سيلفيت لارزول

وأوائل الترجمات الفرنسية للقرآن الكريم

محمد سعيد الملاح

وَمَضَت أمامي كلمتان "Traduire l’intaduisible"، فلم أتجاوزهما، مثل كل من يبحث عن شيء ما، فهو لا يحتاج سوى إلى لمحة، كانت "سيلفيت لارزول Sylvette Larzul " تتحدث عن ترجمة القرآن فاختصرت الموضوع بكلمتين: "ترجمة ما لا يُترجَم"، وهكذا أخيرًا، ظهر من يفهم العربية، ويفهم القرآن الكريم، فانكببت على بحثها المسمى: "ترجمة ما لا يُترجَم"، أوائل الترجمات الفرنسية للقرآن الكريم بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، فلما تأمَّلتُه وقارنت ما فيه بما كتَبَه غيرها من الباحثين، رحت أبحث عن الكاتبة، فلم أجد لها ذكرًا في مواقع الإنترنت العربية، وشعرت بأن من واجبي أن أعرف القراء العرب بها.

إنها الكاتبة الفرنسية المعاصرة: "سيلفيت لارزول"، وهي حاصلة على الإجازة في الأدب العربي، ثم على الدكتوراه من جامعة باريس الثالثة (جامعة السوربون الجديدة)، حيث تعمل أستاذةً للأدب العربي فيها، كما تعمل باحثة في "مركز التاريخ الاجتماعي للإسلام في البحر الأبيض المتوسط"، وهو معهد للدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، وتدور أبحاثُها حول تلقي أو استقبال الغرب للأدب العربي، وللإسلام، وحول تاريخ الاستشراق.

ويؤلمني انكماش النقد العربي، إلى حد الغياب من ثقافتنا العربية المعاصرة، بحيث يشعر غير ذي اختصاصٍ - مثلي - بضرورة ملحةٍ لتعريف القارئ بكُتَّابٍ أجانب يتناولون قضايا مهمة تخص الثقافة العربية ونظرة الغرب إليها، وإن إمكانياتي المتواضعة لن توفر للقارئ العربي ليتعرف على "سليفيت لارزول" سوى عنوانين: كتبها، وأبحاثها، ثم عرض مفصل لبحثها عن "أوائل الترجمات الفرنسية للقرآن الكريم".

من كتب سيلفيت لارزول:

1- "الترجمات الفرنسية لألف ليلة وليلة"، دراسةٌ مقارنةٌ لترجمات غالان وتريبوتيان وماردوس، 1996.

2- "ألف ليلة وليلة"، من التقاليد العربية إلى الترجمات الفرنسية.

3- "الليالي العربية من منظور متعدد القوميات"، بالاشتراك مع أولريش مالزورف، وجوزيف سادان، وأبي بكر شريبي 2007.

4- "اعتبارات أخرى حول ألف ليلة وليلة لغالان"، دراسة الأقاصيص التي رواها حنا 2005.

من أبحاث سيلفيت لارزول:

1- "ألف تناسخ وتناسخ" (ألف آفاتار وآفاتار) من بغداد إلى هوليود.

2- "اختراع المستشرقين"، ملف في مراجعات ألف ليلة وليلة.

3- من غالان إلى مادروس، أو الكلاسيكية في أجواء نهاية القرن.

4- "أنطوان غالان" (1646- 1715) عالم اللغات الأجنبية.

5- "أنطوان غالان"، معجم السير الأدبية: الكتاب المستشرقون.

6- "تلقي العرب لألف ليلة وليلة بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين، بين الهوان والعرفان، في "ما بعد الاستشراق"، الشرق الذي خلقه الشرق".

7 - "اختلاف نظرة العرب لألف ليلة وليلة".

8- "القواعد اللغوية وصناعة المعاجم في اللغة العربية الجزائرية في القرن التاسع عشر".

9- "ملخصات غزو الجزائر من السياسة إلى المملكة العربية".

10- "الترجمات الفرنسية الأولى للقرآن الكريم بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر".

