حماسة أبي تمام
(في ديوان الشعر العربي)
أ.د/
جابر قميحةمِنَ الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرت مسرى الأمثال، قولهم: "العربُ أمةٌ شاعرة". وكذلك قولهم: "بالشعر ديوان العرب". ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم.
**********
عزيزي القارئ : نعيش مع حماسة أبي تمام أي (ديوان الحماسة) الذي يجمع بين دفتيه قرابة أربعةِ آلاف بيت، اختارها أبو تمام: حبيبُ بن أوْسٍ الطائي منْ أشعارِ العرب، لعشراتٍ من الشعراءِ في أغراض مختلفة .
وقد قسَّم أبو تمامٍ هذه المختارات الشعرية إلى عشرة أبواب هي:
بابُ الحماسة ـ باب المراثي ـ باب الأدب ـ باب النسيب ـ باب الهِجاء ـ باب الأضيافِ والمديح ـ باب الصفات ـ باب السَّيْرِ والنُّعاس ـ باب الملح ـ وأخيرًا باب مذمَّةِ النساء.
إنّ أبا تمام يُعدُّ من أشهر شعراء العصر العباسي مع انه لم يعش إلا قرابة أربعين عامًا من سنة 190 إلى سنة 231 هجرية وهو صاحب مذهب فني ملأ الدنيا، وشغلَ الناس.
لكنْ ما الذي دفَعَ أبا تمام إلى جمع هذه الأشعارِ في ديوان واحد؟
إن الفضلَ الأول في ذلك يرجع إلى الثلج.. نعم إلى الثلج:
فالتاريخ يروي أن أبا تمام قصد عبدَ الله بن طاهرٍ بخُراسانَ فمدحه، فلما لم يجدْ الحظوة التي كان يتطلع إليها تركه إلى العراق، وفي طريقه مرَّ بهمَذَان، وفي هذه الأثناء هَطلَ ثلجٌ غزير" عظيمٌ قَطعَ الطريق، فاستبقى أبو الوفاء أبا تمام عنده، وهو سعيدٌ بذلك، ومَكنَهُ بنْ خزانة كتبه، وكانتْ غنيةً عامرة، فأخذ أبو تمام يقرأ ويُصنِّف، فاختارَ من أشعارِ العرب ما رأى أنه أحسُنها وأجملها جَمَعَهُ في ديوان واحدِ سمَّاه (الحماسة) . واستغرق باب الحماسة من الديوان قرابةَ ثُلثْه، فهوَ أطولُ الأبواب.
ـ أو لأنَّ الحماسةَ جاءتْ أولَ الأبواب ترتيبًا.
ـ أو لأنَّ الحماسةً لها مكانةٌ رفيعة عند العرب فهي تعني الشجاعة، والقوةَ والثباتَ والمنعة.
**********
وقد آن لنا ـ يا عزيزي القارئ ـ أن نعيش مع قُطوفٍ من حماسة أبي تمام:
قال الحارثُ بن وَعْلَةَ الجَرْمِي:
قَوْمِي هُمُ قَتَلُوا أُمَيم أخِي فإذا رمَيْتُ يُصيـبني سَهْمـي
فلَئِنْ عَفَوْتُ لأَعْفُوَنْ جَللاً ولَئِنْ سَطَوتُ لأُوهِنَنْ عَظْمِي
وفي المعنى نفسه يقولُ أعرابيٌُّ قَتلَ أخوه ابنًا له:
أقولُ للـفسِ تأساءً وتعزيـةً إحدى يديَّ أصَابتْني ولَمْ تُـرِدِ
كِلاهُما خَلَفٌ مِنْ فقْدِ صاحبهِ هذا أخي حيَن أَدْعُوهُ وَذَا وَلَدِي
وقال بَشَامةُ بنُ حَزْن مفتخرًا بنفسه وقومه:
ولـقـدْ غضبْتُ لخندفِ ولقيْسِها |
لـمـا وَنَى عن نَصْرِها |
وقال عبيد بن ماوية الطائي:
أًلاَ حَيِّ ليْلَى |
ورَمْـلَـةَ ريَّا |
**********
وما سبق كان بعض القطوف من باب واحدٍ هو بابُ الحماسة: أول الأبوابِ وأطولها، وهي وغيرها يدل على أن أبا تمام، قدْ جعل من الحماسة مفهومًا يتسع للغزل واللوم، والمدح، ، والإخوانيات، وإنْ كانتْ الحماسةُ هي المنطلقً الأساسي لكلِّ هذه المعاني.
ونلجُ بابَ المراثي لنلتقي بالشاعر متمم بن نويرة، الذي ظل يبكي أخاه مالكًا طيلة حياته، وبلغ من حزنه أنه كان يبكي على أي قبر يراه، فلما لاموه على هذا الإسراف قال:
لقدْ لامني عندَ القبورِ على البُكا |
رَفيقي لتذْراف الدموعِ |
وفي باب الأدب "نلتقي بشاعرة شريفة مخضرمة هي حرقة بنت النعمانِ بن المنذر، وهي تتحدث عن تقلب الدنيا وعدم ثباتها على حال، فتقول:
بينا نسوس الناسَ والأمرُ أمرُنَا |
إذا نـحنُ فيهمْ سوقةٌ |
**********
ومن باب النسيب نلتقط الأبياتَ التاليةَ لأحدِ الشعراء، لما فيها من حُوارٍ داخلي جذاب:
وكلُّ مُصيباتِ الزمانِ وَجَدْتُه سوى فُرقَةِ الأحبابِ ـ هينةَ الخطْبِ
وقلتُ لقلبي حينَ لجَّ به الهَوَى أفِقْ لا أقـرَّ اللهُ عيْنَك من قَلـْبِ
**********
وفي باب (الأضياف والمديح) نسمع حوارًا بين زوج من آل حرب وزوجته: إنها تلومه على إسرافه في كرمه، وهو يدافع عن عمله هذا شافعًا دفاعه بالأسباب والحيثيات.
يقول الشاعر:
باتتْ تلومُ، وتَلْحاني على |
عُـوِّدتُهُ عادةً. والجودُ |
**********
وهذه أبيات من باب (المُلحَ) . والمُلحَ جمع مُلحة، وتعني الشعرَ الطريف الفكه. ومنه قول أحدهم، وهو يرى الطعام أهم من الحب وتذكر الأحباب:
أَنِخْ فاصطبح قرصًا إذا اعتادك الهَوَى |
بـزيـتٍ، كـما يكفيكَ فقْد |
وقريب من هذا المعنى ما نراه في البيت التالي لشاعر آخر:
**********
إن حماسة أبي تمامٍ تعد أهمَّ اختيار شعري في التاريخ الأدبي، فلا عجبَ أن يتوفر عليها الشراح، حتى زادت شروحها على ثلاثين شرحًا، من أهمِها وأشهرِها شرحُ أحمد بن محمد المرزوقي وشرح الخطيب التبريزي.
ـ ويحلو لبعض القدامى أن يسمي هذا الديوان الذي جمع آلاف الأبيات من الشعر العربي بالحماسة الكبرى.
ـ نعم ... لأبي تمام تجميع شعري اسمه الحماسة الصغرى، أو (كتابُ الوحشيات).