الشيب (في ديوان العرب)
الشيب
(في ديوان العرب)
أ.د/
جابر قميحةمن الحقائق التي حملها التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال : قولهم ( العرب أمة شاعرة ) ، وكذلك قولهم ( الشعر ديوان العرب ) . ولا عجب في ذلك فهم من أكثر الأمم شعراء ، وشعراؤهم من أغزر الناس شعرا .
وقد حفظ الشعر تاريخ العرب ، وعاداتهم وتقاليدهم : في أفراحهم وأحزانهم ، في منشطهم ومكرههم ، في سرائهم وضرائهمْ . فلا عجب أن يجعلوا الشعر مثلهم الأعلى تصويرا وتعبيرا .
عزيزي القارئ : عشنا حلقة الأسبوع الماضي من (ديوان العرب ) مع الشباب وحلاوته , ونضارته وطراوته , وتدفقه وفتوته . ولكننا – أثناء جولتنا في ( ديوان العرب ) , ما وقعنا على أبيات في الشباب إلا وجاورها , أو اقترن بها أضعافها من أبيات في الشيب والمشيب .
لذلك نعيش هذه الحلقة من ديوان العرب مع " الشيب " . وبهذه المناسبة هل نقول الشيب أم المشيب ؟
تقول معاجم اللغة : الشيب هو بياض الشعر , وهو كذلك الشعر الأبيض نفسه . أما المشيب فهو سن الشيب .
ويقال للرجل شائب وأشيب , ويقال للمرأة شيباء أو شمطاء .
ويرتبط الشيب بالشيخوخة أو خريف العمر , فهو بداية النهاية , ونذير صاخٌّ بمغادرة الدار الأولى .
ولكننا نلتقي في ديوان العرب بكثير من شُيَّاب الشعراء , الذين يرحبون بالشيب , ويجدون فيه مظهرا من مظاهر الحسن والجمال , زيادة على ما يرمز إليه من الاتزان والحكمة والوقار , وهم يوظفون ما يسمى في البلاغة بحسن التعليل لإقناع الآخرين بفكرتهم , مستعينين في ذلك بمظاهر الطبيعة من ليل ورياض وغير ذلك . يقول الشريف الرضي :
مسيري في ليل الشباب ضلالُ وشيبي ضياء في الورى وجمال
سواد ولكن البياض سيادة وليل ولكن النهار جلال
ويبسط البحتري هذه الفكرة في تصوير أجمل , وعبارة أوفى , وقد رأى حبيبته أم عمرو تنكر عليه ما ظهر في رأسه من شيب :
عـذلـتْنَا في عشقها أم عمرو ورأت لِـمَّـة ألـم بها الشيـ ولـعمري لولا الأقاحِى لأبصر وسـواد الـعيون لو لم يكمل أي لـيـل يـبهى بغير نجوم | هـل سمعتم بالعاذل ب فريعت من ظلمة في شروق تَ أنـيـقَ الرياض غير أنيق بـبياض ما كان .. بالموموقِ أو سـمـاء تندي بغير بروق؟ | المعشوق
وكان الخليفة المأمون كثيرا ما يتمثل يقول الشاعر :
رأت وضَحا في الرأس منِّي فراعها فريقان : مبيضٌّ به وبهيم
تفاريقُ شيبٍ في السواد لوامع فيا حسن ليل لاح فيه نجوم
***
ويشبه أحد الشعراء شَعره الأسود بالمسك , وشعره الأبيض بالكافور , وهما نوعان من الطيب , ولكن حبيبته التي حاول أن يوهمها بذلك كانت أذكى منه وأقوى عارضة , وأحضر بديهة .. فلتستمع لهذا الحوار اللطيف :
قالت : أرى مِسْكةَ الشَّعر البهيم غدت كافورة قد أحالتها يد الزمن
فقلت : " طيب بطيب . والتنقل في .. معادن الطيب أمر غير مُمتهن "
قالت " صدقت , وما أنكرت ذاك بذا المسك للشمِّ , والكافورُ للكفن "
***
ونلتقي بشاعر آخر أحضر بديهة من صاحبته في الحوار الموجز التالي :
قالت وقد راعها مشيبي " كنت ابن عم فصرت عما "
فقلت مهلا , وأنت أيضا قد كنت بنتا فصرت أُما "
***
ونظر كثير من الشعراء إلى الشيب كرمز لبعض القيم والفضائل الإنسانية والخلقية والنفسية والعقلية : فالشيب هو " الواعظ " الذي يجب أن نأخذ أنفسنا عمليا بمواعظه على حد قول الشاعر :
ما نازِل الشيب في رأسي بمُرتحل عني , وأعلم أني عنه مُرتحل
من لم يعظه بياض الشعر أدركه في غُرَّة حتفه المقدورُ والأجلُ
***
والشيب عفة وتصون , وإلا كان عارا على صاحبه :
إذا ما الفتى لم يكسه الشيب عفة فما الشيب إلا سُبَّه للأشايب
والشيب عظمة وجلال وإكرام كما يراه ابن الرومي :
أصبحت شيخا له سمت وأبهة يدعونني البيض عما تارة وأبا
وتلك حالة إجلال وتكرمة وددتُ أنني معتاض بها لقبا
***
ولكن هل يعتبر الشيب دليل قاطعا على بلوغ الشيخوخة أو خريف العمر ؟
- الحقيقة أن هذا هو الأصل , ولكن وجود الأصل لا ينفي وجود الفرع – كما يقول المناطقة – فهناك ما يمكن أن يسمى " بشيب المواقف " أو " شيب الأحوال " وهو شيب يزحف إلى الرأس في سن الشباب بسبب ما يعانيه الشاب في هذه السن , وما يصادمه من مصاعب ونكبات , وما يغشاه من هموم وأحزان .