11- "أصل اثنين من الأعمال التربوية العربية: حكم لقمان، وألف ليلة وليلة 2009".

12- "قصة هزلية من ألف ليلة وليلة، تاريخ أبي الحسن، أو النائم يستيقظ".

13- "مناهج الإسلام"، بالاشتراك مع هيلين بايل، بيير لوري، وجيل لادقاني.

14- "ملخصات عن المدارس العربية الفرنسية في الجزائر الاستعمارية" (1850-1870) مونبيليه 2009.

عرض لبحث: "ترجمة ما لا يُترجَم"

أوائل الترجمات الفرنسية للقرآن الكريم بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر"[1]:

تقول سيلفيت لارزول في ملخص البحث: "انفصلت ترجمة القرآن عن الجدل الديني في فرنسا منذ بداية القرن السابع عشر، ولم تظهر ترجمة يعتمد عليها باللغة الفرنسية حتى منتصف القرن التاسع عشر، وقد اختفت الترجمة النوعية لأنطوان غالان في بداية القرن الثامن عشر دون أن تنشر، وبقيت الترجمتان الأوليتان الناقصتان: ترجمة دو رييه الرائدة عام 1647، وترجمة سافاري الأدبية عام 1783، ويضع هذا البحث الترجمات الفرنسية - والتي تمثل كل منها تقدمًا بالنسبة لسابقتها - في فضائها الأوربي، كما يتتبع اعتمادها على الترجمات المعاصرة الشهيرة، الترجمة اللاتينية لمراتشي 1698، والترجمة الإنجليزية لجورج سيل 1734".

عند تأمل هذا الملخص نجد أن الباحثة مهتمة بموضوع ترجمة القرآن في أوربا، ومتتبعة لها بكل اللغات الأوربية منذ بدايتها وحتى نهاية القرن التاسع عشر، وعلى اطلاع بمضمونها، وهي تثني على الترجمات الفرنسية - رغم ما تذكره من عيوبها - باعتبارها تمثل خطوات إلى الأمام في طريق الوصول إلى ترجمة يعتمد عليها للقرآن الكريم، كما رصدت اعتماد الترجمات المتلاحقة بعضها على بعض.

وفي استعراضها المفصل للترجمات الفرنسية الأربعة الأولى، فإنها تسير على النهج ذاته؛ إذ تقارن الترجمة التي تدرسها بسابقاتها، وتذكر فضلها، وما جاءت به نحو ترجمة أفضل للقرآن، كما تنكب على نص الترجمة وتظهر ما به من عيوب، وتولي عناية خاصة بالحواشي أو الملاحظات الجانبية، والتي تكمل الترجمة وتوضح معانيَها، أو تعلق على مضمونها، كما تعتني بالمقالات أو المذكرات المصاحبة للترجمة، والتي تنصب في العادة على التعريف بعقيدة الإسلام، وعلى حياة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بشكل خاص، حيث إن هذه النصوص المصاحبة لترجمات القرآن هي التي صاغت نظرة الأوربيين للإسلام، وهذا الموضوع بالذات هو أحد الاهتمامات الدائمة للباحثة.

في مقدمة البحث قالت سيليفيت لارزول: "لا يمكن نظريًّا ترجمة القرآن الكريم؛ حيث إنه يعتبر في الإسلام كلام الله، وبالتالي فلا يمكن تقليده (بترجمته)، ومع ذلك فقد ألفت تفاسير أدبية للقرآن الكريم في وقت مبكر جدًّا باللغتين الفارسية والتركية؛ وذلك لكي تشرح للمسلمين غير الناطقين بالعربية معاني النص المقدس"، ثم يمَّمت نظرها شطر أوربا، وتحدثت عن الترجمة الأوربية الأولى التي أمر بها "بطرس المبجل" في القرن الثاني عشر، وقالت بأن هذه الترجمة صُنعت لأجل معرفة دين العدو ودحضه، وبأنها قد اعتبرت منذ وقت طويل ترجمة منحرفة، لمترجمين يسارعون لتحريف النص الأصلي، وأُدينتْ لأسلوبها في التلخيص وإهمال النص الأصلي، وأكدت بأنه عبر هذه الترجمة وحدها فقط تعرَّفَ الغرب على الإسلام حتى منتصف القرن السابع عشر، إذ طبعت عام 1543 وترجمت للإيطالية والألمانية والهولندية.

