السور الأربع لماذا ؟
السور الأربع لماذا ؟
محمد الحسناوي
( العلاقات ) و(الإيقاع ) هما القانونان الرئيسان لعلم الجمال ، وعلى ضوء العلاقات درسنا البنية الفنية لكل سورة ، وعلاقة الأجزاء بالكل ، ثم اخترنا قانونين من قوانين الإيقاع السبعة : ( النظام ) أو ما يسمى التشابه (السيمترية ) القائم - أساساً - على إثارة التوقع وإشباع التوقع ، ثم قانون ( التغير ) القائم - أساساً - على إحداث الصدمة للتوقع عن طريق المفاجأة السارة . وربما ألممنا ببقية قوانين الإيقاع كالتساوي والتوازي والتوازن والتلازم والتكرار .
لكن لماذا اخترنا هذه السور الأربع للدراسة ؟
بعد أن فرغت من دراسة بحث (الفاصلة في القرآن ) وددت لو أنجز بحثاً (أكاديمياً ) آخر حول (السورة في القرآن) ، يتنناول فيما يتناول ( سبب التسمية بالسورة – تعريف السورة – أسماء السور وألقابها – بنية السورة – شخصية السورة – ترتيب السور – نظم السور – فواتح السور – خواتيم السور – موضوعات السور وأغراضها ...) وقطعت شوطاً كبيراً في هذا البحث ، لكن أحداثاُ عامة شغلتني عنه ، وجرفتني عن وطني وعن كل ما جمعته من مصادر ومواد للبحث ، وما تزال تجرجرني حتى الساعة .
مع ذلك في الأشهر الأخيرة من هذا العام 2005 للميلاد استيقظت الرغبة القديمة في السباحة في بحر القرآن ...
كلّ يوم جمعة أترنّم بسورة (الكهف ) وأتأمل جمالياتها ، ولا سيما فاصلتها المطلقة الحركة بالفتح ، فخطر لي أن أكتب في ذلك ، فبدأت بـ (نظرات فنية في قصة موسى والعبد الصالح ) ، ثم انتقلت خطوة أخرى إلى (البنية الفنية في سورة الكهف ) ، ثم إلى (الحوار) فيها .
من قبل كنت مستظهراً لـ ( سورة طه) ، كما كنت مأخوذاً بفواصلها على الألف المقصورة ، فانتقلت أيضاً لدراسة بنيتها والحوار فيها. ولما كانت حركة الفتح في الفواصل تسترعي اهتمامي ... اكتشفت العلاقات الجامعة بين أربع سور مكية متجاورة : ( الإسراء – الكهف – مريم – طه ) ، فنويت أن أكتب بحثاُ مستقلاً في فواصل هذه السور الأربع ، ولكي أفلح في ذلك رأيت أن أدرس السورتين الأخريين (الإسراء – مريم ) ، ولكي تكون الدراسة ناضجة استظهرت كل سورة غيباً ، ثم عمدت إلى دراستها ، وهكذا كان المسار .
ثم اكتشفت أن دراستي للسور الأربع بهذه الطريقة خير من عملي (الأكاديمي) فيها من قبل ، فلا استعجال للوقت ، ولا قيود شكلية في المنهج ، ولا عملية ( سلق ) للبحث الضخم ، بل استمتاع واسترواح . وحمداً لله على ما قدّر لي واختار .
الحوار في سورة الإسراء
سورة الإسراء لم تُبنَ بناءً قصصياً ، ولا كثرت فيها القصص مثل سورة (الكهف) أو سورة(طه) ، ومع ذلك فهي حافلة بالحوار الذي يشغل ثلاثة أرباعها ، وليس لورود طرف قصصي من تاريخ بني إسرائيل أو رفض إبليس السجود لأبينا آدم دور حاسم في ذلك .
الحوار في معظمه في هذه السورة (خطاب من الله تعالى ) لمخلوقاته ، يشغل مساحة /85/ خمس وثمانين آية (1) من مجموع آيات السورة التي تعدّ /111/ إحدى عشرة آية ومئة ، معظم هذا الخطاب موجّه إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وبعضه موجّه إلى بني إسرائيل أو المؤمنين العرب أو الناس كافة أو المشركين أو الملائكة . يضاف إليه حوار ثنائي بين الله تعالى وإبليس حوالي خمس آيات ، وآخر بين النبي موسى وفرعون في آيتين ، ومطالب مشركي مكة من النبي محمد وتساؤلاتهم حوالي ست آيات ، وما تبقى من الآيات غير الحوارية ، وهو ما يشكل ربع السورة أي حوالي /26/ ست وعشرين آية (2) .
خطاب الله للنبي محمد :
هذا الخطاب والخطابات الموجهة لبقية المخلوقات ( من ملائكة ومؤمنين ومشركين وعامة الناس ) هو خطاب مفرد ، بمعنى موجه من طرف واحد إلى طرف آخر يسمع وحسب ! وخطاب الله الوحيد الذي تلقى جواباً هو كلام إبليس يظهر فيه العصيان والتمرد . أما كلام مشركي مكة فسوف نراه موجهاً إلى النبي محمد عليه السلام . أما كلام علماء أهل الكتاب – والمقصود به أحبار اليهود – على قلته ، فهو موجه إلى الله تعالى ، وليس إلى النبي محمد ، مما يؤكد أن السورة مكية ، ولم يحصل احتكاك يذكر مع بني إسرائيل بعد .
خطاب الله الموجه إلى النبي محمد الذي يشغل معظم الحوار أي حوالي /56/ ست وخمسين آية.. ذو مستويات متعددة من حيث المقصودون به ، فبعضه يخص به ذات الرسول الشريفة ، وبعضه يقصد به المسلمون أو أمة الإسلام ، وبعضه الآخر يقصد به المشركون .
خطاب الله للنبي نفسه :
في هذا الخطاب نفسه مستويان آخران ، أحدهما يقصد به ذات الرسول الشريفة للسمو به شخصياً ، و ثانيهما لتثبيته في معركته نفسياً (3) .
ففي تزكية النبي عليه السلام يقول تعالى : ( أقمِ الصلاةَ لدُلوكِ الشمسِ ِإلى غَسَقِ الليل ِ وقرآنَ الفجرِ . إنَّ قرآنَ الفجرِ كانَ مشهوداً . ومن الليلِ فَتَهجَّدْ بهِ نافلةً لكَ ، عسى أن يَبعثَكَ ربُّكً مَقاماً محموداً . وقلْ : ربِّ أََدْخِلني مُدْخ!َلَ صِدقٍ وأََخرِجني مُخرَجَ صِدقٍ ، واجعلْ لي من لَدُنْكَ سُلطاناً نصيراً . ) (الآيات 78-80) ، ولابد للمسلم العادي أيضاً أن يفيد من هذه التوجيهات الموجهة لنبيه أيضاً .
وفي تثبيت النبي نفسياً قوله تعالى : ( وإن كادوا لَيَفتِنونكَ عن الذي أَوحَينا إليكَ لِتَفتَرِيَ علينا غيرَهُ ، وإذاً لاتَّخذوكَ خليلاً . ولولا أن ثبَّتْناكَ لقدْ كِدتَ تَرْكَنُ إليهم شيئاً قليلاً . إذاً لأذقناكَ ضِعْفَ الحياةِ وضِعْفَ المماتِ ، ثم لا تجدُ لكَ علينا نصيراً . وإنْ كادوا لَيَستفِزّونكَ من الأرضِ ِلِيُخرِجوكَ منها ، وإذاً لا يَلبَثونَ خِلافََكَ إلا قليلاً . سُنَّةَ من قد أرسلنا قبلَكَ من رُسُلِنا ، ولا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تحويلاً .) ( الآيا ت 73-77) .
والحكمة في هذا الخطاب الخاص بالنبي عليه السلام ، هو أن الأنبياء معصومون بحفظ الله تعالى لهم ، وهم في الوقت نفسه مكلفون من الله بتكاليف تليق بنبوتهم والمهمات الثقيلة الموكلة إليهم ، لأنهم الرمز والقدوة وصفوة البشر في خلقه ، لذلك كان التهديد بالمخالفة خطاباً شديداً : ( ذلكَ مما أوحى إليكَ ربُّكَ من الحِكمةِ ، ولا تجعلْ مع َ اللهِ إلهاً آخرَ ، فتُلقى في جهنَّمَ مَلومأً مَدْحوراً ) ( الآية 39) ، وإذا كان خطاب النبي المعصوم بمثل هذه اللهجة ، فما موقع ذلك من نفس الإنسان العادي ؟
خطاب الله للأمة من خلال النبي :
بعض هذا الخطاب جاء بضمير المخاطب الفرد (الكاف – أنت ) الذي ظاهره يخص الرسول عليه السلام ، وبعضه الآخر جاء بضمير المخاطب الجمع ( كُم - أنتم) الذي يشمل الصف المؤمن كله ، مثل آيات التكاليف : ( وقضى ربُّكَ ألا تَعبُدوا إلا إيَّاهُ وبالوالدينِ إحساناً . إمَّا يَبلغَنًَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحدُهما أو كِلاهُما ، فلا تقلْ : لهما أُُفٍّ ، ولا تََنهرْهما ، وقلْ لهما قولاً كريماً . واخفِضْ لهما جَناحَ الذُّلِّ من الرحمةِ ، وقلْ : ربِّ ارحمْهُما كما ربّياني صغيراً . ربُّكم أعلمُ بما في نفوسِكم إن تكونوا صالحينَ فإنه كانَ للأوّابينَ غَفوراً . وآتِ ذا القُربى حقّهُ والمِسكينَ وابنَ السبيل ِ، ولا تُبذِّرْ تَبذيراً . إن المُبذِّرين كانوا إخوانَ الشياطينِ ، وكانَ الشيطانُ لِربِّهِ كََفوراً . وإمَّا تُعرِضَنَّ عنهم ابتِغاءَ رحمةٍ من ربِّكَ تَرجوها ، فقلْ لهم قولاً ميسوراً . ولا تَجعلْ يَدَكَ مغلولةً إلى عُنقِكَ ولا تَبسطْها كلَّ البسطِ ، فتقعُدَ ملوماً مَحسوراً . إنَ ربَّكَ يّبسطُ الرزقَ لمن يَشاءُ ويَقْدِرُ ، إنَّهُ كانَ بعبادِهُ خبيراً بصيراً . ولا تَقتلوا أولادَكم خَشيةَ إملاقٍ ، نحنُ نرزُقهم وإيَّاكم . إنَّ قتلََهم كانَ خِطئاً كبيراً . ولا تَقربوا الزِّنى إنه كانَ فاحشةً ، وساءَ سبيلاً . ولا تقتلوا النفسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ ، ومن قُتِلَ مظلوماً ، فقد جعلَنا لوليِّهِ سلطاناً فلا يُسرِفْ في القتلِ إنه كانَ منصوراً . ولا تقربوا مالَ اليتيمِ إلا بالتي هي أحسنُ ، حتى يَبلُغَ أشُدَّهُ . وأَوفوا بالعهدِ ، إنَّ العهدَ كانَ مسؤولاً . وأوفوا الكيلَ إذا كِلتم ، وزِنوا بِالقسطاسِ المستقيمِ ، ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً . ولا تقفُ ما ليس لك بهِ علمٌ . إن السمعَ والبصرَ والفؤادَ ، كلُّ أولئكَ كانَ عنه مسؤولاً . ولا تَمشِ ِفي الأرضَِ مَرَحاً ، إنك لن تَخرِقَ الأرضَ ولن تَبلُغَ الجبالَ طُولاً . كلُّ ذلكَ كانَ سيئُهُ عندَ ربِّكَ مكروهاً ) ( الآيات 23- 38 ) .
لقد ذهب المفسرون إلى توجيه ضمير المخاطب المفرد في معظم هذه الآيات إلى أن المقصود بها مجموع الأمة وليس النبي وحده عليه السلام (4). وفي ذلك أدب مع الرسول ، كما فيه إدراك للمستوى البلاغي في الآيات أيضاً ، على طريقة البيان العربي والمثل المشهور (الكلام لكِ فاسمعي يا جارة ) .
من القرائن التي تؤكد هذا الفهم أن الآيتين اللتين تطالبان فرداً مسلماً بإكرام الوالدين ( إمَّا يَبلُغنَّ عندَكَ الكِبَرَ ، أحدُهما أو كلاهما ، فلا تقلْ لهما أُفٍّ ولا تَنهرْهما ، وقلْ لهما قولاً كريماً . واخفِضْ لهما جناحَ الذُّلِّ من الرحمةِ ..) ( الآيتان 23و24) نزلتا وبقية آيات السورة ، والنبي الكريم يتيم ، أبوه وأمه متوفيان ، فالخطاب في النتيجة للمسلمين جميعاً . والحكمة من تنويع الخطاب بين المفرد والجمع في البلاغة معلومة ، وقد أدرج البلاغيون هذا التنقل بين خطاب المفرد والجمع أو العكس في باب (الالتفات ) ، وسوف نعود إليه في موضعه إن شاء الله . يضاف إلى ذلك حكمة أعمق وأبعد ، ألا وهي استشعار الفرد المسلم أنه مخاطب خطاباً مباشراً بضمير المفرد ، وفي ذلك ما فيه من البلاغة والتأثير البليغ أيضاً .
