الإمام حسن البنا والشاعر عمر الأميري

الإمام حسن البنا والشاعر عمر الأميري

الإمام الشهيد حسن البنا

عمر بهاء الدين الأميري

أحمد الجدع

كانت شخصية حسن البنا آسرة، لا يقابله رجل ويستمع إليه إلا أقنعه بما يدعو إليه، أو أثار إعجابه واحترامه، يشهد على ذلك كتابات الذين اتبعوه وآمنوا بدعوته والذين استمعوا إليه ولم يدعوا بدعوته، كلهم أجمع على احترامه والإشادة بأخلاقه وسحر بيانه.

وممن قابل البنا وأحبه ونادى بدعوته الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري، فقد حمل هذا الشاعر الكبير فكر الإمام البنا إلى القطر السوري ، ونادى به وعمل له.

ولأن الأميري شاعر تسبق العاطفة إلى وجدانه فقد دفعه حبه للإمام إلى الإشادة به شعرا ، وقد نشر قصيدته التي أشاد فيها بالإمام الشهيد ودعوته في العدد الثاني من مجلة "المسلمون" التي صدرت عام 1948م، وكان صاحب امتيازها الإمام الشهيد ومدير تحريرها الداعية سعيد رمضان، وقد توقفت هذه المجلة عن الصدور بمصر باستشهاد صاحب امتيازها.

القصيدة لا تجدها في دواوين الأميري المطبوعة  ، لهذا فهي تعد من نواد القصائد الإسلامية المعاصرة، وأحب هنا أن أثبتها كاملة كوثيقة تاريخية من وثائق الدعوة الإسلامية المعاصرة ، لا بد أن تعرض على من يعمل على كتابة التاريخ الأدبي لهذه الدعوة التي أمتد تأثيرها إلى كل الأقطار على امتداد الكرة الأرضية.

يقول الشاعر عمر بهاء الدين الأميري واصفاً الإمام البنا([1]):

أنت لو أبصرت في
أو لمست عقله
أو سمعت جرسه
أو رأيت خلسة
مشفقاً مستبشراً

 

غور همِّ بسمته
وهو يهدي حكمته
وهو يدعو دعوته
في صلاة وقفته
كم يغالب عبرته

$           $          $

أو تأملت على
من كريم عاثر
ومصاب بأذى
لعشقت روحه

 

أهل خطب عطفته
جد يمحو عثرته
راح يأسو كربته
صاغ منها رحمته

$           $          $

ثم لو شمت إذا
وإذا الداعي دعا
وعلى الباغي على
قلت هذا قسور
وهو في الواقع شهم

 

جد جد عزمته
لجهاد همته
أي حق غضبته
هاج يزجي ضربته
ثار يحمي أمته

$           $          $

صيحة الأجداد في
وأنين المجد  في الأصفاد
إنه صورة شعب
إنه جيل من الإسلام
أنت لو أبصرته
بشر من ملك

 

الأحفاد حاكت صيحته
أورى ثورته
هب يغزو وثبته
يبني نهضته
لقدرت قدرته
قد تلقى فطرته

فالإمام البنا يبتسم حين تشتد المحن وتتعاظم الهموم، إنه ابتسام الوائق من ربه، ومن قدرة الله على تفريج الكروب وجلاء الهموم.

والإمام البنا – على صغر سنة- ذو حكمة بالغة، أنضجها مبكراً هذا العقل الكبير الذي وهبه الله له .

ولقد وهب الله الإمام البنا صوتاً ساحراً متقبلاً، يدفع السامعين إلى الإنصات له وهو يدعو إلى ما آمن به.

وكان البنا كثير الصلاة كثير القيام ، إذا نظرت إليه في صلاته وجدته خاشعاً باكياً ، يغالب العبرات وهو متفكر في قدرة الله ،داعياً أن يعينه على المهمة التي حملها  لبعث أمة الإسلام من مرقدها .

أنت لو أبصرت في
أو لمست عقله
أو سمعت جرسه
أو رأيت خلسة
مشفقاً مستبشراً

 

غور هم بسمته
وهو يهدي حكمته
وهو يدعو دعوته
في صلاة وقفته
كم يغالب عبرته

ثم إن البنا لا يشغله شاغل عن مواساة ذوي الخطوب والنوازل ، فهو مع أهل الكرم الذين تصيبهم العثرات، يقيل عثراتهم ويقف إلى جانبهم، وهو إذا رأى مصاباً (بأذى) راح يواسيه ويعمل على مداواة جراحه ومآسيه.

هذه الصفات التي تحلى بها الإمام هي التي تحبب الخلق به وتدفعهم إلى الإيمان بدعوته.