الترجمة الفرنسية الأولى: أصدر "آندريه دو رييهAndre Sieur du Ryer " عام 1647م أول ترجمة فرنسية لمعاني القرآن الكريم باللغة الفرنسية، وعنونها باسم: "قرآن محمد L’alcoran De Mohamet"، وكانت كل الترجمات تقريبًا قبل ذلك باللغة اللاتينية، ولم يكن دو رييه لاهوتيًّا؛ ولذلك توجه بترجمته هذه لجمهور القراء الفرنسيين، وكان أول المترجمين الذين كانت لهم معرفة مباشرة ومطولة بالشرق المسلم، حيث كان موظفًا دبلوماسيًّا في القسطنطينية وقنصلاً لفرنسا في الإسكندرية، وقد عكف طويلاً في إقطاعيته على إعداد هذه الترجمة.

وكذلك مدحته سلفيت لارزول بقولها: "يبدو أن العمل الذي تحقق في منتصف القرن السابع عشر مِن قِبَلِ دو رييه قد أدخل ترجمة القرآن في الغرب في حقبةٍ جديدة، وفي نفس الوقت الذي قدم فيه للقارئ ترجمة متكاملة وأصيلة، فقد حطم تقليد النقض والدحض الموروث من العصور الوسطى، ولم يرفق ترجمته بمقدمة وحواشٍ ومقالات في محاربة الإسلام، وكانت ترجمة دو رييه أول ترجمة مخصصة لترجمة نص القرآن الكريم بشكل محدد، وقد يبدو هذا الكلام غريبًا، ولا يمكن فهمه إلا بالنظر للترجمات السابقة، والتي كانت كبيرة الحجم ومخصصة للرد على الإسلام، ولكن في الجو الديني السياسي السائد في ذلك العصر، فإن تلك المطبوعة كان لا يمكن أن تخلو من إدانة المؤلف للإسلام؛ ولذلك كتب مقدمةً من بضعة صفحات تتضمن هجومًا على الإسلام ورموزه ودفاعًا عن المسيحية".

وقد لقيت هذه الترجمة المعنونة: "قرآن محمد" انتشارًا واسعًا، وقد أعيد طبعها مرارًا عديدة اعتبارًا من عام 1649، وحتى عام 1775م في هولندا كما في فرنسا، كما ترجمت للإنجليزية Alexander Ross 1649، وللهولندية (Glasmacker 1658)، وللألمانية (Lange 1688)، وذلك عن الترجمة الهولندية، وللروسية مرتين؛ مرة بواسطة Postinkov عام 1716، ومرة بواسطة Veryovkin عام 1790.

الترجمة الفرنسية الثانية: أتم أنطوان غالان Antoine Galland في عام 1710 ترجمة فرنسية للقرآن الكريم، وقد اختفت هذه الترجمة عند تقديمها للمكتبة الملكية ولم تنشر أبدًا، ولكن مراسلات غالان ومذكراته تقدم معلومات كافية حول هذا الموضوع لتقييم أعمال هذا المستشرق، تشكلت في بلاد الشرق، حيث قضى أنطوان غالان ما يقرب من خمسة عشر عامًا في بلاد الشرق ما بين عامي 1670 و 1688 سكرتيرًا في السفارة الفرنسية في إسطنبول وكجامع تحفٍ، وهناك أتقن التركية والعربية والفارسية وتشبع بثقافة الشرق، وفي نهاية حياته عكف على ترجمة القرآن بطلب من رئيس الدير "جان بول بينيون()L’abbe Jean Paul Bibgnon" (يوميات 20 يوليو/ تموز 1709)، وكان لديه تصور واضح تمامًا عن هذا العمل الذي أنجزه وفق طريقة دقيقة.