خطاب الله نبيه لتلقينه حجج المجادلة :
من الطبيعي أن يدافع الله تعالى عن نبيه بأن يزوده بالحجج التي ترد أباطيل المشركين ، وتقمع شكوكهم وتخرصاتهم ، سواء ما يتعلق بعقيدة التوحيد ، أو البعث بعد الموت ، أو طبيعة النبي البشرية ، أو إحكام القرآن من عند الله ، أو حدود المسؤولية الفردية والجماعية .
ففي جلاء التوحيد ونفي الشرك يقول تعالى : ( قلِ : ادعوا الذين زَعمتم من دونهِ ، فلا يَملِكون كشفَ الضُّرِّ عنكم ولا تَحويلاً . أولئك الذين يَدعونَ يَبتغون إلى ربِّهمُ الوَسيلةَ ، أيُّهُم أقربُ، ويَرجون رحمتَهُ ، ويَخافونَ عذابَهُ . إن عذابَ ربِّكَ كانَ مَحذوراً ) ( الآيتان 56 و57) أي إن معبوداتهم ليست إلا مخلوقات لله ، لا تستطيع أن تدافع عمن يعبدها ، لأنها هي نفسها تبحث عما يقربها إلى الله طلباً لرحمتهِ وخوفاً من عقابهِ .
وعن عقيدة البعث بعد الموت يقول تعالى : ( قلْ : كونوا حِجارةً أو حَديداً .أو خَلْقاً ممَِّا يَكبُرُ في صُدورِكم ، فَسَيَقولون : مَنَْ يُعيدُنا ؟ قلِ : الذي فَطَرَكم أَوَّلَ مرَّةٍ ، فسيُنغِضون إليكَ رؤوسَهم ، ويَقولون: متى هوَ . قل: عسى أن يكونَ قريباً . يومَ يَدعوكم فتََستجيبونَ بِحمدِهِ وتَظنَّونَ إن لبِثتُم إلا قليلاً ) ( الآيتان 50-52) أي إن الله يعيد خلق ما هو أشد صلابة منكم كالحجارة والحديد أو ما تظنونه صلباً في تصوركم وليس بصلب أمام قدرة الله .
ولما كان استغرابهم من عقيدة البعث شديداً بسط لهم الله تعالى ، على لسان النبي الكريم حجتين أُخريينِ بقوله : ( أو لم يَروا أن اللهَ الذي خلق السماواتِ والأرضَ قادِرٌ على أن يخلُقَ مثلَهم ، وجعلَ لهم أجلاً لارَيْبَ فيهِ ، فأبى الظالمونَ إلا كُفوراً ) ( الآية99) ، أي إن الله الذي خلق السماوات والأرض ، وهما أكبر من خلق الإنسان ، و إن الذي خلق الموت الذي لا بدَّ منه ، ويعلمونه حقَّ العلم ... قادر أيضاً على إحيائهم بعد موتهم .
وعن طبيعة الرسول البشرية ، لا الملائكية ، كما يشتهون ، أو يماحكون ، يقول الله : ( وما مَنَعَ الناسَ أن يُؤمنوا إذ جاءَهُمُ الهُدى إلا أَنْ قالوا: أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسولاً ؟ قلْ : لو كانَ في الأرض ِمَلائكةٌ يَمشون مُطمئنِّينَ ، لَنََزَّلنا عليهم من السماءِ مَلَكاً رَسولاً . قلْ : كفى باللهِ شَهيداً بَيني وبَينَكم . إنَّهُ كانَ بِعبادِهِ خَبيراً بَصيراً ) ( الآيات 94- 96 ) ، أي إن العادة في الرسل أن يُبعثوا من بين البشر الذين يعيشون مع البشر ، وليس من الملائكة الذين لا يعيشون عادةً مع البشر ، وهذا الدين يأخذ بالعقل والإقناع لا الخوارق ، وعلى كل حال فإن الله تعالى يشهد لنبوة محمد ، وهو خير الشاهدين .
وعن طبيعة القرآن أنه وحي منَزَّل من عند الله ، لا صنع بشر ، يقول تعالى : ( قلْ : لَئنِ اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ على أَنْ يَأتوا بِمثلِ ِهذا القرآنِ ، لا يَأتون بِمثلِهِ ، ولو كانَ بعضُهم لِبعضٍ ظهيراً )(الآية 88) وفي ذلك دعوة تحدٍّ تُبطل دعواهم ، فليأتوا بمثله ، وبالفعل لم يأتوا ولن يأتوا ، وسقطت الدعوى . والتحدي ليس للمشركين أو الإنس والجن وحسب ، بل حتى للنبي محمد : ( ولَئِن شِئنا لَنَْذَهَبَنََّ بالذي أَوحينا إليكَ ، ثم لا تَجِدُ لكَ بهِ علينا وكيلاً ) (الآية 86) ، فإذا كان النبي نفسه مهدداً بحجب القرآن عنه ، لأنه من عند الله ، لا من عند نفسه ، فهذا برهان آخر لأصحاب العقول اللماحة والذوق الرفيع .
وعن حفظ القرآن من التحريف وإحكامه يقول : ( وإنْ كادوا ليَفتِنونكَ عن الذي أَوحينا إليكَ لِتَفتَرِيَ علينا غيرَهُ ، وإذاً لاتَّخذوكَ خَليلاً . ولولا أَنْ ثبَّتناكَ لقد كِدتَ تَرْكَنُ إليهم شيئاً قليلاً . إذاً لأذقناكَ ضِعْفَ الحياةِ وضِعفَ المماتِ ، ثم لا تَجِدُ لكَ علينا نَصيراً ) ( الآيات 73 – 75 ) .
وجواباً على طلبات المشركين المتعددة المتنعتة ، يعرفهم القرآن بطبيعة أنفسهم البخيلة قياساً إلى عطاء الله ورحمته يقول تعالى : ( قلْ : لو أنتم تملِكونَ خزائنَ رحمةِ ربي ، إذاً لأمسكتم خشيةَ الإنفاق ِ. وكانَ الإنسانُ قَََتوراً ) ( الآية 100) ، كما يقول بعد ذكر نعمه على المطيع والعاصي من عباده : ( كُلاً نُمِدُّ هؤلاءِ وهؤلاءِ من عَطاءِ ربِّكَ ، وما كانَ عَطاءُ ربِّكَ مَحظوراً . اُنظرْ كيفَ فضَّلنا بعضَهم على بعضٍ ، ولَلآخرةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وأكبرُ تَفضيلاً ) ( الآيتان20و21) .
خطاب الله للمشركين الموجه عن طريق النبي :
في هذا الخطاب نتعرف على نفسيات المشركين القلقة ، وطباعهم المنحرفة ، وأسئلتهم المتعنتة ، بما يضعف دعاواهم ، ويسقط حججهم ، ويضعهم أمام الحقائق والجادة السوية إن كانوا يطلبونها .
مما نتعرف عليه إساءة الأدب في استماعهم للقرآن الكريم ، حين يتخذون موقفاً مسبقاً بالرفض ، قبل السماع للهدى والبينات التي ترد فيه : ( وإذا قَرأتَ القُرآنَ جَعلنا بَيْنَكَ وبَينَ الذينَ لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ حِجاباً مَسْتُوراً . وجَعلنا على قلوبِِهم أََكِنَّةً أنْ يَفقهوهُ وفي آذانِهم وَقْراً . وإذا ذكرتَ ربَّكَ في القرآنِ وحدَهَ ولَّوا على أدبارِهم نُفوراً . نحن أعلمُ بما يَستمعونَ بِهِ إذ يَستمعون إليكَ ، وإذ هم نَجوى ، إذ يَقولُ الظالِمون : إنْ تَتَّبِعونَ إلا رجُلاً مَسحوراً . اُنظُرْ كيفَ ضربوا لكَ الأمثالَ ، فَضَلُوا ، فلا يَستطيعونَ سبيلاً )( الآيات45-48) .
كما نتعرف على تجاوزهم الحد في طرح الأسئلة ، وادّعائهم العلم ، حين يسألون عن (الروح ) ، وهي من أمور الغيب التي يعيى الفكر البشري بها : ( ويَسألونَكَ عن ِالرُّوحِ . قلِ: الروحُ من أَمْرِ ربِّي ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ) ( الآية85) .
وفي تعداد طلباتهم المتعنتة يقول تعالى : ( وقالوا : لن نؤمِنَ لكَ حتى تَفجُرَ لنا من الأرض ِيَنبُوعاً . أو تكونَ لَكَ جنَّةٌ من نخيلٍ وعِنَبٍ ، وتُفَجِّرَ الأنهارَ خِلالَها تفجيراً . أو تُسقِطَ السماءَ كما زعمتَ علينا كِسَفاً ، أو تَأتيَ بِاللهِ والمَلائكةِ قَبيلاً . أو يَكونَ لكَ بيتٌ من زُخْرُفٍ أو تَرقى في السماءِ ، ولن نُؤمِنَ لِرُقيِّكَ حتى تُنَزِّلَ علينا كتاباً نَقرؤُهُ ...) ( الآيات 90-93) .
ومثل ذلك إنكارهم البعث بعد الموت : ( اُنظرْ كيفَ ضَرَبوا لكَ الأمثالَ ، فَضَلُّوا فلا يَستطيعونَ سَبيلاً . وقالوا : أإذا كُنَّا عِظاماً ورُفاتاً ، أإنَا لَمَبعُوثونَ خَلْقاً جَديداً ) ( الآيتان 48و49) .
ومع ذلك يخيرهم الله تعالى أخيراً بين الإيمان والكفر ، لكنه تخيير خطير ، ينطوي على سوء المصير إن لم يكن مسدداً : ( قُلْ : آمِنوا بهِ أو لا تُؤمِنوا . إنَّ الذين أُوتوا العِلْمَ من قبلِهِ إذا يُتلى عليهم يَخِرُّونَ للأذقانِ سُجَّداً ) ( الآية 107) ، وهنا تعريض بجهلهم ، وضرب المثل لهم بعلماء أهل الكتاب الذين يعدّ إيمانهم به حجة على الآخرين .
خطاب الله للناس كافة :
هذا الخطاب قد يكون بصيغة المفرد انسجاماً مع إشعار الفرد بالمسؤولية ، وعرضه على ربه فرداً وحيداً : (اقرأْ كتابَكَ كفى بنفسِكَ اليومَ عليكَ حسيباً ) ( الآية14) ، كما يكون بضمير الجمع : ( رَبُّكُمُ الذي يُزجي لكُمُ الفُلْكَ في البحرِ لِتَبتغوا من فضلِهِ . إنَّهُ كانَ بِكم رَحيماً. وإذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ قي البحرِ ، ضلَّ مَنْ تَدعونَ إلا إيَّاهُ . فلما نجّاكم إلى البَرِّ أَعرضتُم . وكانَّّ الإنسانُ كَفوراً . أَفَأَمِنتم أن يَخسِفَ بكم جانِبَ البَرِّ، أو يُرسِلَ عليكم حاصِِباً ، ثم لا تَجدوا لكم وكيلاً . أم أمنتم أن يُعيدَكم فيهِ تارةً أُخرى ، فيُرسلَ عليكم قاصِفاً من الريح ِ، فيُغرقَكم ، بما كفرتم ، ثم لا تجدوا لكم علينا بهِ تَبِيعاً ) ( الآيات 66-69) يحمل تعداد نعم الله عليهم ، وفي الوقت نفسه يكشف عقوقهم لهذه النعم ، كما يحمل تعريضاً بانحرافهم ، بما يستجيش وجدانهم إلى الاستقامة ، وإلى شكر المنعم ، إيماناً به واعترافاً بفضله الواسع عليهم ، وهي استجاشة قائمة على لمس أوتار النفس البشرية في لحظات حاجتها إلى بارئها أشد الحاجة ، وفيها تكون النفس الصافية مهيأة للاستجابة .
الخصائص الفنية لهذا الحوار :
1 – وفرة استخدام لفظ فعل الأمر للنبي ( قلْ) صريحاً /21/ إحدى وعشرين مرة ، وأفعال الأمر والنهي الأخرى /16/ ست عشرة مرة ، وضمير المخاطب ( الكاف ) و (أنت) استخداماً واسعاً .
2 – غلبة هذا النوع من الخطاب على أنواع الخطاب الأخرى ، أي الخطاب من طرف واحد ، والسامع صامت لا يجيب . وفي صمت النبي على سماع خطاب الله وصمت المؤمنين استسلام واطمئنان وأدب وعبودية ، كلها تليق بجلاله وهيبته ، أما صمت المشركين فقد تعني إخفاقهم وانقطاع حجاجهم ، أو جحودهم وإنكارهم .