أو تأملت على
من كريم عاثر
ومصاب بأذى
لعشقت روحه

 

أهل خطب عطفته
جد يمحو عثرته
راح يأسو كربته
صاغ منها رحمته

هذا الرجل العابد، وهذا الرجل المواسي ، أسد إذا جد الجدّ واشتد الخطب، لا ينام على ضيم ولا يسكت على بغي ، إنه الأسد الهصور في حماية أُمته وفي الدفاع عن حقوقها:

ثم لو شمت إذا
وإذا الداعي دعا
وعلى الباغي على
قلت هذا قسور
وهو في الواقع شهم

 

جد جد عزمته
لجهاد همته
أي حق غضبته
هاج يزجي ضربته
ثار يحمي أمته

إن دعوة الإمام ما هي إلا دعوة الأجداد في الأحفاد ، تجسمت في هذا الرجل الرباني، وما هي إلا صدى هذا الأنين الذي ينطلق من أولئك الذين صفدوا حتى لا يهبوا أو ينطلقوا لأهدافهم النبيلة، إنه آمال شعب تجسمت في شخصه.... في دعوته، إنه يمثل جيلاً كاملاً من هذه الأمة التي انطلقت تبني نهضة الإسلام المعاصرة.

إنك لو تمثلت مجموع هذه الصفات التي تحلى بها الإمام لأدركت أن هذا الإنسان قد صيغ في أخلاقه وصفاته صياغة ملائكية جعلها الله فطرة في نفسه وخلقه وجهاده.

صيحة الأجداد في
وأنين المجد  في الأصفاد
إنه صورة شعب
إنه جيل من الإسلام
أنت لو أبصرته
بشر من ملك

 

الأحفاد حاكت صيحته
أورى ثورته
هب يغزو وثبته
يبني نهضته
لقدرت قدرته
قد تلقى فطرته

إن الذين أجهدوا أنفسهم في وصف الإمام نثراً قد بزهم الأميري في وصف الإمام شعراً، وقد أصاب هذا الشاعر العبقري صفة الإمام الذي حمل هم الأمة وراح في شهامة يدافع عنها ويدفع بها نحو المجد.

وما لبث الإمام بعد هذه القصيدة الرائعة  في وصفه أن استشهد، امتدت إليه يد البغي فأرسلت إلى قلبه رصاصات أوقفت نبضه، ولكنها ما أوقفت تأثيره ، فهيهات ، لقد أطلق البنا روح الإسلام في وجدان أمته ، فحمل هذه الروح رجال مضوا بها صعدا، ولا بد لهذه الروح أن تبلغ مداها.

كان وقع استشهاد البنا على الأميري أليما، فصاغ هذا الألم في قصيدة نشرتها جريدة الشهاب السورية، أحب أن أوردها أولاً كاملة لأنها أيضاً قصيدة عزيزة قلما تجدها معروضة لعشاق الشعر والأدب ، وهي أيضاً ليست منشورة في دواوين الشاعر المطبوعة:

رثاء([2])

كبلوا من حوله أبناءه
جردوه خلسة في خسة
وذئاب البغي حامت، ونضى
والجماهير التي من ذاته
حوقلت في خور وانطلقت
والألى كانوا يقولون له
خذلوه وبدت أوجههم
وشرى الباغون منهم ألسنا
في بيوت الله سبوا فنداً

 

ورموه بين أشداق الأفاعي
وتنادوا، وهو فرد، للنزاع
كل نذل حوله سيف القراع
بذل الرفد لها دون انقطاع
لا تبالي بجهاد وصراع
ملقا، قد جئت بالأمر المطاع
في الملا سوداء من غير قناع
بذلوها ما دعا للمال داع
خير داع للهدى فيها وراع

هكذا فعلوا ، كبلوا أنصاره وتركوه وحيدا ،وأطلقوا خلفه أفاعيهم.

وصورة ثانية: جردوه من كل حماية، وقد وصف الأميري هذا الفعل بالخسة، ثم تنادوا ، نادى بعضهم بعضاً، هيا نازلوه  ونازعوه!

وصورة ثالثة: هؤلاء البشر الذئاب حاموا حوله وقد شرعوا سيوفهم وأغمدوها في قلب الإمام!

وماذا كانت ردة فعل الجماهير التي بذل الإمام نفسه في سبيلها:

والجماهير التي من ذاته
حوقلت في خور  وانطلقت

 

بذل الرفد لها دون انقطاع
لا تبالي بجهاد وصراع

هذه من الأميري نفثة غاضب، نعم لم تبد الجماهير غضبتها لأن السيوف كانت مشرعة للإطاحة بأي رأس يرتفع صوته محتجاً، ولكن هذه الجماهير التي بذل الإمام نفسه لها قد أخلصت له وأقبلت على دعوته.