حيث كتب: "كنت مقتنعًا منذ زمن طويل أننا لا نستطيع فهم القرآن جيدًا، بالمعنى الذي فهمه به المسلمون، ما لم نتوصل لنسخٍ (أو نحوز على ترجمات) جيدة للقرآن باللغة الفارسية أو التركية، وقد حظيت بواحدة بكل من اللغتين" (رسالة منه إلى جيسبر كوبه Gisbert Cuper مؤرخة في 31 أكتوبر/1710).

ولا شك أن غالان قد استفاد استفادة هائلة من ترجمات المسلمين للقرآن الكريم بالفارسية والتركية، سواء في الترجمة الحرفية، أو في المعاني التي تقرأ بين السطور، كما استفاد من ترجمة مراتشي اللاتينية، والتي تعتبر خطوةً رئيسية في الوصول إلى المعرفة من النص القرآني من قبل الغرب، وبفضلِ عملِ سلفه المحنك، فقد استطاع غالان أن ينجز ترجمته خلال ستة عشر شهرًا فقط.

في نهاية المطاف، لا يبدو أن هناك شكًّا في أن نص ترجمة القرآن الكريم الذي أنجزه أنطوان غالان كان متفوقًا للغاية على ما فعله أندريه دو رييه، وأنه لم يكن أقل مما فعله لودوفيكو مراتشي.

ويبقى السؤال مطروحًا: لماذا لم يطبع وينشر عملٌ كانت قيمته واضحةً جليةً؟ ولا تقع المسؤولية مطلقًا على أنطوان غالان الذي حرَص على أن يوصي الأب بينيون بترجمته للقرآن، وبمدوناته وبأبحاثه، حيث ذهبت أصول كتاباته للمكتبة الملكية، وليس هناك من سبب لنظن بأن هذه الترجمة قد ضيعها الأب بينيون، وهو الشريك الذي عرف قيمة العمل وكان حريصًا على نشره، وهل علينا أن نفترض أن الظروف السياسية والدينية الفرنسية في حوالي عام 1720 لم تكن مواتيةً لنشر عمل اعتبر متعاطفًا جدًّا مع المسلمين في وقت كان فيه المسلمون يكسبون أرضًا جديدة كل يوم[2].

الترجمة الفرنسية الثالثة: قام "كلود إتين سافاري Claude Etienne Savary" بترجمة القرآن الكريم للفرنسية متبوعةً بمختصر سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صدرت هذه الترجمة في باريس في جزأين عام 1783، وقد حظيت بالنشر في فرنسا طيلة قرنين كاملين، وبقيت على أرفف المكتبات حتى عام 1970، وكان من أسباب شعبيتها مقاربتُها العقلانية للإسلام.

وكلود إتين سافاري (1750-1788) رحالة فرنسي من عصر الأنوار، معروف بانتمائه لفكر فولتير، سافر إلى مصر وهو في السادسة والعشرين من العمر، وأمضى بها ثلاث سنين، قضى منها في الإسكندرية سنة، وأمضى السنتين الباقيتين في القاهرة، كما زار دمياط أيضًا.

وقد درس الدكتور إبراهيم عوض - الأستاذ بجامعة عين شمس بالقاهرة - هذه الترجمة بالتفصيل دراسة رائعةً وموسعة، وركز على الأخطاء التي اشتملت عليها الترجمة بدءًا من صفحة الغلاف، لكنه أهمل ذِكر ما حمَلتْه هذه الترجمة من جديدٍ نسبةً إلى ما سبقها من ترجمات في الغرب، وظروف كتابة هذه الترجمة، ودراسة سيرة الرسول الملحقة بها.

