الوحشيات ...
أ.د/
جابر قميحةمن الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسَرَتْ مَسْرى الأمثال قولهُم: "العرب أمة شاعرة" وكذلك قولهم "الشعرُ ديوان العرب". ولا مبالغةَ في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم.
**********
عزيزي القارئ: في الحلقة السابقة من ديوان العرب عشنا مع حماسة أبي تمام ، وهي ( الحماسة الكبرى ) ، ونعيش هذه الحلقة مع ( الحماسة الصغرى ) ، وهي تسمى ( بكتاب الوحشيات ) .
والحماسة الصغرى أو الوحشيات تشبه الحماسة الكبرى من عدة وجوه منها :
كثير من المختارات لشعراء مغمورين .
تقسيم المختارات إلى أبواب .
ولكن الحماسة الصغرى أقل من الحماسة الكبرى فيما جمعت من الشعر .
وهي دون الكبرى في حسن الاختيار ، وجودة الانتقام .
وبدل باب ( السير والنعاس ) في الحماسة الكبرى أحل أبو تمام بابا باسم
( المشيب ) .
والحماسة الكبرى ظهرت ورويت في حياة أبي تمام ، أما الصغرى فوجدت
بعد موته مُسوَّدة بخطه معنونة ب ( كتاب الوحشيات ) .
ولكن مات معنى هذا العنوان الغريب ؟
فلنعرف أولا أن معنى الوحش لغة : كل حيوان يستوحش عن الناس ، أي
ينفر منهم ، كالغزال والنعامة والأسد .
وقد سمى أبو تمام المقطوعات التى جمعها بالوحشيات ، أي التى لم يعرفها
الناس ، أو لم تشع بينهم ، فهي أوابد وشوارد لا تعرفُ عامة ، وأغلبها للمقلين من الشعراء أو المغامير منهم ، أي غير المشهورين .
**********
وها قد آن الآوان أن نعيش مع بعض المختارات من كتاب الوحشيات ، أو الحماسة الصغرى ، بادئين بباب الحماسة .
فمن أبيات الحماسة التى تلبست بالحكمة الأبيات التالية للشاعر ابن براقة الهمذاني :
متى تجمع ِ القلبَ الذكي وصارما ومـن يطلب المال الممنع بالقنا وكـنت إذا قوم غزوني غزوتهم فلا صُلح حتى تقدع الخيل بالقنا إذا جـر مـولانـا علينا جريرة ونـنـصـر مولانا ، ونعلم أنه | وأنـفـا أبـيـا تجتنبك يـعشُ مثريا أو تخترمه المخارم فـهـل أنا في ذا يا لهمدان ظالم وتضرب بالبيض الخفاف الجماجم صـبـرنـا لها ؛ إنا كرامٌ دعائمُ كـما الناس مجرومٌ عليه وجارم | المظالمُ
**********
ونرى أبا الحيال الباهلي يفخر بقومه وقوة ضرباته ،بصورة فيها إغراق في المبالغة ، فيقول :
كأنهم ليل إذا وفـارسٍ جللته ضربة فـصار ما بينهما رهوةً | استنفرواأو لـجة ليس لها فـبان عن مَنكِبِهِ الكاهلُ يمشي بها الرامح والنابل | ساحل
**********
ويصور "المتلمس" سوء معاملة أخواله له ، وكيف أن هذه القرابة القريبة تمنعه من الانتقام منهم ، فيقول :
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ومـا كـنت إلا مثل قاطع كفه يـداه أصـابت هذه حتف هذه فلما استقاد الكفَّ بالكف لم يجدُ فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى | جـعلت لهم فوق العَرانِين بـكف له أخرى ، فأصبح أجذما فـلـم تجد الآخرى عليها مقدَّما لـه دَرَكـا فـي أن تبينا فأحجما مـسـاغا لنابيْهِ الشجاعُ لصمما | مِيسَما
*********
وفي باب المراثي نلتقي ب " جليلة بنت مُرة " التى قتل أخوها جساسُ زوجها كليبا ، فعاشت مأساة الترمل ، وعاشت مأساة الترقب ، فحياة أخيها القاتل تذكرها بدم زوجها ، وقد ضاع هدرا، والأخذ بالثأر من أخيها بقتله يجعل المأساة مأساتين .