 ثم ماذا فعل هؤلاء (الألُى) الذين كانوا يقولون للإمام: قد جئت بالأمر المطاع؟!

والألى كانوا يقولون له
خذلوه وبدت أوجههم
وشرى الباغون منهم ألسنا
في بيوت الله سبوا فنداً

 

ملقا، قد جئت بالأمر المطاع
في الملا سوداء من غير قناع
بذلوها ما دعا للمال داع
خير داع للهدى فيها وراع

وكشف الحاقدون الذين كانوا يتملقون الإمام عن حقيقتهم السوداء، فبذلوا أموالهم لشراء الألسن التي انطلقت تسب الإمام حتى وصل بهم الحقد أن أمروا أتباعهم بسب الإمام على منابر الرسول في بيوت الله.

لست أدري لماذا ينتابني شعور بأن القصيدة لم تقف عند ما وقفت عليه كما هي منشورة في صحيفة الشهاب السورية ، وأن لها أبياتاً تكمل المشاهد الناقصة، ولعل ثورة الأميري قد جمحت به إلى أبيات رأت المجلة أن لا تنشرها.

هذا شعور قد تكشف عن حقيقته مذكرات الأميري لو نشرت.

$           $          $

عمر بهاء الدين الأميري شاعر كبير، وإذا أردت أن تصنفه في الهرم الشعري الإسلامي وضعته على قمته، وهو له من اسمه نصيب ، بل أنصبة، فهو عندي  وعند الدارسين غيري، أمير الشعر الإسلامي المعاصر.

وما قرأت نثراً لشاعر مهما كانت منزلته في الشعر إلا وجدت نثره دون شعره، إلا ما كان  من الأميري ، فإنه حتى وهو يكتب  نثراً يسمو بنثره إلى آفاق الشعر، فإذا قرأت  نثره قلت :هذا ناثر يكتب شعرا .                                                                               

وحتى أدلل على صدق ما أقول أورد هنا نصين نثريين  يصف فيهما الإمام البنا، الأول يصف فيه حقيقة الإمام، ويرسم له صورة متكاملة، فتشعر وأنت تقرأ هذا الوصف كانك تشاهد الإمام وتجالسه، والثاني يتحدث فيه الأميري عن الإمام كداعية يعشق دعوته ويتفاني في سبيلها.

يقول الأميري واصفاً الإمام البنا كأنك تراه([3]):                         

"سمعت عنه كثيراً، ورأيت  له في مرايا قلوب محبيه صوراً لامعة رائعة، فتراءى لعقلي عملاق هدى ورأي وحكمة ،وتخيلته أمام عيني عملاقاً في جسمه أيضاً جباراً في قسماته وسماته ،ولما رأيته بين صحبه، أول ما رأيته، ما ظننت أنه هو، ثم قدمت إليه فتلقانى في بشاشة، لا تكلف فيها ،ورحب بي ، منساقاً مع فطرة رحبة.

لم أجد له في مشاهدتي، صورته في مخيلتي..... كان أقرب إلى القصر منه إلى الطول ،وأدنى إلى الوداعة منه إلى الجبروت ، في صراحته إباء، وفي جرأته إغضاء ، لا يكاد يطالع الناظر إليه من الحزم الذي سمعت عنه إلا تقطيبة بين الحاجبين تصغر معها عين وتكبر عين، كلما تحدث في أمر هام.

زرته في بيته، فوجدته زاهداً بسيطاً، وأكلت في مائدته، فوجدته فقيراً كريماً, وصحبته في أسفاره ، فلم أر أكثر منه أنساً وإيناساً في مواطن الراحة ولا أكثر منه فناء في العمل ، وقت العمل.

ولزمت حياته أياماً، فوجدتها دأباً مستمراً، وجهداً مرهقاً، كلما اشتدت عليه زادت بشاشة روحه، فبدا أشد انهماكاً في السعى، وأكثر إمعاناً في التسليم ، وأقوى تآلفاً بالاستبشار .

ما رأيته مرة إلا زدت له إكباراً وبه تعلقاً وعليه إشفافاً وفيه أملاً.

ويقول الأميري متحدثاً عن البنا كداعية([4]):

"شاهدته يتكلم بين أفراد، فلم أجد صوته يتطاول على الأصوات ، ولاح لي أميل إلى الإصغاء منه إلى إبداء الآراء ، فإذا دخل الحديث طور المراء ، صمت في إعراض ، أو أقبل في ابتسام ، هو بين الإشفاق والشفقة ، حتى إذا انتهى الأمر إلى زبدته، كانت كلمته هي الفاصلة .