3 – تعدد مستويات هذا الخطاب ، فهو حيناً يخاطب النبي نفسه مباشرة لتزكيته وتثبيته ،أو لتلقينه الحجج ، وأحياناً يقصد إلى مخاطبة الصف المسلم أو المشركين .
4 – انسجامه مع موضوع السورة ، ألا وهو شخص الرسول ، فكان الخطاب في معظمه موجهاً للرسول عليه السلام .
5 – مزية خفية يدركها المتذوقون اللماحون ، ألا وهي برهان على صدق هذا القرآن ، وأنه من عند الله ، الذي هو المتكلم أو صاحب الخطاب الأول في السورة ، فضلاً عن البراهين الأخرى .
6 – إضفاء الجدية والهيبة والجلال على السورة بأسرها . فضمير المخاطب الفرد الذي كان يخص النبي محمداً ، يحسه القاريء اليوم أنه يخصه هو ، وأن المخلوق أياً كان ، حين يعلم أن الله تعالى نفسه يخاطبه ، لا بد أن يستشعر هذه المعاني الجليلة في نفسه .
خطاب الله لبني إسرائيل :
هو في الحقيقة خطاب تاريخي ، أي جاء في كتاب الله في الزمن الماضي ، أي قبل بعثة النبي محمد عليه السلام ، ولا يُقصد به مباشرةً بنو إسرائيل في عهده ( وَقَضَينا إلى بني إسرائيلَ لَتُفسِدُنَّ في الأرضِ مرَّتينِ ، ولَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كبيراً ...) ( الآيات 4 - 8 ) ، والمقصود في هذه الآيات أشياء منها :
1- قدرة الله على تصريف القوانين والمخلوقات حسب مشيئته التي لا تُردُّ ( كانَ وَعْداً مَفعولاً ) (الآية5) ، وهذا فيه ترهيب لمشركي مكة وسواهم .
2 – طمأنة النبي محمد والصف المسلم إلى أن الغلبة للحق على الباطل ، كما يشهد تاريخ بنــــــي إسرائيل .
3 – تأكيد العدل الرباني في (قانون ) المحاسبة على العمل ، لا على الحسب أو النسب أو العرق مما يظنه البشر شيئاً يعتدُّ به : ( إنْ أَحسنتُم أَحسنتُم لأنفٌسِكم ، وإنْ أَسأتُم فلها ..) (الآية 7)
( عسى ربُّكم أن يَرحَمَكم . وإنْ عُدتُم عُدنا . وجَعلنا جهنَّمَ للكافرينَ حَصِيراً ) (الآية 8)، فإذا قيل هذا الكلام ، ونفِّـذ في بني إسرائيل – وهم أهل كتاب – فمن باب أولى أن يُنفَّذ في غيرهم أيضاً مثل مشركي مكة .
4 – الانسجام مع ذكر المسجد الأقصى الذي أُسريَ إليه النبي محمد ( سُبْحانَ الذي أَسرى بِعبدِهِ ليلاً من المسجِدِ الحَرامِ إلى المَسجِدِ الأقصى الذي باركنا حَولَه..) ( الآية 1) .
5 – الانسجام مع دعاء الذين أوتوا العلم من قبل القرآن ، الذين يرد دعاؤهم في آخر السورة إيمانـاً بنبوة محمد ، ففي دعائهم إشارة إلى وعد الله النافذ ( يقولون : سُبحانَ ربِّنا . إنْ كانَ وَعْدُ رَبِِّنا لَمفعولاً )( الآية 108 ) .
يلفت نظرنا في بداية هذا الخطاب تعبير ( وَقَضَينا إلى بني إسرائيلَ ..) (الآية 4) ، وفي خطاب الله للنبي محمد في التكليفات : ( وقضى ربك : ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدينِ إحساناً ..) (الآيات 23-38) الوحدة في الصيغة التعبيرية بما يوحي بوحدة الذي (قضى) ، وبالانسجام بين أجزاء السورة وتماسكها ، فضلاً عن وحدة الرسالة ، ووجوب سريان هذا (القضاء ) ، وهي لطيفة من لطائف التعبير القرآني المعجز .
كلام المشركين :
هذا النوع من الحوار أقرب إلى نوع الحوار من طرف واحد ، فهو على وفرته في آيات أو بضع آيات متفرقة ، أوفي مجموعة آيات متكاملة ، لا ترد الإجابات عليه مباشرة كالحوار الثنائي بين الله تعالى وإبليس ، أو بين النبي موسى وفرعون .
مثلاً بعد تعداد حزمة من طلباتهم المتعنتة : ( وقالوا : لن نؤمنَ لكَ حتى ...أو تكونَ ..أو تُسقطَ ... أو تأتيَ ..أو يكونَ لك ..أو ترقى في السماء ..حتى ..) ( الآيات 90-93 ) يأتيهم الجواب بأمر من الله لنبيه : ( قلْ : سبحانَ ربي . هل كنتُ إلا بشراً رسولاً )(الآية 93) .
ومثل ذلك عن تساؤلهم المكذب للبعث بعد الموت : (... وقالوا: أإذا كُنَّأ عِظاماً ورُفاتاً أإنَّا لَمَبعوثونَ خَلْقاً جَدِيداً ) ( الآية 98 ) ، يجيبهم الله بضمير الغائب ( أَوَ لَم يَروا) وليس( أولم تَرَوا) : ( أَوَ لَم يَرَوا أنَّ الذي خَلَقَ السماواتِ والأرضَ قادِرٌ على أن يَخلُقَ مِثلَهم ، وجَعَلَ لهم أَجَلاً ، لا رَيْبََ فيه ِ ، فأبى الظالِمونَ إلا كُفوراً ) ( الآية 99) .
والحكمة في هذه الصيغ - كما نقدر - متعددة الوجوه ، منها استصغار شأنهم من جهة ، ونقل الحوار من حوار مع أشخاص (ولذلك لم يذكر أسماء القائلين ) إلى حوار أفكار مع أفكار من جهة ثانية ، وفي ذلك نقل للقضايا المطروحة في الحوار إلى ساحة العموم والخلود ، والله أعلم .. وفي ذلك إتاحة المجال لدخول القاريء اليوم إلى أن يتفاعل مع النص ، كأن الخطاب يخصه هو أيضاً ، وهو غرض من أغراض التعبير القرآني المقصودة .
خطاب الله للملائكة :
لم يزد هذا الخطاب عن عبارة واحدة ( وإذ قُلنا لِلمَلائكةِ : اسجُدوا لآدمَ ) (الآية 61) ، وهو تعبير كافٍ للدلالة على نفاذ قول القائل (كن فيكون) ، بقدر ما هو معبر عن طبيعة الملائكة المطيعة المستسلمة ، مقارنة بغيرهم من المخلوقات العاصية ، بدءاً بإبليس وحزبه الذين يجادلون ويماحكون . ثم إن السياق لا يحتاج للتوسع في أخبار الملائكة والعالم الغيبي الذي خوطبوا فيه . ( اسجُدوا لآدمَ ) عبارة موجزة لكنها مكتنزة بكل هذا المعاني وسواها .
ابتهال أهل العلم إلى الله :
(قُلْ : آمنوا بهِ أو لا تُؤمِنوا . إنَّ الذينَ أُُوتُوا العِلمَ من قَبْلهِ إذا يُتلى عليهم يَخِرُّونَ لِلأذقانِ سجَّـــــداً .ويقولونَ : سُبحانَ ربِّنا . إنْ كانَ وَعْدُ ربِّنا لَمَفعولاً ) (الآيتان 107و108 ) .
أهمُّ ما في هذا الابتهال على جماله ووجازته .. التصديق بنبوة محمد التي يكذب بها مشركو مكة الأميون ، ثم الأدب مع الله ، الذي ينطوي على تعريض خفي بسوء أدب إبليس وفرعون ومشركي مكة في الوقت نفسه . وفيه الانسجام مع ألفاظ (الوعد) ومدلولاته التي وردت في السورة /6/ ست مرات ٍ (5) وتكرار (العبارة – التعليق ) في صدر السورة ( ... وكانَ وَعْدُاً مَفعولاً ) (الآية 5) ثم في نهاية السورة ، بما يحقق مزيداً من التماسك بين أجزاء السورة والانسجام ، والتلاقي الموسيقي الخفي ، كرد العجز على الصدر .
الحوار الثنائي :
كل ما سبق من حديث عن الحوار مختص بالحوار من طرف واحد ، وهو الغالب في السورة ، أما الحوار الثنائي ، فهو في مشهدين اثنين قصيرين ، متشابهين إلى حدّ كبير ، ولا سيما في أن أحد الطرفين ( إبليس- فرعون ) عاصٍ للطرف الآخر ، و مصيرهما واحد أيضاً وهو (الخسران المبين) أو الهزيمة ، لا في الحوار وحده ، بل في النتيجة أو المعركة الدائرة بين الحق والباطل . وهذا العصيان أو الخلاف الشديد هو الذي أدى فنياً للتعبير عنه بشكل حوار ثنائي ، يلتقي فيه الطرفان وجهاً لوجه ، لمقارعة الحجة للفرية أو البدعة الضالة مباشرة .
حوار بين الله وإبليس:
(وإذ قُلْنا لِلمَلائكةِ : اسجُدوا لآدَمَ .
فَسَجَدوا إلا إبليسَ ،
قـالَ : أَأَسجُدُ لِمَنْ خَلقتَ طِيناً ؟
قـالَ : أرأيتَكَ هذا الذي كَرَّمتَ عليَّ ، لَئِنْ أَخَّرتَني إلى يَومِ القِيامةِ ، لأحتَنِكَنَّ ذُرِّيَتَهُ إلا قليلاً .
قـالَ : اذهبْ . فَمَنْ تَبِِعَكَ منهم ، فإنَّ جَهنَّمَ جَزاؤكم جَزاءً مَوفُوراً . واستفزِزْ من استطعتَ منهم
بصوتِكَ ، وأَجْلِبْ عليهم بَِِخَيْلِكَ و رَجِلِكَ ، وشاركْهم في الأموالِ والأولادِ ، وعٍِدْهم . وما
يَعِدُهُمُ الشيطانُ إلا غُروراً . إنَّ عبادي ليسَ لَكَ عليهم سلطانٌ . وكفى بِربِّكَ وكيلاً ) ( الآيات 61- 65) .
في هذا المشهد الحواري عدد من الدلالات والجوانب الفكرية والفنية :
أولها : عداوة الشيطان للإنسان ، وعصيانه في الوقت نفسه للرحمان .
ثانيها : الانسجام الفني والفكري بين هذا المشهد ومشهد مجادلة مشركي مكة للنبي محمد عليه السلام ، بدءاً باعتراضهم على طبيعته البشرية ، واعتراض إبليس على طبيعة آدم (الطينية) ، ومثل ذلك اعتراضهم على افتقار النبي إلى (جنة من نخيل وعنب ) (تفجير الأنهار ) ( بيت من زخرف ) (الرقي في السماء ) .
ثالثها : الانسجام الفكري والفني بينه وبين مشهد حوار النبي موسى مع فرعون أيضاً .
رابعها : التفاتان فنيان رائعان : الأول الانتقال من مخاطبة الله لإبليس إلى مخاطبة الناس والمخلوقات أجمعين : ( وما يعدهُمُ الشيطانُ إلا غُروراً ) ، وهذا معلوم في الفن البشري ، حين يلتفت أحد المتكلمين في الحوارية إلى غير الذي كان يخاطبه ، كالجمهور مثلاً .
الالتفات الثاني : ( وكفى بربِّكَ وكيلاً ) وهو كالالتفات الأول في الجمالية والتأثير ، لكنه هذه المرة انتقال من خطاب الله لإبليس إلى خطاب النبي محمد ، صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك ما فيه من انتقال زماني ومكاني بعيدين ، وما فيه من تثبيت للنبي وتكريم له في الوقت نفسه ، ولاسيما أن السورة تدور حول شخص النبي .
حوار بين النبي موسى وفرعون :
( ولقد آتينا موسى تِسعَ آياتٍ بيّناتٍ ، فاسألْ بني إسرائيلَ إذْ جاءَهم ،
فقالَ له فِرعونُ : إني لأظنُّكَ ، يا موسى ، مَسحوراً .
قــــــــــــــــالَ : لقد علمتَ ما أنزلَ هؤلاءِ إلا ربُّ السماواتِ والأرضِ بَصائرَ ، وإنّي لأظنُّكَ ، يا فِرعونُ مَثبوراً .
فأرادَ أَنْ يَستفزَّهم من الأرضِ ، فأغرقناهُ ومَنْ معه جميعاً . وقلنا من بعدِهِ لِبني إسرائيلَ : اسكنوا الأرضّ، فإذا جاءَ وعدُ الآخرةِ جئنا بكم لَفِيفاً ) ( الآيات101 – 104 ) .
