار بين فادية وعمار بعد أن يعيد الطير الصغير :
(عمّار : ضاعت مني الفلوس .. هل فرحت الآن ؟
فضحكتُ وسألته :
- بكم كنت ستبيعه ؟
قال : - بألف دينار ... ص 11 ) .
هذا التفصيل البسيط له إيحاءاته اللاحقة حيث يضيع الأبناء ليس من أجل ألف دينار بل للاشيء . كما أن خجل عمّار ( خاطف البلبل ) من فادية وإعادته الطير الصغير المخطوف له تواشجات مع ما تحاول الكاتبة - ضمن إطار الهدف الثاني - أن تبوح به على امتداد مسار الرواية من أن هناك بذرة للخير كامنة في تربة روح أي عراقي ، وأن المبادرة في الفعل الخيّر الرادع - حتى إذا كان هادئا وبسيطا ، وهو هنا حضور فادية فقط من دون أن توجه أي كلمة لعمّار – استفز تلك البذرة فتململت ونهضت ونمت .
# البداية بالأزرق الفاتح .. ذاكرة الأيام السعيدة :
وتتجسد هذه البذرة الطيبة في سلوك ( تحسين الصباغ ) ( أبو تيسير فعلا لأنه ييسّر أغلب إشكالات الواقع ) بـ ( وجهه الباسم الذي يُفصح عن نفس نقية ويمتاز بالطيبة والسماحة ولطافة لا تخطئها العين في وجه بابلي من وجوه أهل الحلة - ص 53 ) والذي قام بطلاء غرفة الجلوس وباب بيت فادية باللون الأزرق الفاتح - وهذا ينسجم مع اللون الفاتح لحلم العنوان - ، فهو يحرص عليها رغم أنه مكلف بعمل ينجزه ويمضي ، فها هو يتباطأ في خطواته ويشير إلى فادية بأن المرأة والشاب الذي معها وجاءاها بشكل مفاجيء هما فعلا من أقرباء أصحاب المنزل الذي استأجرته .. فلتكن مطمئنة .
وفي المعلومة التي يقدمها تحسين عن أنه كان قد صبغ بيت الطبيب المهاجر - إبن عم ختام - بالأزرق الفاتح أيضا ، فيه إشارة - ولو جزئية - إلى طبيعة المزاج النفسي التفاؤلي - الفاتح - الذي كان يسيطر على النظرة إلى الأشياء . وفادية تصبغ باب البيت بما يعبر عن نفسيتها وعمّا تتمناه من أماني وآمال ، فالواجهة الخارجية لباب البيت بيضاء رمزا للسلام والأمل ، والواجهة الداخلية خضراء فاتحة - الفاتح من جديد - لتنسجم مع حديقة البيت ووداعة الجو الداخلي ولون الغرف الأزرق الفاتح .
يقول ( كاندلر ) وهو الصحفي الذي دخل مع طلائع القوات البريطانية الغازية يوم احتلت بغداد في 11/آذار/1917:
( إن اللون الوحيد الذي يمكن مشاهدته في بغداد وضواحيها هو اللون الأزرق والذهبي القديم اللذان يغطيان المساجد والمنارات . إن هذه الفسيفساء البراقة تشكل تغييرا مريحا للأعصاب في بلد اختفت ألوانه بسبب التراب الذي يغطي أرض وحيطان وسقوف البيوت ، إضافة إلى ذرات الغبار الحارة التي تعوم فوق كل شيء ) .