وأصغيت إليه وهو يخاطب ملأه فخيل إلي أنه يحاول أن يسكت لسانه، وينطق قلبه ،بل وكل جوارحه ،وإذ ذاك كان يمعن النظر في من أمامه، وكأنه يحدق في أفق بعيد فينبعث من عيونه شبه نور وهاج ، يتصل شعاعاً بقلب فقلب فقلب وإذا بالملأ تحت تأثيره  المطلق ، قد أسلموا إليه عقولهم يهديها، وقلوبهم يخفق فيها، وسواعدهم وكواهلهم ، يحملها ما يرى من أعباء ، أعباء رسالته ورسالتهم ، وسمعته يخاطب الجماهير فوجدته الطب الخبير، يبدأ ويبدو معهم في أكثر الأحيان  ، واحداً منهم محدثاً أكثر منه خطيباً.

يكثر من سوق التشابيه والأمثال ، يبسط بها فكرته ، فتتلقفها الأذهان بيسر، وقد يعالج في ثنايا حديثه شئوناً من صميم حياة المستمعين حتى ليظن أحدهم أنه كوشف بخويصة مشكلته، وأخذ يصف له الدواء فإذا آنس أن القوم قد ركنوا إليه ، اشتد عليهم في موعظته وبادرهم بإهابات خطابية وجلجل بصيحات الحق، تتخلل حديثه الدفاق ، المرصع بآى الله، فيضعون أنفسهم منه، دون اختيار ، موضع الرعية من الراعى.

وهكذا ، يبلغ منهم لدعوته ما يريد وينتهي غير مملول ، محبوباً مرهوباً.

كيف يسري النغم السائغ في الآذان نشره
هكذا من قلبه المؤمن يزجي الهدي دعوه
زاخر الأعماق بالإيمان في دعوته
منكر الذات حكيم السير في وجهته
طب أرواح، فلا تخفى عليه خافية
باسط الصدر بعيد الغور شهم داعية

هاتان القصيدتان ،وهاتان القطعتان النثريتان جزء من تراث الإمام ، وأنا قد اطلعت على التراث الذي نشر للإمام البنا، فلم أجد فيما نشر اهتماماً بالشعر الذي قيل في الإمام.... وهو غزير وبليغ يستحق الاعتناء به.

أقول: اطلعت على ما نشر من تراث الإمام البنا، ولم أجد ذكراً للتراث الأدبي الذي قيل في الإمام ولم أجد ذكراً للمواقف الأدبية التي وقفها الإمام، وللإمام رحمه الله مقدمات لبعض الكتب الأدبية وبعض دواوين الشعر التي أصدرها شعراء الدعوة في حياته.   

صحيح أننا كتبنا قبل ثلاثين عاماً كتابنا الموسوم "شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث" في عشرة أجزاء صغيرة الحجم، وكان ذلك جهد المقل مع ندرة المادة المتوفرة بين أيدينا ومع شح المصادر آنذاك ، إلا أننا شرعنا حديثاً في إعادة صياغة الكتاب من جديد وقد توافرت المادة وتوافرت المصادر، وقد صدر منه مجلدان، والمجلد الثالث في طريقة للصدور ، ومن المقدر أن يصدر الكتاب في ثلاثين مجلداً، تتراوح صفحات  المجلد بين أربعمائة وخمسمائة صفحة من القطع الكبير.

ومع ذلك فأنا أرى أن تراث البنا وتراث الدعوة الإسلامية الأدبي لازال بحاجة إلى المزيد من  الجهد ، والمزيد من العناية ،والمزيد من الدراسة.

               

([1] ) عمر بهاء الدين الأميري – مجلة المسلمون – العدد الثاني.

نقنقلاً عن كتاب: موسوعة الشهداء، تأليف: عبد الحليم الكناني – منشورات دار البشير طنطا  ، ط1 1414هـ - 1999م ص 170.

(span>[2] ) جريدة الشهاب السورية العدد (30) ، 18 ربيع ثان 1375هـ 4 كانون أول 1955م.

([3] ) مجلة "المسلمون" العدوان الثاني والثالث .

نقنقلا عن "موسوعة الشهداء" تأليف عبد الحليم الكناني ص 171-172.

([4] ) مجلة "المسلمون" العدد 63 .

نقلاً عن "موسوعة الشهداء" تأليف عبد الحليم الكناني ص 172-173.