الحوار الثنائي هنا آيتان وحسب! ومع ذلك فيهما من الدلالات ما فيهما :
1 – الانسجام بين تهم فرعون وتهم مشركي مكة للرسول : ( إِنْ تَتَّبِعونَ إلا رجلاً مَسحوراً ) ( الآية 47).
2 – الانسجام مع مجادلة الشيطان للرحمان من حيث الخلاف والعصيان وسوء المصير .
3 – التعريض الفني الخفي غير المباشر .. بعناد مشركي مكة الذين يحسون صدق نبوة محمد ، كما أحسها فرعون ( لقد علمتَ ما أنزَلَ هؤلاءِ إلا ربُّ السماواتِ والأرضِ بصائرَ ) .
4 – المجانسة اللفظية الساخرة في جواب النبي موسى لفرعون : ( إني لأظنُّكَ يا فرعونُ مثبوراً = إني لأظنُّكَ يا موسى مسحوراً ) ، مجانسة في الصيغة والإيقاع ، وترشيح جميل لسوء العاقبة والمصير في الوقت نفسه .
ولا يفوتنا التعليق المعجز على المشهد الحواري ، الذي يختمه الله بنصر النبي موسى و بني إسرائيل أولاً ، وهو ترشيح لنصر النبي محمد وصحبه ، ثم إرجاع الغالب والمغلوب إلى يوم القيامة ثانياً ، أي إلى الله تعالى الذي له الأمر أولاً وآخراً .
أساليب الإقناع في سورة الإسراء
السور المكية موضوعها الرئيسي هو عقيدة التوحيد ، وسورة الإسراء إحدى السور التي حفلت بعدد من أساليب الإقناع بهذه العقيدة ، تثبيتاً للمؤمنين ، وتوضيحاً للمترددين ، وقمعاً للمعاندين .
ومما زاد من أهمية الإقناع ووسائله هو صرف النظر عن منهج (الخوارق) طريقاً للإقناع ، تلك الخوارق التي كانت إحدى معجزات الأنبياء السابقين عليهم السلام ، على حين أُعطيت الأولوية للقرآن الكريم للإقناع والإعجاز في هذه المعركة . وقد تضمنت السورة توضيحاً لذلك ، فقال تعالى : ( إنَّ هذا القُرآنَ يَهدي للتي هِيَ أَقْوَمُ ) (الآية9) كما قال : (ولقدْ صَرَّفنا في هذا القرآن ِلِيذّكّروا ، وما يَزيدُهم إلا نفوراَ ) (الآية41) وقال : ( ولقدْ صَرّفنا للناس ِفي هذا القرآن ِمن كلَ ِمَثَلٍ ، فأبى أَكثَرُ الناس ِإلا كُفوراً ) (الآية89) .
وعن تجاوز منهج (الخوارق ) في الإقناع جاء في السورة قوله تعالى : ( وما مَنَعَنا أَنْ نُرسلَ بالآيات ِإلا أَنْ كذّبَ بِها الأوَّلونَ ، وآتينا ثَمودَ الناقةً مُبصِرَةً فَظَلَموا بِها ، وما نُرسِلُ بالآياتِ إلا تخويفاً ) (الآية 59) ، وهذا لم يمنع من الإشارة إلى الآيات الخوارق التي كانت لبعض الأنبياء السابقين ، مثل معجزة الطوفان للنبي نوح ( ذُرّيَةَ مَنْ حَملنا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كانً عَبداً شَكوراً ) (الآية 3) أو ما أُوتيه النبي موسى من معجزات : ( ولقدْ آتينا موسى تِسْعَ آياتٍ بَيّناتٍ فاسألْ بني إسرائيلَ إذْ جاءَهم ، فقالَ لَهُ فِرعَونُ : إنّي لأظنُّكً يا موسى مَسحُوراً ) (101 الآية ) ، وهذا يدرج في باب الإقناع بالتجربة التاريخية .
تعدد وسائل الإقناع :
لما اختلف الناس في الأفهام والأذواق ودرجة الاستجابة والعناد ، وفي أسباب المناقشة والجدال أيضاً ..كانت طرق إقناعهم ووسائلها متعددة لاستيعابهم ، وإغلاق منافذ الشيطان والمكابرة عليهم . وقد كشف الباحثون أسلوبين مشهورين ، أحدهما اعتماد التأثير الوجداني بمخاطبة النفوس والضمائر من خلال الترغيب أو الترهيب ، وثانيهما مخاطبة العقل بالحجج والبراهين العقلية المنطقية . فمن لم يستجب للأسلوب الأول استجاب للأسلوب الثاني ، أو يجتمع للإنسان أسلوبان في الوقت نفسه ، وذلك خير على خير . (6)
سوف نجد أن هذه السورة مع اعتمادها هذين الأسلوبين المشهورين ( الوجداني والعقلي ) لم تكتفِ بهما ، بل جاءت بأساليب أخرى ، لا تقل أهمية عن هذين الأسلوبين ، بعضها ظاهر جلي ، وبعضها باطن خفيّ ، وفي ذلك ما فيه من القوة والجمال على حدّ سواء .
الترغيب والترهيب ( أو التهديد والوعيد مقابل التكريم والنعم الغامرة ) :
الترغيب هو التحبيب برضى الله تعالى ودخول الجنة والخلاص من النار ، والترهيب هو التخويف من سخط الله والحرمان من الجنة ودخول النار ، ولما كان هناك من يُنكر كل ذلك ، صار الترغيب والترهيب متعلقين بالحياة الدنيا أيضاً ، زيادة في التأثير والإقناع .
بعد أن بين الله تعالى نعمته على البشر فيما سخّر لهم من نعم البحر ركوباً وصيداً واستمتاعاً بقوله : ( ربُّكُمُ الذي يُزجي لَكُمُ الفُلْكَ في البحرِ لِتَبتغوا من فَضلهِ . إنَّهُ كانَ بِكم رَحِيماً ) (66) ينتقل إلى الترهيب : ( وإذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ في البحرِ ، ضلَّ من تَدعونَ إلا إيّاه ، ولمّا نجّاكم إلى البَرِّ أَعرضتُم ، وكانَ الإنسانُ كَفوراً . أََفَأَمِنتم أَنْ يَخسِفَ بِكم جانِبَ البَرِّ أو يُرسِلَ عليكم حَاصِباَ ، ثمَّ لا تَجِدوا لكم وكيلاً . أم أمِنتم أَنْ يُعيدَكم فيهِ تارةً أُُخرى ، فَيُرسِلَ عليكم قاصِفاً من الرِّيحِ ، فُيُغرِقَكم بما كفرتم ، ثم لا تَجِدوا لكم علينا بهِ تََبِِيعاً ) (الآيات67و 68و69)
ومن نعم الله على الناس قوله تعالى : ( وجَعلنا الليلَ والنهارَ آيتيْنِِ ، فَمَحَونا آيةً الليلِ ِ، وجَعلنا آيةَ النهارِ مُبصِرةً ، لِتَبتغوا فضلاً من ريِّكم وَلِتَعْلَموا عَدَدَ السِّنينَ والحِسابَ ، وكلَّ شيءٍ فصَّلناهُ تفصيلاً ) (الآية12) والعدل في الحساب يوم القيامة يجمع الترغيب والترهيب على صعيد واحد : ( وكلَّ إنسانٍ ألزمناه طائرهُ في عُنُقِهِ ، ونُخرِجُ لَهُ يَومَ القِيامةِ كتاباً يَلقاهُ مَنشوراً . اقرأْ كتابَكَ ، كفى بِنفسِكَ اليومَ عَليكَ حَسيباً . مَنِ اهتدى فإنَّما يَهتدي لِنفسِهِ ومَنْ ضَلِّ فإنما يَضِلُّ عليها ، ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى وما كنّا مُعذِّبِينَ حتَّى نَبعثَ رَسولاً ) (الآيات 13- 15 )
أما التهديد أو التخويف الصريح فمثل قوله تعالى : ( ومَنْ كانَ في هذهِ أعمى ، فَهوَ في الآخرةِ أَعمى وأَضلُّ سَبيلاً ) (الآية72) وقوله عزَ وجلَّ : ( ومَنْ يَهدِ اللهُ فَهوَ المُهتدِ ، ومَنْ يُضلِلْ ، فلن تجدَ لهم أولياءَ من دونِهِ ، ونَحشرُهم يَومَ القِيامةِ على وجوهِهم عُمْياً وبُكماً وصُمّاً ، مأواهُمُ جَهَنَّمُ ، كلما خَبَتْ زِدناهم سَعيراً ) (الآية 97)
ومثلُ ذلك الاستصحاب بالتذكير بما حصل تاريخياً للمعاندين كفرعون وقومه : ( فأرادَ أن يَستَفِزَّهم من الأرضِ ِ، فَأَغرقناهُ ومَنْ مَعَهُ جَميعاً ) (الآية 103) أو قوم نوح عليه السلام : (وكم أهلكنا من القرونِ مِنْ بَعدِ نُوحٍ ، وكفى بِربِّكَ بِذُنوبِ عِبادِهِ خَبيراً بَصيرأً )(الآية17) أو الأقوام التي لم تَردَعْ طغاتِها : ( وإذا أَرَدنا أَنْ ثهلِكَ قريةً أَمَرْنا مُترفيِها ، فَفَسَقُوا فيها ، فَحَقَّ عليها القولُ فَدَمَّرناها تَدميِراً ) (الآية16)
وأخيراً الحكم العام قانوناً يتجاوز الزمان والمكان والأمة بعينها : ( وإنْ مِن قريةٍ إلا نحنُ مُهلِكوها قبلَ يومِ القيامةِ أو مُعَذِّبوها عذاباً شديداً . كانَ ذلك في الكِتابِ مَسطوراً )(الآية 58) .
يندرج في هذا النوع ما ورد من آيات تكشف خبايا المشركين حين يجتمعون سراً للكيد والمكر ( نحنُ أعلمُ بِما يَستمِعونَ بِهِ ، إذْ يَستمِعونَ إليك وإذْ هم نَجوى ، إذْ يَقولُ الظَّالِمونَ : إنْ تتبعونّ إلا رجلاً مَسحوراً ) (الآية47) أو كشف خبايا نفوسهم أيضاً : ( وإنْ كادوا لَيَفتِنونَكَ عن الذي أَوحَيْنا إليكَ لِتفترِيَ علينا غَيْرَهُ ، وإذاً لاتَّخذوكَ خَليلاً ) (الآية73)
أما النوع المعجز ، الذي يفوق كل ما ذكرنا من أساليب الترهيب ، فهو ما جاء من آيات تحمل التهديد والوعيد لرسول الله المعصوم إذا وقع منه أدنى تفريط ، وهو الذي أكرمه الله تعالى ، وأثنى عليه في أكثر من موضع في القرآن ، ولاسيما سورة (الإسراء) . وحادثة الإسراء نفسها أعظم دلالة على تكريم النبي .
الرهبة في هذه الآيات أنها موجهة إلى نبي مثل محمد عليه السلام ، فكيف الحال بالنسبة إلى بقية الناس . ووجه الإعجاز فيها أنها لا يُعقل أن يخاطب بشرٌ نفسَه بهذه اللهجة ، إلا أن ذلك خطاب رباني ، لا يملك بشر حتى الأنبياء إلا التسليم به والقبول العميق الكامل . تأمل هذه الآيات ( لا تََجعَلْ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ فَتقعُدَ مَذموماً مَخذولاً ) (الآية22) ( ذلك مِمَّا أََوحى إليكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكمةِ ، ولا تَجعلْ مَعَ اللهِ إلهاً آخرَ فتُلقى في جَهنَّمَ مَلوماً مَدحوراً ) (39) ( ولولا أَنْ ثبّتناكَ لقدْ كِدتَ تَركَنُ إليهم شيئاً قليلاً .إذاً لأذقناك ضِعفَ الحَياةِ وضِعفَ المَمَاتِ ، ثم لا تَجِدُ لكَ عَلينا نَصيراً ) (الآيتان 74و75 ) .
وقد فطن بعض الباحثين إلى التلازم بين العقل والعاطفة في أسلوب القرآن الكريم ، فقال: أما ما يبدو فوق طاقة البشر حقاً في الأسلوب القرآني ، فهو أنه لا يخضع للقوانين النفسية التي بمقتضاها ترى العقل والعاطفة لا يعملان إلا بالتبادل وبنسب عكسية ، بحيث يؤدي ظهور إحدى القوتين إلى اختفاء الأخرى ، ففي القرآن لا نرى إلا تعاوناً دائماً في جميع الموضوعات التي يتناولها بين هاتين المتنافرتين (7) .
الحجاج العقلي (مقابل الجحود والشكوك ) :
كل شبهة أو شكٍّ أو قالةِ جحود أوردها المشركون يرد عليها القرآن في هذه السورة رداً عقلياً مُحكماً ، لا يدع زيادةً لمستزيد .