# وتحسين - وأعتقد أن الكاتبة قد اشتغلت على هذا الجانب غنائيا - لم يكن صبّاغا عابرا يصبغ البيوت ويمضي ، كان "ذاكرة" الشارع من جانب ، وذاكرة للتاريخ المعاصر للمنطقة أيضا . فهو يعرف بيوت الشارع وساكنيه واحدا واحدا منذ أن وزعها عبد الكريم قاسم على الضباط الشباب في أوائل الستينات . وقد تابع أحوال هذه البيوت في الحصار حيث كانت قد أهملت كثيرا ، وبعضها كان لا يزال يحمل آثار المطر الأسود الذي خلفته سحب الدخان أيام القصف الأمريكي . لقد صبغ بيت الشيخ عبد الله ثم بيت ابنته (ختام) وهو البيت المقابل لبيت فادية . وختام هي التي اشترت هذا البيت من ابن عمها الطبيب الذي كان من المقرر أن يتزوجها ولكنه هاجر إلى أمريكا ورفضت الإلتحاق به . هنا تنقطع سلسلة ذكريات تحسين حين يشاهد على شاشة التلفزيون الفنان الثوري (عزيز علي) وهو يغني أغنيته الشهيرة ( يا جماعة والنبي ) فتربط الكاتبة -عبر صلة غير مباشرة - بين البستان العامر الذي كان ، والبيوت المهجورة التي صارت ، منتقلة إلى الجانب العام من مخزون ذاكرة تحسين الذي يقول لها أن أحمد حسن البكر قد أرسل خمسين دينارا إلى عزيز علي كمكافأة على أغنيته (البستان) ، وأنه - أي البكر - قد أهدى سيارات لادا إلى لاعبي منتخب الشباب عندما فاز على إيران . كأن هذا العراقي البسيط هو ضمانة ذاكرة تاريخ بلاده .
# حديقة ميسلون .. حديقة الحياة :
ودائما تأتي دروس الحياة من حديقة ميسلون . فبعد كل مجموعة وقائع تشيع موجة من التشاؤم الخانقة في نفوس المتلقين ، ترتد ميسلون إلى مرجعية حياتها : حديقتها ، التي هي الوحيدة القادرة على رصد مكوناتها وفعاليات "سكانها" التي لا تلتقطها عيوننا بغشاوة المرارات القاتمة . صرنا دقيقين في التقاط كلّ ما له صلة بالعنف الوحشي والأفعال السادية . وهذه نتيجة لما قلته قبل سنوات من أن الأمريكان سيقومون بأخطر تحوّل في حياة العراقيين بالحصار وبعد الاحتلال وهو أن يقتلوا الحب في نفوس العراقيين . عندما تموت شحنة الحب في نفوسنا ، لن يبقى لأي شيء في الحياة قيمة جمالية . من العلامات المرضية الخطيرة لحياة معتلّة أن تنقرض محلات بيع الزهور ، وتذبل الحديقة المنزلية وتختفي أصص الأزهار من شبابيك المنازل . وفي كل عودة لفادية - ومن ورائها الكاتبة - إلى معين الحياة المرجعي توقظ فينا غريزة الحياة والحب التي تبلدت وسبتت . فهذا مفتتح واحد من صباحاتها الذي تكشف فيه مواطن جديدة للجمال أمامنا لا يمكن أن نلتفت إليها ، في حديقة فادية حتى الديدان جميلة وعزيزة على الكنس :
(عادت العصافير والبلابل إلى التنطط وتبادل الأسرار والقهقهات .. وكان صندوق القمامة قد امتلأ بأكياس مكوّرة ومعقودة بإحكام . كنت أملأها كل يوم بورق وقداح الأشجار المتساقطة إلى الأرض . الديدان التي كنت أعثر عليها في الزوايا كانت أجمل من أن تجرفها المكنسة .. وبيوت النمل التي تشبه فتحاتها فوهات البراكين ، تشي بأن أربابها من أصحاب الذوق الرفيع .. والوحوش الصغيرة تتسلق سيقان الأشجار إلى أعلى تبحث عن قوت تأكله ، فتصبح هي قوتا لحمائم الحديقة وعصافيرها .. والعصافير أيضا قد تصبح قوتا للقطط ، وحياتها اللاهية في غير منأى من الخطر – ص 17 ) .
حتى المصائر المأساوية هنا تأتي ضمن سياقها ولا تخلف سوى إنجراحا عابرا في النفس . شتان بين أن يكون الموت مقدرا وفق قوانين الخالق ، وبين أن يكون مصنّعا بدوافع المخلوق السادية .