وفي ذلك يقول أبو فراس الحمداني :
رأيت الشيب لاح فقلت أهلا وودعتُ الغواية والشبابا ..
وما إن شبْت من كبر .. ولكن رأيتُ من الأحبة ما أشابا
بعثن من الهموم إلى .. ركبا .. وصيرن الصدود لها ركابا
وفي نفس الفلك يدور الشاعر علي بن المقرب العُيوني :
وما شبتًُ من سنٍّ مضت , بل أشابني صروف الليالي والخطوب الفوادح
لعشرين لاح الشيب فيَّ , وأوجفت علي خيول المرزئات الضوابح
***
ولكن أبا فراس الحمداني يبسط الفكرة , ويلح عليها بتصوير أبرع , وتعبير أكثر إيحاء وأقوى دلالة وتأثيرا فيقول :
ومـا زلت على العشرين وما استمتعت من داعي التصابي أيـا شيبي ظلمتَ ! ويا وقاري يُـرحـل كـل مـن يأوي إليه أمـرتُ بـقصّه , وكففت عنه وقـلـتُ الشيب أهون ما ألاقي | سنيفـما عذر المشيب إلى إلـى أن جـاءني داعي الوقار لـقـد جـاورتُ منك بشر جار ويـخـتـمـها بترحيل الديار وقـرَّ عـلـي تحمله .. قراري مـن الـدنـيا وأيسر ما أداري | عزاري
***
ومن أبيات البارودي التي نظمها في منفاه سرنديب , وفيها يصور بصدق ودقة البصمات والآثار السيئة التي تركها " الشيب " على جسده ونفسه وفكره :
كيف لا أندب الشباب وقد أخـلَـقَ الشيب جدتي وكساني ولـوى شعر حاجبي على عيـ لا أرى الـشيء حين يسنح إلا وإذا مـا دعـيـت حرت كأني كـلـما رُمت نهضة .. أقعدتني لـم تـدع صولة الحوادث مني | أصـبـحت كهلا في محنة خـلـعـة مـنـه رثَّة الجلباب نـي حـتـى أطلّ .. كالهُدَّاب كـخـيال .. كأنني في ضباب أسمع الصوت من وراء الحجاب ونـيـة , لا تُـقِـلها أعصابي غـيـر أشـلاء همة في ثيابِ | واغتراب
***
ويبدي الشريف الرضى فزعة الدائم من الشيب , وينكر ما جمَّلوه به وحسنوه :
غالطوني عن المشيب وقالوا لا تُرَع . إنه جلاء حسام
قلت ما أمن من على الرأس منه صارم الحد في يد الأيام ؟
***
ويقول الشاعر أبو دلف في بياض اللحية :
تكوَّنني همّ لبيضاء نابته لها بغضة في مضمر القلب ثابته
ومن عجب أنني إذا رمتُ قصها قصصت سواها وهي تضحك نابته
ويقول ابن المعتز :
فظللت أطلبُ وصلها ، بتذلل والشيب يقمزُها بأن لا تفعلي
ولشعور الشائب بوطأة الشيب , وتشبثه بالشباب , يلجأ إلى تحويل بياض شعره إلى سواد أو ما يقارب السواد , وذلك باستعمال " الخضاب " , والخضاب هو " الحناء " أوما شابهها من صبغ أسود للشعر . ولكن هذه الوسيلة غير ناجعة لعدة أسباب هي :
1 أن هذا الخضاب يتغير وينصل لونه بعد عدة أيام , فهو لا يثبت شهورا أوسنوات
2 ولو فرضنا جدلا ثبوته , فإن جذور الشعر تفضح ما تلاها . إذ أن هذه الجذور تنمو بيضاء بلونها الأصيل بعد يوم أو يومين .