فمثلاً زعم المشركون أن الله اتخذ من الملائكة أولاداً له إناثاً ، وهو زعم يجمع بين الشرك وبين اتخاذ الإناث ، وهم في الوقت نفسه يميزون بين الإناث والذكور ، لتفضيلهم الذكور على الإناث ، بل وأدهم الإناث ظلماً وعدواناً ، فكيف استقام لهم هذا الاعتقاد الأعوج ، بالشرك أولاً ، وبتفضيل أنفسهم على الله تعالى ثانياً ، ولما كان هو الخالق فكيف يفضلكم على نفسه : ( أَفَأصفاكم ربُّكم بِالبنينَ واتَّخذَ مِنَ الملائكةِ إناثا . إنَّكم لَتَقولونَ قولاً عَظيماً ) (40) .
أو زعمهم الشرك بوجود أكثر من إله مع الله ، ينقض ذلك أن وجود آلهة أخرى غير الله يفتح الباب لمنازعة الله الواحد سلطانَه ووجودَه ، فكيف يستقيم ذلك : ( قلْ لو كانَ مَعَهُ آلهِةٌ كما يَقولونَ إذاً لابتَغََوا إلى ذي العرشِ ِسَبِيلاً ) (42) .
كما ينقض هذه الدعوى الباطلة أن آلهتهم المُدَّعاة من بشر أو حيوان أو حجر أو جان أو شيطان ، لا يمكنها أن تنصرهم إذا استنصروها ، بل هي بحاجة إلى الله تعالى ، تلتمس إليه القرب ومنه النُّصرةَ ، وتخاف من عذابه : ( قلِ ادعوا الذين زعمتم من دونهِ ، فلا يَملكونَ كشفَ الضُّرِّ عنكم ولا تحويلاً . أولئك الذين يَدعونَ يبتغونَ إلى ربِّهمُ الوسيلةََ ، أيُّهم أقربُ ، ويَرجونَ رحمتَهُ ، ويَخافونً عذابَهُ ، إن عذابَ ربِّكَ كانَ محذوراً )(الآيتان 56و57) .
وينقض دعوى الشرك أن ذلك لا يليق بكمال الله وجلاله ، لأن اتخاذ الولد أو الشريك أو الولي مظهر من مظاهر الضعف ، الذي يجوز للبشر والمخلوقات ، ولا يجوز بحق الخالق : ( وقُلِ الحمدُ للهِ الذي لم يتخذْ وَلَداً ، ولم يَكنْ لَهُ شَريكٌ في المُلْكِ ، ولم يَكُنْ لهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُلِّ وكَبِّرْهُ تكبيراً ) (الآية 111) .
كالأمم السابقة طلب مشركو مكة من الرسول محمد عليه السلام أن يأتيهم بآيات أو معجزات خارقة للعادة حتى يؤمنوا برسالته : ( وقالوا : لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حتَّى تَفجُرَ لنا من الأرضِ يَنْبُوعاً . أو تَكونَ لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخيلٍ وعِنَبٍ فُتُفجِّرَ الأنهارَ خِلالَها تًفجيراً . أو تُسقِطَ السماءَ كما زعمتَ علينا كِسَفاً .أو تأتيَ باللهِ والمَلائِكةِ قبيلاً . أو يَكونَ لَكَ بيتٌ من زُخرُفٍ ، أو تَرقى في السماءِ ، ولن نُؤمنَ لِرُقِيِّكَ حتى تُنَزِّلَ علينا كتاباً نقرؤهُ ...)(الآيات 90-93) فما كان جواب الرسول على هذه الطلبات المتعددة المتعنتة إلا عبارتين موجزتين ، توضحان طبيعة الرسالة وحدود الرسول ، ببساطة متناهية تصفع الغرور ، وتقرب معنى النبوة هداية لا ملكاً واسعاً وسلطاناً عظيماً : ( .. قلْ سبحانَ ربي ، هل كنتُ إلا بَشَراً رَسولاً ) (الآية93).
ورداً على من طلب أن يكون الرسول مَلَكاً لا إنساناً مثل النبي محمد ، جاء الجواب بأن محمداً بشر ككل الأنبياء ، وليس من العادة إرسال مَلَك للبشر ، لأنه لا يوجد في العادة مَلَكٌ يعيش بينهم ، حتى يُرسلَ لهم رسول ملك : ( وما مَنَعَ الناسَ أَنْ يُؤمِنوا ، إذْ جاءَهُمُ الهُدى ، إلا أن قالوا : أَبَعَثَ اللهُ بشراً رسولاً ؟ قلْ : لو كان في الأرضِ ملائكةٌ يمشونَ مُطمَئنّينَ ، لَنَزَّلنا عليهم من السماءِ مَلَكاً رسولاً )(الآيتان94و95)
ومما أنكره المشركون بشدة عقيدة البعث بعد الموت : ( وقالوا : أإذا كنّا عِظاماً ورُفاتاً ، أإنَا لَمبعوثونَ خَلقاً جَديداً )(الآية49) استنكاراً وتكذيباً ، فيجيبهم القرآن بأجوبة يكمل بعضها بعضاً في القوة والإقناع :
الجواب الأول يطلب منهم أن يتحولوا إلى مادة أشد صلابة من لحم الإنسان وعظامه التي تبلى بعد الموت إن استطاعوا ليمنعوا البعث عنهم : ( قلْ كونوا حِجارةً أو حَديداً ، أو خَلْقاً مما يَكبُرُ في صدورِكم ..) (الآيتان50 و51) أي لو كنتم من مادة أشد صلابة من حديد أو حجر أو غيره مما تظنونه صلداً ، فالقانون سارٍ على بعثكم بعد موتكم .
وثانياً رداً على تساؤلهم : ( من يُعيدُنا) يجيبهم بقوة وببساطة : إن الذي خلقكم أول مرة هو القادر على إحيائكم بعد موتكم : ( قُلِِ : الذي فََطَرَكم أََوَّلَ مَرَّةٍ) (الآية 51) .
وثالثاً يسألون عن موعد البعث مدهوشين : ( فَسَيُنغِضونَ إليكَ رؤوسَهم ويَقولون : متى هو ؟ قُلْ : عسى أَنْ يكونَ قَريباً . يَومَ يَدعوكم فَتَستَجيبون بِِحَمدِهِ ، وتَظنُّون إنْ لَبِثتُم إلا قليلاً ) ( الآيتان : 51و52) .
وفي موضع آخر يجيبهم على هذا التساؤل ، البعث بعد الموت : ( أو لم يَرَوا أَنَّ اللهَ الذي خَلَقَ السماواتِ والأرضَ قادِرٌ على أَنْ يَخلقَ مثلَهم ، وجَعَلَ لهم أَجَلاً لا رَيْبَ فيهِ ، فأبى الظَّالِمونَ إلا كُفوراً ) (الآية 99) . فالله الذي خلقهم أول مرة أو الذي خلق السماوات والأرض قادر على بعثهم بعد وفاتهم . الموت حق لا ريب فيه ، ومن جعل الموت يجعل الحياة .
التجربة التاريخية :
إن الاستشهاد بالتاريخ ووقائعه ، ولا سيما مصير الأمم مع أنبيائها ، لاحتجاجٌ بالغُ الأهمية ، من حيث البرهنة المؤثرة ، ومن حيث المقارنة بالمماثلة والربط ، لأن التاريخ أحداث وقعت ، لا تحتمل النقض ، ولأن التاريخ بسبب ذلك وغيره يملك قوة خاصة في النفس البشرية .
أهم استشهاد تاريخي في هذه السورة كان بوعد الله لبني إسرائيل في الكتاب في العلو في الأرض والفساد مرتين ، واليهود أهل كتاب ، يسكنون مجاورين لأهل مكة في المدينة المنورة ، ولهم نوع من الأهمية في نفوس العرب بوجود (الكتاب ) عندهم ، وبوجود علماء بني إسرائيل فيهم . والاستشهاد بهم وبتاريخهم طريقة مؤثرة في الإقناع للعرب ، وحكاية طرف مفصل من تاريخهم إقناع لهم وللعرب المشركين من ورائهم ، فقد ورد في السيرة رجوع مشركي مكة إليهم يسألونهم في أمر النبي محمد وفي أمر القرآن ، وتباينت أجوبتهم بين مؤمنين ، وبين مكذبين مكابرين ومعاندين ، وهم واثقون من نبوة محمد وصحة رسالته (8) .
ومن الاستشهاد بتاريخ بني إسرائيل الإشارة إلى معركة النبي موسى مع فرعون المشابهة لمعركة النبي محمد مع قومه : ( ولقد آتينا موسى تِسعَ آياتٍ بيّناتٍ ، فاسألْ بني إسرائيلَ إذ جاءهم ، فقال له فرعونُ : إني لأظنُّكً يا موسى مسحوراً . قالَ له موسى : لقد علمتَ ما أنزلَ هؤلاءِ إلا ربُّ السماواتِ والأرضِ بَصائرَ، وإني لأظنُّكُ يا فرعونُ مثبوراً . فَأَراد َ أَنْ يستفزَّهم من الأرض فَأأغرقناهُ ومن معهُ جميعاً ) (الآيات101-103 )
ومثل ذلك الإشارة إلى النبي نوح في موضعين من السورة (الآيتان3و17)، وإلى ثمود والناقة التي ظلموا بها (الآية59) ، وإلى النبي داود والزبور الذي آتاه الله إياه (الآية55) .
وأخيراً يعبر القرآن عن هذه الواقعة المضطردة تاريخياً بأنها (سُنَّة) أو (قانون) : ( وإن كادوا ليستفِزّونَكَ من الأرض لِيُخرجوكَ منها . وإذاً لا يَلبثونَ خٍِلافكَ إلا قليلاً . سنَّةَ من قد أرسلنا قبلك من رسلِنا . ولا تجدُ لسُنتِنا تحويلاً ) (الآيتان 76و77) ، وهل هناك أقوى من (قانون تاريخي ) أو ( سنة ) استنها الله تعالى؟
الذين أوتوا العلم :
إن شهادة العلماء بنبوة محمد وبالقرآن الكريم عند مشركي مكة الأميين شهادة مقدرة ، لاسيما علماء أهل الكتاب ، وأقربهم أحبار بني إسرائيل المجاورون لأرض مكة ، قال تعالى : ( قلْ آمِنوا بهِ أو لا تُؤمنوا . إن الذين أُوتوا العلم من قبلِهِ إذا يُتلى عليهم يَخِرّونَ لِلأذقانِ سُجَّداً . ويقولونَ : سُبحانَ ربِّنا. إنْ كانَ وعدُ ربِّنا لَمَفعولاً . ويخّرون للأذقان يَبكونَ ويَزيدُهم خشوعاً ) (الآيات 107-109) .
إعجاز القرآن :
إعجاز القرآن في مستويين : أحدهما التحدي الذي صرَّح به القرآن : ( قلْ لئن اجتمعت ِالإنس والجنُّ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآن لا يأتونَ بِمثلِهِ ولو كانَ بعضُهم لبعضٍ ظهيراً ) (الآية88) ، وبالطبع لم يأتِ بمثله أحد .
ثانيهما ما يحسه العرب الفصحاء من السحر الحلال في بيان القرآن سواء كانوا مؤمنين أوكافرين ، و( قصة إيمان عمر بن الخطاب ، وقصة تولي الوليد بن المغيرة ، نموذجان من قصص كثيرة للإيمان والتولي ، وكلتاهما تكشفان عن هذا السحر القرآني الذي أخذ العرب منذ اللحظة الأولى ، وتُبينان- في اتجاهين مختلفين – عن مدى هذا السحر القاهر ) (9) .
دستور الحياة :
في هذه السورة من الأحكام والتشريعات والآداب السامية ما يشير إلى المصدر الرباني الذي أوحى بها ، بدءاً بعقيدة التوحيد ، ومروراً بتحديد المسؤولية ونوعيها الفردي والجماعي ، وانتهاء بقواعد السلوك والعيش والعلاقات بين الناس .
أما عقيدة التوحيد فقد جُليت بإبطال دعاوى المشركين بأنواعها واحدة واحدة من جهة ، وفي تثبيت الرسول محمد عليها ، ورفض التفريط بأدنى جزء يسير منها من جهة ثانية .
أما المسؤولية الفردية ، وهي أرقى المباديء القانونية في القوانين والدساتير المعاصرة ، ففي قوله تعالى ( .. ولا تَزِرُ وازرةٌ وِزرَ أخرى ) (الآية15) يضاف إليها ربط الحساب بإرسال الأنبياء والرسل ، بما يحقق العدل المطلق : ( وما كنا مُعذّبين حتى نبعثَ رسولاً ) (الآية 15) .
