أقنعة الزمن السردي
أقنعة الزمن السردي
مدخل نقدي لمجموعة ( لا مكان للغريب ) لناديا خوست (*)
د.محمد سالم سعد الله
إن كان انفتاح النص يدعو إلى تأويله ، وإن كان تشكل السرد يوحي بتجليات دلاليـة كبيرة ، فإن ماهية الزمن ستخفي تماثلها من نص روائي لآخر ، ومن هنا ستظهر طرق التعامل مع الزمن الروائي الذي يتسم بمشاكسته نظراً لمرجعياته التي قد تكتمل هنا وتغيب هناك ، فتوظيف الزمن لم يعد ساذجاً كما كان بالأمس ، والناص لم يعد يهمه الزمن بقدر اهتمامه بتشكيله ، وهو يعكس وجود الإنسان انطلاقاً من : ( أنا موجود إذن أنا زمني ) ، وهذا الوجود لا يتسم بالانعكاس التلقائي للزمن على سبيل التسليم والانقياد لنشاطاته اليومية ، بل يتسم بخصوصية التعامل مع الترويض الحاصل للزمن على سبيل تحقق إمكانيات ملء الفجوات المعرفية التي مني بها الإنسان ، تلك الفجوات التي قسمت زمنه بين زمن ملتف بعباءات عصور بالية وزمن عار يتطلع للاكتساء بتشكلات حاضرة ، وبين هذا الزمن وذلك يقف الإنسان ممسكاً بزمنه ، متأنياً تارة ومتأهباً تارة أخرى استعداداً لاستغلاله .
يتوقف تشكيل الزمن الروائي على مقدار معرفة ناصه في إدراك العلاقات القائمة بين الشخوص ، والفواعل ، والأمكنة ، والحوادث … ، وتلك المعرفة تتطلب دوراً مزدوجاً في ثنائية الحضور والغياب ، دور يقوم به الروائي في تسجيل الزمن ودور يقوم به النص في تشكيله .
أنّ سردية الزمن الروائي تتطلب الحديث عن زمنين : زمن للكتابة وزمن للتشكل ، يقتضي الزمن الأول مجموعة عمليات لملء فضاء الكتابة ، والحشد التظاهرات النظامية لبناء النص الروائي ، في حين يتطلب الزمن الثاني تضمين علامات نصية عدة يتم بوساطتها تقييم المعطيات الزمنية التي تنسج العمل الروائي كلّه ، وقد تتضمن إشارات زمنية صريحة تحيل إلى الزمن الفيزيائي المتداول ، وقد تحيل إلى إشارات زمنية كثيفة تدعو إلى تحليلها واستنباط مدلولاتها .
إنّ الحديث عن الزمن السردي له شجون مختلفة وإمكانيات في استباق الأحداث واسترجاعها للإمساك بخيوط جمالية السرد ، ولهذا يقترح ( جيرار جينيت ) دراسة ذلك من خلال دراسة تقنيات الزمن : ( الخلاصة ، الاستراحة ، القطـع ، المشهد ، التناوب ، الانتقال ، الاستغـراق ، المسافـة ، الصيغـة ، الحدث ، المنظـور ، التبئير ) ، ويطلق ( جينيت ) تسمية : ( الترتيب الزمني ) لنظام ترتيب الأحداث ، أو المقاطع في الخطاب السردي من خلال نظام تتابع هذه الأحداث ، أو المقاطع الزمنية نفسها في النص .
إنّ الزمن الذي يضفي على تشكله طبيعة نظامية ، هو زمن القص الذي يوظفه السارد على مستوى التداخل بين مستوى الزمن ومستوى الشخصية ، هذا التداخل يؤدي إلى التداخل الوظائفي بين مدلولات الزمن ، ومدلولات حضور الشخصية في عملية القص ، ويقود أيضاً إلى إضفاء الجو الدرامي الحركي على تشكل دوال النص .