وقد بدأت سيلفيت لارزول دراستها لهذه الترجمة بالتعريف بالمترجم، ثم نقلت عن سافاري قوله في مقدمته: إنه ترجم القرآن من العربية مباشرة بعد معيشته مع العرب ودراسته للغتهم، ثم تعقب قائلةً: "إنه من الصعب إعطاء مصداقيةٍ لهذه الكلمات؛ إذ إنه لا يمكن له بعد قضاء هذا الوقت القليل مع العرب أن يقدم بمفرده على ترجمة نص كالقرآن الكريم بدون دليل هادٍ".

ولما لم تكن ترجمة دو رييه تشكل عونًا حقيقيًّا له، ولم يكن كذلك يعرف من الإنجليزية ما يؤهله للاستعانة بترجمة جورج سيل، فقد استند إلى ترجمة مراتشي، وليبعد الظنون عن نفسه فقد دأب على مهاجمة مؤلفها بشدة، وهذا ما يؤيدها فيه "بيير مارتينو Pierre Martino" و"كازيمرسكي Kazimirsky"، ومع أنه التزم في ترجمته بتقسيم السور والآيات كما هي في المصحف الشريف، لكن سيلفيت لارزول تعتبر ترجمته نوعًا من الأدب الديني، أي: إنها ترجمة غير علمية وغير دقيقة، ترك المترجم لقلمه فيها العنان ليتصرف على أساسٍ من ثقافته وهواه.

ثم تدرس الباحثة ملحق الكتاب المعنون: "مختصر حياة محمد" فتقول: رغم أنه لا يمكن التقليل من التحسينات التي أجراها سافاري على ترجمة القرآن مقارنةً بالترجمة السابقة لدو رييه، فمع ذلك: يبدو أن التحدي الأكبر للترجمة كان على صعيدٍ مختلفٍ، فقد تغيرت صورة "محمد" تغيرًا جذريًّا، وتقول الباحثة: صحيح أن سافاري قد جاء بهذا الانقلاب في النظرة لمؤسس الإسلام، لكنه ظهر بأنه يعتمد على أعمال "جان غانييه Jean Gagnier": "حياة وإنجازات محمد" سيرة أبي الفداء مصحوبة بترجمة لاتينية، و"حياة محمد" مترجمة ومأخوذة من القرآن، ومن المصادر المأثورة للسنة، ومن أفضل الكتاب العرب، كما استفاد سافاري من بعض المصادر العربية وبخاصة من "أبي الفداء"، ثم قام بإعادة تشكيل صورة النبي صلى الله عليه وسلم.

"وبفضله لم يعد محمدٌ صلى الله عليه وسلم نبيًّا كذابًا، وإنما أصبح مشرع العرب، وأحد أولاء الرجال، الذين ولدوا بمواهب استثنائيةٍ، ويظهرون على فترات متباعدة على مسرح العالم؛ ليغيروا صورته، وليقودوا العالم خلفهم، وحين نأخذ بالاعتبار النقطة التي انطلق منها، وذروة العظمة التي وصل إليها، فإننا ندهش لما تستطيع العبقرية البشرية أن تفعله حين تساعدها الظروف، فقد ولد وسط قوم وثنيين، لكن توصل إلى معرفة الله الواحد الأحد، ومزق حجب الوثنية، وفكر أن يعطي قومه مذهبًا دينيًّا وقال: إن الأخلاق التي يبشر بها تستند إلى القانون الطبيعي، وعلى ما هو مناسب لشعوب المناخات الحارة".

ثم تطلعنا سيلفيت لارزول على موضوع آخر، وهو: "رفض سافاري لمعجزات القرآن الكريم" فتقول: "وكان نقض المعتقدات غير العقلانية في القرآن الكريم (حسبما يراه سافاري) واحدًا من أهم معاركه، الذي كان يقتنص كل فرصة ليدلي تعليقاته بهذا الصدد، فحين يأتي لترجمة سورة الفيل يعلق عليها بقوله: "سورة الفيل" تشير إلى هزيمة جيش أبرهة السائر إلى مكة على يد أسراب من الطيور مسلحة بحجارة كُتِبَ عليها أسماء من ستضربهم، لكن غيمةً من الرمل المشتعل؛ كرياح الجنوب التي تثور في الجزيرة العربية وإفريقيا، يمكن أن تتسبب بهلاك قسم من جيش أبرهة، ولقد جعل القرآن تأثير ظاهرة طبيعية يبدو وكأنه معجزة".