وأما المسؤولية الجماعية ، أي حين يذنب الكبراء ، أو يشيع الظلم ولا يقوم في المجتمع من ينهى عن ذلك ، أو يأخذ على أيدي الظلمة .. كانت المسؤولية أو العقاب للجماعة كلها : ( وإذا أردنا أن نُهلِكَ قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ، فحقَّ عليها القولُ فدمَّرناها تَدميراً ) (الآية16) ، وهذا قانون من قوانين علم الاجتماع والحضارة ، تلهج به اليوم علوم الإنسان الحديثة .
أما قواعد السلوك والعيش والعلاقات الاجتماعية ، فمجوعة من القيم الرفيعة ، أُمر بها الرسول
والصف المسلم أن يأخذوا بها .
أولها : الإنفاق على الأقرباء والمساكين وأبناء السبيل : ( وآتِ ذا القربى حقَّهُ والمِسكينَ وابنَ السبيل ِ..) (الآية 26) لاحظ تعبير(حقه) الموحي بالتكريم للمُعطى ، ووجوب ذلك في الوقت نفسه .
ثانيها : الاعتدال في إنفاق المال : ( ولا تُبذّرْ تبذيراً . إن المُبذّرين كانوا إخوانَ الشياطين ، وكان الشيطانُ لربهِ كَفوراً ) ( الآيتان 26و27) ( ولا تجعلْ يَدكَ مغلولة إلى عنقِكَ ، ولا تبسطْها كلَّ البسطِ ، فتقعدَ ملوماً محسوراً ) (الآية29) .
ثالثها : النهي عن قتل الأولاد بسبب الفقر : ( ولا تقتلوا أولادَكم خشيةَ إملاقٍ ، نحنُ نرزقهم وإياكم . إن قتلَهم كانَ خِطئاً كبيراً ) (الآية 31) ، لعلك لاحظت بعد تخطئة الفعل تعليل النهي بأن الرزق من الله تعالى ، بما يعني أن رزق هؤلاء الأولاد مقسوم مضمون فلا حاجة للقلق عليه ، فضلاً عن أن الرزق الذي يتمتع به الآباء نفسه هو من عند الله أيضاً .
رابعها : النهي عن فاحشة الزنى : ( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً ، وساءَ سبيلاً ) (الآية 32) ومعلوم كم تعاني المجتمعات الإباحية من أمراض جنسية فتاكة ، وسواها من انحلال الأخلاق والمجتمعات .
خامسها : تحريم قتل النفس البشرية بإطلاق ، أي بصرف النظر عن الدين والجنس والعمر : ( ولا تقتلوا النفسًَ التي حرَّمَ الله إلا بالحقِّ ، ومن قُتلَ مظلوماً ، فقد جعلنا لوليّه سلطاناً ، فلا يُسرِفْ في القتلِ ، إنه كانَ منصوراً ) (الآية 33) ، من الممكن أن يمتنع الإنسان عن قتلِ غيره ، ولكن إذا قُتِلَ له إنسان عزيز من ابن أو أخ و والد أو حبيب أو حبيبة ، فإنه يرغب أن يقتل أكثر مما قتل له ، فحال الشرع الحنيف دون ذلك ، ووضع لذلك قوانين عادلة تأخذ لذوي القتيل حقهم ، وتحول دون الإسراف في الانتقام .
سادسها : حفظ مال اليتيم حتى يبلغ سن الرشد : ( ولا تَقرَبوا مالَ اليتيم إلا بالتي هي أحسنُ ، حتى يبلغَ أشدّهُ ، وأوفوا بالعهدِ . إن العهد كانَ مسؤولاً ) (الآية34) .
سابعها : ضبط المكيال والميزان في التعامل والبيع والشراء : ( وأوفوا الكيلَ إذا كِلتم ، وزنوا بالقسطاسِ المستقيمِ ، ذلك خير وأحسنُ تأويلاً ) (الآية 35) .
ثامنها : الانضباط العلمي الموضوعي في اتخاذ الأحكام والقرارات ، ولا سيما العلمية منها : ( ولا تقفُ ما ليس لكَ بِهِ علمٌ . إن السمعَ والبصرَ والفؤادَ ، كلُّ أُولئكَ كان َ عنه مسؤولا ) (الآية 36) .
تاسعها : النهي عن التكبر والتزام التواضع ، والتكبر من عادة الزعماء الطغاة والجبارين والمغرورين : ( ولا تمشِ في الأرضِ مَرَحاً . إنك لن تخرقَ الأرضَ ، ولن تبلُغَ الجبالَ طولاً ) (الآية 37) ، والسخرية الجارحة لا تفوت الذواقين اللماحين ، وهي أليق ما تكون بهؤلاء المرحين.
أي عاقل يسمع بهذه الآداب والأحكام والقواعد ، ولا يؤخذ بها ، فيُكبِِرها ويُكبِر المصدر الذي أوحى بها ، وحث على تطبيقها ، ففرضها وأوجبها ، وجعلها جزءاً من العقيدة التي يعتقدها المكلفون بها أو محبوها . ( إنَّ هذا القرآنَ يَهدي لِلتي هيَ أقومُ ) .
علاقة الله بأكرم عباده :
الفرق بين (الربوبية) و(العبودية) في الإسلام واضح كل الوضوح ، وكذلك العلاقة بينهما واضحة ، بل إن وصف النبي بأنه عبد لله ، وإضافة ذلك إليه : (أسرى بعبدِهِ ) تكريم له . وقد رأينا من الحكمة في الوعيد الموجه للرسول : ( ... لأذقناكَ ضِعفَ الحياة وضِعفَ المَماتِ) (الآية75 ) أنه في الوقت نفسه وعيد مضاعف بالنسبة إلى بقية الناس ، ما دام النبي الكريم يخاطب مثل هذا الخطاب . وهذا ما أدرجناه في الإقناع الوجداني .
ووجه آخر لهذا الخطاب ، هو الإقناع العقلي ، إذ لا يُعقل أن يُخاطِبَ إنسانٌ ما نفسَه هذا الخطاب ، فهو يدل على طرف أعلى وأقوى وأقدر من المخاطب . انظر قوله تعالى : ( ولئن شئنا لنذهَبَنَّ بالذي أوحينا إليكَ ، ثم لا تجدُ لكَ بهِ علينا وكيلاً ) (الآية 86) . إنه تهديد بحجب الوحي أو القرآن عنه صلى الله عليه وسلم ، وهو أغلى وأهم ما يهتم به الرسول ، وهي الشارة التي ميزته عن بقية البشر ، وكانت سبب العلاقة علاقة الاصطفاء مع الله عز وجلّ .
الالتفات في سورة الإسراء
( الالتفات ) ظاهرة أسلوبية بارزة في آيات هذه السورة ، تسترعي الانتباه ، وتستدعي الدراسة ، وقد اكتشفه البلاغيون القدامى ، وصنفوه ضمن أنواع ( الخروج عن مقتضى الظاهر ) في الأسلولب لداعٍ من الدواعي البلاغية ذات التأثير في النفوس والأفكار ، كما اهتم به المحدثون فتوسعوا في تعريفه وأنواعه ، وفي الكشف عن الكثير من أغراضه ومستوياته ، ولا سيما دوره في الالتفات السردي في فن القص (10) .
وتعريف (الالتفات ) : هو التحويل في التعبير الكلامي من اتجاه إلى آخر من جهات أو طرق الكلام الثلاث : (التكلم - والخطاب - والغيبة ) ، مع أن الظاهر في متابعة الكلام يقتضي الاستمرار على ملازمة التعبير وفق الطريقة المختارة أولاً دون التحول عنها (11) .
وقد توسع بعضهم في ضم أنواع أخرى ، غير ما يشتمله هذا التعريف ، مثل التعبير ابتداءً بواحدة من هذه الطرق ، إذا كان على خلاف مقتضى الظاهر ، كأن يتحدث المتكلم عن نفسه بأسلوب الخطاب الذي يخاطب به غيره ، أو يتحدث مع من يخاطبه بأسلوب التكلم عن الغائب ، أو يتحدث عن الغائب بأسلوب الخطاب وهكذا . ومنه حديث الله - عزَّ وجل - عن نفسه بأسلوب الحديث عن الغائب : ( وإذ قال ربُّكَ للملائكةِ : إني جاعلٌ في الأرض خليفة . قالوا : أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ، ويَسفِكُ الدماءَ ، ونحنُ نسبِّحُ بحمدِكَ ، ونُقدِّسُ لكَ . قال: إني أعلمُ ما لا تَعلمون) ( البقرة : 30) ، ومنه خطاب الله لرسوله : ( عبسَ وتولى . أن جاءَهُ الأعمى ) ( عبس: 1و2 ) ، وكان مقتضى الظاهر أن يقول : ( وإذ قلتُ للملائكة ) وأن يقول لرسوله : ( عبستَ وتوليتَ أن جاءكَ الأعمى ) (12) ، كما توسعوا في عدّ الانتقال من الفعل الماضي إلى المضارع أو الأمر أو العكس ، أو من ضمير الجمع إلى المفرد أو المثنى وبالعكس ، كل ذلك مما يشمله (الخروج على مقتضى الظاهر ) (13) .
ويلقب الالتفات بشجاعة العربية ، لأن البلغاء من الأدباء كانت لديهم شجاعة بيانية استطاعوا بها مفاجأة المتلقي بالتنقل بين طرق الكلام ، قاصدين إلى أغراض بلاغية منبهين عليها بذلك (14) .
وهو فن من فنون القول يشبهه تحريك آلات التصوير السينمائي ، ينقلها من مشهد إلى مشهد آخر لمفاجأة المشاهد بلقطات متباعدات ، لكنها تدخل في الإطار الكلي الذي يُراد عرض طائفة من مشاهده ، تدلّ على ما يُقصد الإعلامُ به (15) .
الأغراض العامة للالتفات :
يحقق الالتفات – على وجه العموم – ثلاثة أغراض في وقت واحد :
أولها : التنويع في الأسلوب ، ( لأن الكلام إذا نُقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع وإيقاظاً للإصغاء إليه على أسلوب واحد ) (16) .
ثانيها : الاقتصاد والإيجاز في العبارة ، فلنتأمل الالتفات في هذا النص : ( فخلفَ من بعدِهم خلْفٌ ورثوا الكتابَ يأخذون عرضَ هذا الأدنى ، ويقولون : سيُغفَرُ لنا ، وإن يأتِهم عَرَضُ مثلُهُ يأخذوه . ألم يُؤخذْ عليهم ميثاقُ الكتابِ أن لا يقولوا على الله إلا الحقَّ ودرسوا ما فيه . والدارُ الآخرة خيرٌ للذين يتقون . أفلا تعقلون ) ( الأعراف : 169) . فالالتفات في : ( أفلا تعقلون ) خطاباً لبني إسرائيل المعاصرين لنزول النص فمن بعدهم .. فيه فائدتان :
الأولى : فنية التنويع في العبارة المثيرة لانتباه المتلقي ، والباعثة لنشاطه في استقبال ما يوجّه له ، والإصغاء إليه .
الثانية : الاقتصاد والإيجاز في التعبير ، فبدل أن يقول النص لمُعاصري التنزبل الكافرين من بني إسرائيل فمن بعدهم : وأنتم يا بني إسرائيل ما زلتم على طريقة أسلافكم ، أفلا تعقلون ؟ اقتصر النص على : ( أفلا تعقلون ) مستغنياً بأسلوب الالتفات ، للدلالة على ما يمكن فهمُه ذهناً ، إذ اعتبرهم النص داخلين في عموم خطاب الغائبين السالفين ، إذ هم موافقون على ما كانوا يفعلون ، أو يفعلون مثلهم (17) .
ثالث الأغراض العامة التي يحققها الالتفات : التنبيه على الذي تمَّ الالتفات إليه أو الالتفات عنه ( تقديراً أو تحقيراً – مدحاً أو ذماً – ترغيباً أو ترهيباً ) ، مثال ذلك : ( وقالوا : اتخذ الرحمنُ ولداً . لقد جئتم شيئاً إدّاً . تكاد السماواتُ يتفطَرنَ منه ، وتنشقُّ الأرضُ ، وتخر الجبالُ هدّاً ، أن دعوا للرحمنِ ولداً . وما ينبغي للرحمنِ أن يتخذ ولداً ) ( مريم : 88- 92) ، فقالة الشرك التي تفوه بها المشركون من الفظاعة والشناعة أن استدعت كسر السياق تنبيهاً إلى فظاعتها و إزراءً بها وبقائلها ( لقد جئتم شيئاً إدّاً ) ، بدل أن يقول : ( لقد جاؤوا شيئاً إدّاً ) . وفي ذلك تصدٍّ بالمواجهة المباشرة للخصم من أجل مناجزته .