ومن قصيدة طويلة لها تقول :
جـل عندي فعل جساس فعل جساس على وجدي به يـا قـتيلا قوضت صرعتُهُ قوضت بيتي الذي استحدثته ورمـانـي قـتله من كثب دَرَكُ الـثـائر يشفيه . وفي إنـنـي قـاتلة ... مقتولة | فياحسرتي عما انجلت أو تنجلي قاطع ظهري ، ومُدْن ٍ أجلي سـقف بيتيَّ جميعا من عل ِ وانـثنت في هدم بيتي الأول رمية المُصْمَى به المُسْتأصَل دركـي ثـأريَ ثكلُ المُثكِل ِ ولـعـل الله أن يـرتاحَ لي |
**********
وفي باب الأدب يشدنا الشاعر " العرجي " ، وهو يفخر بقيم إنسانية واجتماعية . فيقول :
ولا بُـعـدي يغير حال ولا عند الرخاء أطوف يوما ولا يـغدو عليَّ الجارُ يشكو ومـا الـدنيا لصاحبها بحظ إذا ما الخصم جَارَ فقل صوابا فـإنـي لا يغول النّأيُ ودي | ودِّيعـن العهد القديم ولا ولا فـي فـاقـة دَنِسٌ ثيابي أَذَاتِـي مـا بقيتُ ولا اغتيابي سوى حظ البنان من الخضاب فـإن الـجَوْرَ يُدْفعُ بالصواب ولـو كـنـا بِمنْقَطِع التراب | اغترابي
*********
ومن أرق ما عثرنا عليه في باب النسيب قول أحد الشعراء :
أعيْنَيْ مهاةِ الرمل عني أغار على نفسي لها وتغارُ لي عـلى أننا لم ندْنُ يوما لِريبَةٍ أعيْنَيْ مهاةِ الرمل هلاَّ رحمتما | إليكماعـلـيَّ لِـرَيَّا بالمعيبِ عـلى نفسها إن الهوى لعجيب ولا مـثـلنا فيمن يَريبُ يَريبُ شـبـابي وأني بالفلاةِ غريبُ | رقيبُ
**********
وفي باب " السماحة والأضياف " يمدح " بكر بن النطاح " صاحبه لكرمه الفياض ، فيقول :
كريمٌ إذا ما جئتَ للخير ولولم يكن في كفِّه غيرُ روحِهِ | طالباحَـبَاكَ بما تحوي عليه لـجـادَ بها . فَليتق الله سائلُهْ | أناملُهْ
**********
وفي هذا الباب يقدم لنا الشاعر " أبو الجويرية عيسى بن أوس " صورة جامعة وافية الملامح لممدوحيه فيقول :
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم أو خـلَّد المجدُ أقواما ذَوِي كرم قـومٌ أبـوهم سنانٌ حين تنسبُهم إنـسٌ إذا أمِنوا ، جن إذا فَزعُوا مُـحسَّدون على ما كان من نعم | قـومٌ بـأولِـهم أو مجدِهم مـمـا يـحاذَرُ من آجالِهِم خَلَدُوا طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا بيضٌ مَصاليتُ ، أيسارا إذا جُهِدُوا لا يـنـزعُ الله عنهم ماله حُسِدُوا | قعدُوا
ونختم مسيرتنا في كتاب الوحشيات بالأبيات التالية لأبي العتاهية ، وهي من باب المشيب :
فـيا أسَفَى ! أسِفتُ على عَريتُ من الشباب وكنت غضا فـيـالـيتَ الشبابَ يعودُ يوما | شبابنـعاه الشيبُ والرأسُ كـما يَعْرَى من الورق القضيب فـأخـبـرَه بـما فعل المشيبُ | الخضيبُ