كما تجد سيلفيت لارزول أن المترجم قد علق على سورة النصر بقوله: "هذا النصر هو فتح مكة، حيث دخلها محمد كمنتصر سلمي، بعد ثماني سنين من المعارك، إن تحقق هذه النبوءة لا يثبت أي شيء، فبعد أن سيطر محمدٌ على اليهود وأخضع جزءًا من الجزيرة العربية، صار باستطاعته ودون أن يكون نبيًّا أن يتنبأ بسقوط مكة".

وحيث إن سورة النصر قد نزلت بعد الفتح، فإن سقطة المترجم هذه تبين أمرين، أولهما: جهل المترجم بزمن نزول هذه السورة، وعدم اعتنائه بدراسة موضوع ترجمته.

وثانيهما: الرغبة الملحة عند المترجم بانتقاد القرآن، ونفي النبوة عن محمد صلى الله عليه وسلم.

كما تعقِّب سيلفيت لارزول بقولها: وقد أعطى سافاري لترجمته نكهة الغرابة، فهناك العديد من الملاحظات التي تبدو وكأنها صادرة عن رحالة؛ حيث يظهر تعلقه بإيجاد تفسيرات مناخية للأمور، وإعطاؤه ملاحظات تنتمي لعصر ما قبل الرومانسية، كتلك التي نراها في مجموعة "رسائل عن مصر"، حين يترجم مثلاً الآية 24 من سورة الفرقان: ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾ [الفرقان: 24]، وقد أحسنت سيليفيت لارزول بوصف نوعية هذه الترجمة بالأدبية.

الترجمة الرابعة: في عام 1840م قام "آلببن كازيميرسكي بيبرشتاين Albin Biberstein Kazimirsky " بأول ترجمة فرنسية مقبولة، ثم قام بمراجعتها وتصحيحها مرتين في عامي 1841 و1852، وكازيمرسكي مهاجر بولوني استوطن فرنسا في عام 1831، وكان يعرف العربية والفارسية جيدًا، وعمل كسكرتير ومترجم في مكتب الشؤون الخارجية الفرنسية، كما ألف قاموسًا عربيًّا - فرنسيًّا مهمًّا عام 1847 أعيد طبعه مرارًا.

ورغم أنه استند إلى ترجمة سيل Sale واستفاد منها كثيرًا، فإنه صنع ترجمته من النص العربي نفسه، وأنجز للمرة الأولى ترجمة فرنسية مقبولة وموثوقًا بها نسبيًّا للنص القرآني[3]، وقد صحح على نطاق واسعٍ الأخطاء الوردة في ترجمة سافاري Savary، وكانت كتابته أنيقةً مع التصاقه بالنص القرآني، ومع ذلك فهذه الترجمة ليست خالية من الأخطاء، كما تفتقد أدواته النقدية إلى العمق، لكنه برر ذلك بأنه يكتب للجمهور الواسع.

وقد حاول كسابقيه أن يسهل على القراء مقاربة النص القرآني بمقدمة تنويرية عن الإسلام، وقد احتوت طبعة 1841 نبذةً مختصرة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، اعتمد فيها على ما صدر مؤخرًا عن "كوسان ده بارسفال Caussin de Parceval" بعنوان: "تاريخ العرب قبل الإسلام، وفي عهد محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى أن أسلمت جميع قبائل العرب".