وفرة الالتفات في سورة الإسراء :
استطعنا أن نحصي ما لا يقل عن /75/ خمسة وسبعين التفاتاً في هذه السورة ، وهي نسبة وافرة إلى عدد آياتها الـ/111/ الإحدى عشرة ومئة آية . والسبب في هذه الوفرة اجتماع ثلاثة عوامل تستدعي ذلك ، أولها : أن الالتفات يتكرر استخدامُه جداً في أسلوب القرآن المجيد ، ثانيها : وفرة الحوار في السورة ، والمعلوم أن أي انتقال من السرد إلى الحوار ، أو العكس من الحوار إلى السرد يصادفنا فيه الالتفات ، ثالثها ، وفرة أسلوب ( التعقيب) في الآيات ، والمعلوم أن التعقيب ، لون مضاف إلى الكلام ، فيه الحكمة أو ضرب المثل أو ما شاكل ، مما يسهل الانتقال أيضاً في الكلام ثم الالتفات .
الالتفات في آية الافتتاح :
في آية الافتتاح وحدها ثلاثة التفاتات في وقت واحد .
الالتفات الأول في بداية الآية : ( سبحان الذي أسرى بعبده ...) ، والمتكلم هو الله تعالى يتحدث عن نفسه ، أي تكلم بصيغة الغائب بدلاً من المتكلم ، فقال ذلك ولم يقل عزَّ وجل ( سبحاني..) ولا (سبحاننا..) ، وفي ذلك تنبيه للسامع والقاريء أولاً ، وفيه ثانياً تعظيم يليق بجلاله ، ولهذا ورد في القرآن لفظ ( سبحان الله – سبحان ربي- سبحان الذي ) /17/سبع عشرة مرة ، كما ورد لفظ ( سبحانَكَ ) /9 / مرات ، ولفظ (سبحانه ) /14/ مرة ، ولم يرد اللفظ بصيغة المتكلم ( سبحاني – سبحاننا ) مرة واحدة .
الالتفات الثاني وسط الآية : ( ... الذي باركنا حولَهُ ، لِنُريَهُ من آياتنا ) ، انتقل من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم ، فضلاً عن الانتقال من المفرد إلى الجمع ، وفي ذلك تشريف للبيت الأقصى المخصوص بالالتفات ، كما فيه تكريم للنبي محمد المقصود بالرؤية أيضاً .
الالتفات الثالث : (إنه هو السميع البصير ) ، عاد من التكلم بضمير المتكلم إلى ضمير الغائب ، كأنه استأنف التكلم بضمير الغائب الذي افتتح به الآية ، ولو حذفنا الكلام الذي فيه الانتقال الثاني ، لاضطرد السياق من حيث النسق ( سبحانَ الذي أسرى بعبدِهِ ليلاً من المسجدِ الحرام ِ إلى المسجدِ الأقصى ... إنه هو السميعُ البصير ) لكننا نخسر النكتة البلاغية التي جاء بها الالتفات الثاني من تشريف للمسجد وتكريم للنبي .
الالتفات في الآيات الحوارية :
ذكرنا من قبل أن الالتفات - عادةً - يحقق ثلاثة أغراض عامة في وقت واحد : الأول تلوين الأسلوب بما يبعث نشاط القاريء . الثاني الإيجاز أو الاقتصاد في العبارة . الثالث التنبيه على المُلتَفَت إليه أو المُلتَفَت عنه . والآن نتناول بعض الأغراض الخاصة التي يحققها في الآيات الحوارية.
من المعلوم أن أي انتقال في الكلام من الآيات الحوارية إلى الآيات غير الحوارية وبالعكس ينشأ عنه التفات ، والسياق هو الذي يعطي الالتفات الغرض الخاص به . ويمكن أن يرد الالتفات ضمن آيات الحوار نفسه ، كالانتقال من مخاطبة المفرد إلى مخاطبة الجمع أو العكس ، أو مخاطبة الحاضر بعد مخاطبة الغائب ، وهكذا .
من نماذج الانتقال إلى الحوار قوله تعالى : ( وكلَّ إنسانٍ ألزمناه طائرَهُ في عنقِهِ ، ونُخرجُ لهُ يومَ القيامةِ كتاباً ، يلقاهُ منشوراً . اقرأْ كتابَكَ ، كفى بنفسِكَ اليومَ عليكَ حسيباً ) ( الآيتان13و 14) والشاهد: ( اقراْ كتابَكَ ...) ، كان الكلام بالحديث عن ضمير الغائب ، فانتقل إلى ضمير المخاطب ، أي إن القاريء أو السامع كان يسمع كلاماً يتحدث عن شخص غائب ، هو الإنسان أي إنسان ، فإذا هو يُفاجأ بالكلام يتجه إليه نفسه ، وهو يومُ القيامة يُحاسب على عمله بالدقة المتناهية . فهو انتقال من شخص إلى شخص ومن زمان إلى زمان آخر ومن مكان إلى مكان دفعة واحدة ، وهو الغرض الخاص المطلوب ، ألا وهو الوعظ بالترغيب أو الترهيب ، وهنا يقصد الترهيب . وهذا الالتفات من أبرز أبرز أنواع الالتفات في القرآن الكريم .
ومثله قوله تعالى : ( وإذا أردنا أن نُهلكَ قريةً أمرنا مُترفيها ، ففسقوا فيها ، فحقَّ عليها القولُ فدمَّرناها تدميراً . وكم أهلكنا من القُرونِ من بعد نوح . وكفى بربَّكَ بذنوبِ عبادهِ خبيراً بصيراً ) ( الآيتان : 16و17) . موضع الشاهد: ( وكفى بربِّكَ بذنوبِ عبادِهِ ...) حيث انتقال الكلام من ضمير المتكلم ( أهلكنا ..) إلى ضمير المخاطب ( بربِّكَ ..) وهو للوعظ بالترهيب مثل الشاهد السابق ، لكن المخاطب في هذا الالتفات هو في المستوى الأول الرسول محمد عليه السلام ، ثم في المستوى الثاني كل قاريء للآية . أما وقد عرفنا الغرض الخاص من الالتفات إلى القاريء العادي في الآية السابقة ، فيحسن معرفة الغرض من مخاطبة الرسول أولاً في هذا الالتفات أيضاً . من المعلوم أن موضوع السورة هو شخص الرسول عليه السلام ، وأن الرسول وقت نزول السورة في العهد المكي كان في معركة محتدمة مع مشركي مكة ، وهو يحتمل ما يحتمل من الأذى والمشقة في نشر الدعوة ، وفي صدود المشركين وإيذائهم له ومن معه ، وهو يحتاج إلى التثبيت من ربه ، وإلى العون والنصرة ، وهذا التعقيب في الآية الذي هو التفات في الوقت نفسه يحقق الغرض : طمأنة للرسول لنتيجة المعركة ، وتهديد للمشركين المذنبين في الوقت نفسه .
ومن هذا القبيل كل بداية حوارية بلفظ فعل الأمر ( قلْ ) خطاباً من الله لنبيه محمد في بدايات الآيات أو أوساطها – وقد تكرر هذا اللفظ صريحاً / 26/ ستاً وعشين مرة – نلحظ غرضاً من أغراض الخطاب الرباني لنبيه الكريم . وفي بحث الحوار في هذه السورة .. ميزنا ثلاثة مستويات في خطاب الله لنبيه ، خطاب الله لذات النبي الشريفة تزكية وتثبيتاً ، أوتلقيناً له حجج المجادلة ، أو القصد إلى مخاطبة الأمة المسلمة من خلاله ، أو مخاطبة المشركين عن طريقه . وفي كل الأحوال رأى العلماء – وهم محقون – أن خطاب الله نبيه بفعل(قلْ) هو تكريم للنبي (18) . فلنتأمل في هذا الالتفات بفعل (قلْ) كم من الأغراض والدلالات تتحقق في الوقت الواحد .
لنتأمل هذا المقطع الحواري :
(وقالوا : أإذا كنا عظاماً ورُفاتاً ، أإنّا لمبعوثون خلَْقاً جديداً ؟
قــــــلْ : كونوا حجارةً أو حديداً ، أو خلْقاً مما يَكبُرُ في صدوركم .
فسيقولون : من يُعيدُنا ؟
قــــــــــلِ : الذي فطركم أولَ مرة .
فسيُنغضون إليكَ رؤوسهم ، ويقولون : متى هو؟
قـــــــــلْ : عسى أن يَكونَ قريباً . ) ( الآيات 49-51) .
في الآية الثانية وحدها خمسة التفاتات من فعل (قلْ ) وما بعده . وفي الالتفات بفعل (قلْ) الأول .. غير الإيجاز والتكريم للنبي وشدّ الانتباه .. نجد الحجة المبرهنة على قدرة الله في بعث الموتى أولاً ، كما نجد التحدي للمشركين أن يتحولوا إلى مادة أشد صلابة كالحجارة والحديد ثانياَ ، وأن ذلك لايحول دون بعثهم بعد موتهم ، ومع التحدي السخرية اللاذعة . وفي فعل (قلْ) الثاني : نجد المطاردة في المحاججة ، والتضييق على باطل الخصم - وقد بدأت أركانه تتهدم ضعفاً وتراجعاً – وفي فعل (قلْ) الثالث نجد الترهيب من قرب العذاب ، وقد انتهت المحاججة ، وصار الناس إلى الختام ، ولم يبقَ إلا الحساب على الأعمال : ( يومَ يدعوكم فتستجيبون بحمدهِ ، وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً ) ( الآية 52).
أما الالتفات داخل الآيات الحوارية فنمثل له بآيات التكليف الخمسة والعشرين :
( لا تجعلْ مع اللهِ إلهاً آخرَ فتَقعدَ مَلوماً مَخذولاً.
وقضى ربُّكَ : ألا تَعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً . إما يَبلغنَّ عندَكَ الكِبَرَ ، أحدُهما أو كلاهما ، فلا تَقلْ لهما : أُُفٍّ ، ولا تََنهرْهما ، وقلْ لهما قولاً كريماً .
واخفضْ لها جناحَ الذلِّ من الرحمةِ ، وقلْ : ربِّ ارحمْهما ، كما ربياني صغيراً .
ربُّكم أعلمُ بما في نفوسكم . إن تكونوا صالحينَ ، فإنه كانَ للأوّابينَ غَفوراً .
وآتِ ذا القربى حقَّهَ والمسكينَ وابنَ السبيلِ ، ولا تُبذِِّرْ تَبذيراً .
إن المُبذِرينَ كانوا إخوانَ الشياطينِِ ، وكانَ الشيطانُ لربِّهِ كَفوراً .
وإمَّا تُعرضنَّ عنهم ابتِغاءَ رحمةٍ من ربِّكَ تََرجوها ، فقلْ لهم قولاً مَيسوراً .
ولا تجعلْ يدَكَ مغلولةً إلى عنقِكَ ، ولا تَبسطْها كلَّ البسطِ ، فتقعُدَ ملوماً محسوراً .
إن ربَّكَ يَبسطُ الرزقَ لمن يشاءُ ويَقْدِرُ. إنه كانَ بعبادِهِ خبيراً بصيراً .
ولا تقتلوا أولادَكم خشيةَ إملاقِ ، نحنُ نرزقُهم وإياكم . إنَّ قتلَهم كانَ خِطئاً كبيراً .
ولا تَقرَبوا الزنى إنه كانَ فاحشةً ، وساءَ سبيلاً .
ولا تقتلوا النفسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقّ ، ومن قُتلَ مظلوماً ، فقد جعلنا لِوَلِيِّهِ سُلطاناً ، فلا يُسرِفْ في القتلِ . إنه كانَ منصوراً .
ولا تَقرَبوا مالَ اليتيمِ إلا بالتي هيَ أحسنُ ، حتى يَبلُغَ أشدَّهُ ، وأوفوا بالعهدِ إنَّ العهدَ كانَ مسؤولاً .
وأوفُوا الكيلَ إذا كِلتم ، وزِنوا بالقسطاسِ المستقيمِ ، ذلكَ خيرٌ ، وأحسنُ تأويلاً .
ولا تقفُ ما ليس لكَ به علمٌ . إنَّ السمع والبصرَ والفؤادَ ، كلُّ أولئكَ كانَ عنهُ مسؤولاً .
ولا تمشِ في الأرضِ مَرَحاً . إنكَ لن تَخرِقَ الأرضَ ، ولن تَبلُغً الجبالَ طولاً .
كلُّ ذلكَ كانَ سيئُهُ عندَ ربِّكَ مكروهاً .
ذلك مما أوحى إليكَ ربُّكَ من الحكمةِ . ولا تجعلْ مع اللهِ إلهاً آخرَ ، فَتُلقى في جهنَّمَ ملوماً مدحوراً ) ( الآيات 22- 39) .
موضع الشاهد في هذه الآيات الالتفات من ضمير المخاطب المفرد إلى ضمير المخاطب الجمع وبالعكس ، مع العلم أن المراد بالضميرين في النتيجة هي الأمة المسلمة ، وليس النبي وحده ، فلماذا كان هذا الالتفات أو الانتقال ؟ مما يدل على أن خطاب المفرد يقصد به الجمع أو الجماعة هو الأمر بالإحسانِ للوالدين والنهي عن التأفف منهما ، أو انتهارهما الذي جاء في خطاب المفرد .. لا يخص النبي وحده ، لأن والديه كانا عند نزول الآيات متوفَّيَين ، وأن من دواعي الخطاب بالفرد هنا التأثير على القاريْ المفرد مباشرة .