إنّ في مجموعة : ( لا مكان للغريب ) تشكلات للزمن توحي بمستويات عدة للتلقي ، على صعيد السلب والإيجاب ، فعند إجراء مدخل نقدي لصياغة العنوان ، يمكن الوصول إلى نوعين من الزمن :
الأول : زمن متوقف .
الثاني : زمن حركي .
يلف الزمن الأول العمل السردي ويكون غالبا ، فعناوين مثل : ( لا مكان للغريب ، الحب القديم ، موجة الشمال ، لو تكلم الموتى ، الوحيدة ، العجوزان ، متر في مترين ، .. ) توحي بالزمن السردي السلبي ، فالغرابة والقِدم والموجة والموتى والوحدة وكبر السن وصغر مكان العيش ، تعطي مساحة دلالية موحية بصبغة الزمن المشكل .
وهذا الزمن هو الزمن الإنساني ـ حسب تعبير هانز ميرهوف ـ ، وهو وعي الذات للتجربة ، ودخول نسيج الحياة الإنسانية والبحث عن معناها ، وهو وطيد الصلة بالأنا التي تسعى لاكتساب صيرورتها في التعبير ، وهو كينونة معرفة الذات بجوهرها ، بغيرها ، بزمنها ، وهذا بالطبع يدخل ضمن إطار عالم الخبرة ، التي تتمتع به الأنا المقدمة على الزمن .
وإذا كانت العنوانات السابقة قد أعطت مدلولات سلبية للزمن ، فإن وعي السارد في عملية القص والتتابع السردي ، يتكفل بنقل ذلك التشكل من خلال مستويات السرد وتنوع أصواته .
إن مجموعة : ( لا مكان للغريب ) هي مجموعة سردية زمنية ، تقدم الحدث ملتبسا بزمنه المُشكّل ، وتبدأ مفاصل قصصه بنسيج ، يكاد أن يكون متواترا بينها ، إذ تبدأ عملية السرد بحدث استهلالي يمهد لتأزم ظروف السرد ، حتى يصل إلى نقطة ارتكاز القص ، ثم يبدأ بالانحدار ، إلى أن يصل لنهاية مفتوحة ، لا تقدم الحل بقدر تقديمها المشكلة متفاقمة ، تكتسب صفة الأبدية .
إنّ الأسلوب الذي نسجت به مجموعة : ( لا مكان للغريب ) يعطي تصورات سيميائية حول طبيعة السارد ، الذي يعاني ـ من خلال مجريات الأحداث ـ من حرمان نفسي على صعيد امتلاك الزمن ، وعلى صعيد العلاقة مع الفواعل والشخوص ، ومن اللافت للنظر أن الشخصية في هذه المجموعة ، لا تكاد تظهر إلا من خلال صوت السارد ، الذي منح نفسه صفة ( العليم ) بالأحداث والمسيّر لها ، ونتيجة لذلك لم تستطع الشخصية الاحتفاظ بالحدث بقدر تمثلها له ، ونتيجة لذلك أيضا شغل السارد موقعا مميزا في عملية القص ، بوصفه حاملا لنسيج خيوط السرد ، وهو القادر على إظهار دلالية الشكل ، فضلا عن دوره في التمركز حول القول ، وتمثل دلالته .
انطلاقاً من ذلك يمكن القول : إنّ أهمية الراوي لا تنحصر في توجيه السرد وإلغائه ، بل إنّ وظيفته تتعدى ذلك لتصل إلى أهمية التشكل وتحديد الوظائف ، ويدخل التشكل في ميادين مختلفة بدءاً من التشكل النحوي إلى الدلالي ، وصولا إلى التشكل الكلي ، الذي يحدد هوية العمل الإبداعي ، فضلا عن أهميته في عملية تمثل الزمن وصياغته .
(*) لا مكان للغريب ، ناديا خوست ، إتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، 1990 .