وقد أعطت خطة كازيمرسكي اللغوية لإنتاج نص دقيقٍ قريب من القرآن، وحرصه على إشاعة أحدث المعارف عن التاريخ الإسلامي - قيمةً جديدة لهذه الترجمة، لكنه في نفس الوقت حرص على إظهار اقتناعه بالكنيسة، وعلى وضعه المسيحية في مرتبة أعلى من الإسلام، ورفضه اعتبار القرآن منزلًا من الله عز وجل، أو موجهًا للناس كافة، بل لشعوب الجزيرة العربية خاصة، وقد ترجم هذا العمل للإسبانية عام 1844، وللروسية عام 1880، وعرف انتشارًا واسعًا جدًّا في فرنسا، وما زالت طبعاته تتوالى حتى اليوم رغم العديد من الترجمات التي ظهرت في القرن العشرين.

وتعلق سيلفيت لارزول في نهاية بحثها على ترجمة كازيميرسكي بقولها: "إن أول ترجمة للقرآن الكريم تحققت باللغة الفرنسية في منتصف القرن السابع عشر (ترجمة دو رييه)، بقطعها ممارسات العصور الوسطى، شكلت منعطفًا في تاريخ ترجمة القرآن في الغرب، وهي التي فتحت الطريق في الواقع للترجمات الكاملة والمتخلصة من وظيفة الرفض أو الدحض.

إن تاريخ ترجمة القرآن في فرنسا وحتى منتصف القرن التاسع عشر هو - جزئيًّا - مسيرةٌ إلى الأمام نحو دقة أكبر، بقي خلالها المترجمون معتمدين على الأعمال الكبرى لمراشي وجورج سال.

وهذا التاريخ الذي يخص مترجمين غير مسلمين هو أيضًا تاريخ انفصال صعب؛ ففي القرن السابع عشر كان من المستحيل ترجمة النص القرآني دون إدانةٍ واضحةٍ وقوية للإسلام، إدانة مرت أحيانًا عبر تزوير آياتٍ؛ كما فعل دو رييه، وقد بلغ التحدي للدين الإسلامي من القوة إلى حد أن أعمالًا ذات قيمة مثل تلك التي أنجزها أنطوان غالان Antoine Galland لم تُطبَع ولم تنشر أبدًا.

وفي عصر الأنوار فإن سافاري قد عبر عن عقيدته الدينية من خلال الحواشي والملاحظات الكثيرة الموجودة خارج النص الأصلي لترجمته، وأعطى للإسلام شكل اعتقاد الفلاسفة في الله، وفي منتصف القرن التاسع عشر قام كازيمرسكي بتأليف حواشٍ مناسبة للتعبير عن إدانته كمسيحي للإسلام، ولم يكف عمل ترجمة القرآن في فرنسا عن أن تكون مكانًا للأحكام المجتزأة عن الإسلام، وللإدانة المسيحية والعقائدية له، إلا في القرن العشرين".

ـــــــــــــــــــ

[1]Sylvette Larzul, « Les premières traductions françaises du Coran, (XVIIe-XIXe siècles) », Archives de sciences sociales des religions [En ligne], 147 | juillet-septembre 2009, mis en ligne le 01 octobre 2012, consulté le 03 septembre 2013. URL : http://assr.revues.org/21429 ; DOI : 10.4000/assr.21429

[2]جان بول بينيون: هو ابن أخ المستشار بونشارتران، دخل في سلك الرهبان، ثم أصبح واعظًا للملك، ثم مستشارًا للدولة ( قاضيًا في مجلس الشورى) فجمع تحت سلطته الأكاديميين، والكلية الملكية، والمكتبة، وقد أدار هيئة العلماء من 1701 إلى 1714 ثم من 1723 إلى 1739، وقد رأس المكتبة الملكية في عام 1719، وقد جعله منصبه حاميًا للعلماء. – عن الهامش رقم 15 الوارد في دراسة سيلفيت لارزول عن أوائل ترجمات القرآن الفرنسية.

[3] توغل العثمانيون في أوربا الغربية وحاصروا فيينا ووصلوا إلى بافاريا في نفس ذلك الوقت.

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/75422/#ixzz3CbJqXaFc

 

الكاتب الأستاذ محمد سعيد الملاح مع الأستاذ أيمن بن أحمد ذوالغنى

في معرض الكتاب بالشارقة