3 وللشيخوخة – وهى سن المشيب – مظاهر متعددة لا يمثل الشيب – أي بياض الشعر إلا واحدا منها , فلو تغلب الإنسان على بياض شعره بالخضاب فلن يتغلب على وهن الجسم وسقم البدن , وضعف النظر , ومحدودية التحمل .
يقول أحد الشعراء :
قالت " أراك خضبت الشيب " قلت لها: " سترته عنك يا سمعي , ويا بصري "
فقهقهت . ثم قالت من تعجبها . . . . " تكاثر الغش حتى صار في الشعر "
وأبلغ من ذلك قول ابن الرومي مساخرا من المخضبين :
يأيها الرجل المسوِّد شيبه كيما يُعَد به من الشبان
أقصر . فلو سودت كل حمامة بيضاء ما عُدَّت من الغربان
***
نعم فالواقع المر في الخريف من العمر لا يطمس بالسواد أو غيره لأن الشواهد ... أو شهود الإثبات على وجوده يفوقون في الكم والكيف شهود النفي كما يقول رجال القانون :
يقول ابن الرومي :
رأيت خضاب المرء عند مشيبه حدادا على شرخ الشبيبة يلبس
وهبه يواري شيبه . أين ماؤه وأين أديم للشَّبيبة أملس
***
ومرة أخرى يلجأ بعض الشعراء المخضبين أو المسودين إلى " حسن التعليل " , ويقصد به في البلاغة تعليل العمل أو الظاهرة تعليلا لا يتفق مع الواقع , ولكنه مستجاد في الحس , مستحسن في الشعور . فذهب هذا الصنف من الشعراء إلى أنهم لم يسودوا لحاهم وشعرهم غشا ومخادعة للحسان , ولكنهم بهذا الخضاب ألبسوا لحاهم وشعرهم ثوب حداد على فقيد اسمه ( الشباب ) .
يقول الشاعر الأفوه الكوفي :
فإن تسأليني ما الخضاب فإنني لبست على فقد الشباب حدادا
ومثله لأبي سهل النوبختي :
لم أخضب الشيب للغواني أبغي به عندها ودادا
لكن خضابي على شبابي لبست من بعده حدادا
ونختم هذه الحلقة بأبيات نظمها جابر قميحة يخاطب بها أبا أيوب الأنصاريرضي الله عنه ، وهي من مطولته الملحمية " حديث عصري إلى أبي أيوبالأنصاري " .
إنه المسلمُ حقًا سيفُ حقٍ أو شِهابُ
في سبيل الله يحيا ، لا نفاقٌ لا كِذابُ
مصحف يمشي , عليه من تقى الله ثيابُ
سيفُهُ إن يَبغِ باغٍ هو للباغي عِتابُ
هكذا كنتم - أبا أيوبَ والغرُّ الصحابُ
دررًا زانتْ جبينَ الدهْرَ شيبٌ وشبابُ
شابَ فَوْداكَ من الدهر وما في الشيبِ عابُ
لم يكن يُحْسَبُ بالسنِّ مشيبٌ أو شبابُ
ليسَ بالشبانِ من هانُوا إذا حطَّت صِعابُ
***
لقد عشنا حلقاتين على مدى أسبوعين .. في ( ديوان العرب ) مع الشباب والشيب , ورأينا وجهين متقابلين لكل منهما , تبعا للزاوية التي ينظر منها الشاعر , فلكل رؤيته الخاصة التي يصبغها بشعوره , ويمزجها بإحساسه ..
وبعد هذه المسيرة .. هل من حقك أن تسألنا أو من حقنا أن نسألك أيهما أفضل :
الشباب أم المشيب ؟... قد تعتقد – يا عزيزي القارئ أن الإجابة بديهية لا تحتاج إلى عناء أو تردد.. ولكن الواقع الحق يقول : إن الترجيح يعتمد على ما في كل من المرحلتين من عزم وصدق وعمل ونشاط وتوثب , وليس على بياض شعر أوسواده , وعلى هذا الأساس العادل يمكن تصنيف الناس إلى شياب وشيوخ , أو شباب وشياب ....
لقد مضى الوقت مع الشباب والشيب ... فنقول لك وداعا إلى أن نلتقي مع حلقة جديدة من ( ديوان العرب ) .