وقد انتقلت هذه العدوى المباركة من فادية إلى روح ياسر الذي أصبحت الطبيعة " أستاذته" وهو يتكوى بجحيم سجن بوكا الذي ألقي في زنازينه المظلمة ، وتحولت تهمته من تهديد مترجم يعمل مع الأمريكان إلى المشاركة في التمرد العراقي ضد الأمريكان :
(في الليل المحقق يضربني ، وفي النهار الطبيب يعطيني الدواء والفاكهة ، وأنا أكره الإثنين - ص 128 )
كما قال في (الورقة الرابعة) التي وصلت فادية من سجنه . ولكنه الآن قد طُعِمت أفكاره بلقاحات مناعة الطبيعة ، يستقي من قواعد سلوكها ما يحصّنه ضد الإنهيار والتشاؤم والنظرة القاتمة . صار سلوك (الورود) مرجعا يقيس عليه سلوكات البشر العدوانية ومنه يتعرّف إلى ملامح الأفعال السوية التي تشيع نسمات السلام والخير في أجواء هذه الحياة المختنقة . يقول ياسر في ورقته الثانية إلى فادية بعد أن يتحدث عن عذاباته وتذبذبات روحه المحاصرة في ظلمة الزنزانة :
(أنا الآن مثل ورودك التي تمدّ أعناقها للنافذة بحثا عن ضوء الشمس ، أقول لنفسي : هل القلب دليل صادق للأشواق ؟.. وهل الوردة ترى ما لا نرى من مكانها الثابت المستتب إلى أبد الآبدين ، بينما نحن الذين ازدحمت رغباتنا وتشاسعت مسافاتنا على الأرض ربما منذ أبينا آدم عليه السلام ولحد الآن ، تهنا وتقاطعت أقدارنا وتناثرت منها الدماء ؟ . أما بذور الوردة فإذا ما تقاطعت فلا يتناثر منها غير الورود .. قلتِ لي إن الوردة مهما كبرت وتفتّحت فلن تجد في داخلها غير الوردة . فهل يوجد في الجنة ورود ؟ قطعا هي ليست في النار – ص 128 ).
# حلول "طبيعية" لمعضلات مميتة :
وارتباطا بالحديقة وانطلاقا منها ، فإن الكاتبة توفر دائما مقتربا غير مباشر ومناور لتحقيق الهدف الثاني المكمّل الذي أشرنا إليه ، تقديم حل "طبيعي" بسيط وتلقائي مؤصّل يمكن أن نشتق منه الحل الإجرائي لمعضلات حياتنا المميتة . هذا هو واجب المبدع في هذه المرحلة النهائية والمنهية من تاريخ بلادنا،أن يعيدنا إلى مرجعيات "طبيعية" لسلوكنا بعيدة عن الحلول الآيديولوجية المصنّعة . حين يقول ياسر لفادية ملاحظته عن جمال نباتات الظل التي تميل برؤوسها جميعا نحو الشمس ، ويحصل انفجار مدوي في الخارج ، تعلّق فادية بجفاء:
( إذا كانت النباتات تعرف أين تكون الشمس وتميل إليها بشكل فطري ، كيف يحدث أن يرتج الإنسان فلا يعرف الضوء من الظلام ؟ - ص 84 ) .
لقد ارتجّ على الإنسان كلّ شيء .. ضاعت المقاييس .. واختلطت القيم .. وكشّر الوحش الرابض في أعماقه عن أنيابه .. وأصبحت بغداد لا تُعاش .. والناس يهربون من سفينتها المحترقة كالفئران .. ودخل أهلها الحلقة الجهنمية المفرغة :
( بغداد صارت فوضى ودمارا ، ولا يمكن لكل هذه الفوضى وهذا الدمار إلا أن يخلقا الفوضى والدمار – ص 135 ) كما يقول ياسر.