لدى تأمل كل انتقال من ضمير المخاطب الجمع إلى ضمير المخاطب المفرد نجد حكمة أو غرضاً يستدعي ذلك ، فالآيات التي جاءت بضمير المخاطب الجمع يجمل أن تظل كذلك ، وتحويلها إلى ضمير المفرد يخدش الأدب مع رسول الله : ( لا تقتلوا أولادَكم ) ( لا تقربوا الزِنى ) ( لا تقربوا مالَ اليتيمِ ) ( أوفوا الكيلَ ) ، أما ما خوطب بضمير المفرد فبعضه يخصُّ النبي أولاً مثل قوله تعالى: ( وإمّا تُعرِضنَ عنهم ابتغاء رحمةٍ من ربِّكَ ترجوها ، فقلْ لهم قولاً مَيسوراً ) (لآية 28) وبعضها أقرب لصيغ الحكمة أو القوانين الثابتة ، مثل قوله تعالى : ( ولا تقفُ ما ليسَ لكَ بهِ علمٌ . إن السمعَ والبصرَ والفؤادَ ، كلُّ أولئكَ كانَ عنه مسؤولاً )(الآية 36) فيناسبه ضمير المفرد للتعميم على الإنسان أو الجنس البشري . وعل العكس فإن الضمير المفرد في موضوع الوالدين ، يمس القاريء أو السامع في أعماق كيانه قبل أن يتحول إلى قانون عام : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ...) ، وربما كان السبب في التأثير تكرار ضمير المخاطب ( ربك- عندك – تقلْ – تنهرهما – قلْ – اخفضْ – قلْ – ربِّ – ربياني ) أولاً ، وتفصيل الكلام في التكليف الشرعي ثانياً ( الكبر – أفٍّ – تنهرهما ) ، وجمال التصوير المعبر الساحر الباهر ( واخفضْ لهما جناح الذل من الرحمة ) ثالثاً ، وشدة التكليف وقرنه بعبادة الله تعالى وهو الأهم ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ..) .. رابعاً .
بقيت لطيفة واحدة هي افتتاح هذه التكاليف واختتامها بالتكليف الأهم قوله تعالى ( لا تجعل مع الله لهاً آخرَ فتقعدَ مذموماً مَدحوراً ) (الآية 22) و( .. ولا تجعلْ مع اللهِ إلهاً آخر ، فتُلقى في جهنَّمَ ملوماً مدحوراً ) (الآية 39) ، مع العلم أن ضمير المخاطب في الافتتاح لا يخص النبي وحده ، على حين كان الختام في تخصيص الضمير واضحاً ، ليؤكد القرآن عظم هذا التكليف بدءًا بالنبي المعصوم عليه السلام . وتخصيص النبي ابتداء يزيد التكليف عظمة وخطورة .
آخر نموذج للالتفات في الآيات الحوارية هو الحوار داخل الحوار أو الانتقال الحقيقي من مخاطب إلى آخر ، مثل قوله تعلى :
( إن عبادي ليس لكَ عليهم سلطانٌ .
وكفى بربِّكَ وكيلاً . ) ( الآية 65)
كان الخطاب من الله موجهاً إلى إبليس ، فانتقل إلى مخاطبة النبي محمد عليه السلام ، وفضلاً عما في هذا الالتفات /الانتقال من مفاجأة أو سرعة ، وما فيه من انتقال بعيد في الأزمنة والأمكنة ، فيه تكريم للنبي وتثبيت ونصرة في المعركة الأبدية مع الشيطان .
الالتفات في آيات السرد :
مثلما كان الانتقال من السرد إلى الآيات الحوارية مدعاة للالتفات ، نجد الأمر نفسه في الانتقال من الحوار إلى السرد كقوله تعالى : ( أفأصفاكم ربُّكم بالبنين ، واتخذ من الملائكةِ إناثاً . إنكم لتقولون قولاً عظيماً . ولقد صرّفنا في هذا القرآن لِيَذّكروا ، وما يَزيدُهم إلا نفوراً ) ( الآيتان 40و41) ، الشاهد هو ( ولقد صرَّفنا..) ، وفي هذا الالتفات تنبيه على ما في القرآن من أمثلة تحتاج إلى تدبر للفهم والعبرة ، فيه أيضاً تعريض بالمشركين الذين يُعرضون عن الحق والبينات التي ذكرت في أمثلة القرآن .
ومن أمثلة الالتفات داخل السرد قوله تعالى : ( ومن أراد الآخرة ، وسعى لها سعيَها ، وهو مؤمن فأولئكَ كانَ سعيُهم مشكوراً )( الآية 19) ، فتم الانتقال من ضمير المفرد الغائب ( أراد الآخرة – سعى لها ) إلى ضمير الجمع ( فأولئك كان سعيهم ... ) وفي هذا الانتقال تبشير باتساع الرحمة الإلهية لتشمل الجمع أو الجموع وإن كان الساعي فرداً .
أو الالتفات من ضمير المخاطب إلى ضمير المتكلم : ( ومن يهدِ الله فهو المهتدي ، ومن يُضلِلْ فلن تجدَ لهم أَولِياءَ من دونهِ ، ونحشرُهم يومَ القيامةِ على وجوههم عمياً وبُكماً وصُماً ، مأواهم جَهَنَّمُ ، كلما خبَتْ زِدناهم سعيراً ) ( الآية 97) ، الشاهد ( ونحشرُهم يوم ...) وفي هذا الالتفات ..الانتقال السريع من زمن إلى زمن آخر ، من الحياة الدنيا إلى الآخرة ، وفيه أيضاً الوعظ من خلال الترهيب ( على وجههم عمياً وصُماً وبُكماً ...) ، وهو الالتفات المشهور في أسلوب القرآن .
الالتفات في التعقيب :
التعقيب هو أسلوب بلاغي يرتبط بما قبله من السياق بقرينة يأتي لتوضيحها أو تأكيدها أو نفيها ، وغالباً ما يختم به السياق (10) ، كقوله تعالى في ختام الآية الأولى من سورة الإسراء ( ... إنه هو السميع البصير )(الآية1) ، فهذا التعقيب زاد في معنى الآية ، وأكد على أن الذي (أسرى بعبدِهِ ) هو المتصف وحده بالقدرة الخارقة من دون غيره ، ولا سيما في السمع والبصر اللازمين لتحقيق حادثة الإسراء ليلاً من الحجاز إلى فلسطين ، واختيار النبي محمد لهذا الإسراء ، في وقت معاندة المشركين وطلبهم من نبيه المعجزات والخوارق ، وهو يلفتهم إلى القرآن الكريم والأمثلة المضروبة فيه للإقناع .
إن أسلوب (التعقيب) ميدان واسع للالتفات ، حتى كدنا نعده باباً من أبواب الالتفات الرئيسة ، لأنه أسلوب ينطلق من مخالفة السياق الذي يرد فيه ، أو يعقب عليه ، بنوع من الزيادة أو التوكيد أو النفي لنُكتةٍ بلاغية ، وهو معنى من معاني الخروج عن مقتضى الظاهر .
يمكن أن نميز ثلاثة أنواع من أغراض الالتفات في التعقيب في هذه السورة : أولها وأبرزها النحو بالخطاب والتعقيب منحى العموم والتجريد ، كأسلوب المثل أو الحكمة أو (القوانين ) والسنن العامة ، كقوله تعالى : ( ويدعو الإنسانُ بالشّرِ دُعاءَهُ بالخيرِ . وكانَ الإنسانُ عَجولاً ) (الآية 11) وقوله تعالى : ( إن المُبذِرينَ كانوا إخوانَ الشياطينِ . وكانَ الشيطانُ لٍِربِهَ كَفوراً ) ( الآية27) وكقوله عزَّ من قائل : ( وإذا مسَّكُمُ الضُرُّ في البحرِ ، ضلَّ مَنْ تَدعونَ إلا إيّاهُ ، فلما نجاكم إلى البَرِِّ أعرضتم . وكانَ الإنسانُ كفوراً ) (الآية 67) ، والشاهد في الآيات الثلاث ( كان الإنسان – كان الشيطان – كان الإنسان ) . هذا التفات يحمل في الوقت نفسه تعريضاً بالإنسان عامة ، وبالذين أساؤوا الأدب مع الله في كفران نعمه أو إهدارها أو الإعراض عنه .
الغرض الثاني من أغراض الالتفات والتعقيب في هذه السورة ..الوعظ من ترغيب أو ترهيب ، كقوله تعالى : ( وإذ قلنا لَكض: إن ربَّكَ أحاطَ بالناس ِ ، وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنةً للناسِ ، والشجرةََ المَلعونَةََ في القرآن . ونخوِّفُهم ، فما يَزيدُهم إلا طُغياناً كبيراً ) (الآية 60) الشاهد ( ونخوفهم ... ) التفات فيه ترهيب . أو قوله تعالى : ( ربُّكم أعلمُ بما في نفوسِكم ، إن تكونوا صالحينَ ، فإنه كانَ للأوابين غفوراً ) ( الآية 25) ، (فإنه كانَ ..) التفات فيه ترغيب .
الغرض الثالث من أغراض التعقيب في هذه السورة .. الحوار أو النزوع الحواري ، وقد ذكرنا نماذج للتعقيب الحواري في بحث الالتفات في الآيات الحوارية ، يضاف إلى ذلك النزوع إلى الحوار قوله تعالى : ( واستفزِزْ من استطعتَ منهم بِصوتِكَ ، وأَجْلِبْ عليهم بِِخَيلِكَ ورَجِلِكَ ، وشاركهم في الأموال والأولادِ ، وعِدْهم . وما يِعِدُهُمُ الشيطانُ إلا غُروراً ) ( الآية 64) ، (ما يعدهم الشيطانُ إلا غُروراً ) يفهم من هذا التعقيب أنه خطاب من الله تعالى موجَّهٌ إلى النبي محمد أو الناسِ عامة ، وهو التفات يسخر من وعود الشيطان ، وممن يصدقون وعوده ، بصيغة الحكمة أو القانون العام .
دلالة الوفرة في الالتفات :
سبق أن ذكرنا أن هناك ثلاثة عوامل كانت من وراء الوفرة في الالتفات هي ( الحوار – التعقيب – عادة الأسلوب القرآني بعامة ) . ومع ذلك ما يزال السؤال مطروحاً : لماذا وجدت هذه العوامل في هذه السورة ، ولا سيما الحوار والتعقيب ؟
والجواب في تقديرنا ، هو تأمل الانطباع الذي تتركه العوامل مجتمعة ، ووفرة الانتقال في الخطاب من متكلم إلى غائب أو مخاطب وبالعكس ، ومن مخاطب مفرد إلى مخاطب جمع وبالعكس . إنه خطاب ذو حيوية بالغة أشبه بأمواج البحر الكثيرة المتدافعة ، وهو أسلوب يلائم المعركة التي كان يخوضها الرسول محمد والقرآن الكريم معه ، في مواجهة المشركين بأنواعهم في العهد المكي ، عهد الغليان والتوتر والانفعال والكر والفر ، في الخطاب والتساؤل والرد والجواب . لنتخيل موقف النبي محمد بعد حاثة الإسراء مباشرة كيف اجتمع الناس عليه ، وكيف انقسموا بين مصدق ومكذب ، وبين مطالب للبراهين وغير ذلك ، مما يدل على كثرة المجتمعين وتنوع خطاباتهم ، وحاجة النبي للرد عليهم بأساليب متنوعة ، توافق الأمزجة والعقول ، أو تقمع الشبهات والأباطيل ، وتقر الحق الصراح والقول الفصل في النتيجة ، مع ترغيب من يليق به الترغيب ، وترهيب من لا يليق به إلا الترهيب . وهذا هو الجمال المعجز بعينه .
الهوامش:
(1) – انظر الآيات : 17 – 24و 26-30 و 36- 39 و 45- 48 و 50 – 57 و60 و 65 و 73 – 81 و 84 – 88 و 93 و 95 – 101 و 105 – 107 و110 -111.
(2) – انظر الآيات : 1 – 3 و 9 – 13 و 15 – 16 و 41- 44 و 58 -59 و 61 و 70و72 و 82-83 و 89 و 94 و 99 و 101 و 103و 109 .
(3) – انظر الآيات : 73 – 75 و 79 -80 و86-87 و 105- 106 و110- 111.
(4) - يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى ( ولا تَجعلْ مَعَ اللهِ إلهاً آخرَ فتُلقى في جهنّمَ مَلوماً مَدحوراً ) ( ... قال ابن عباس وقتادة : والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه صلوات الله عليه وسلامه معصوم )- تفسير القرآن العظيم – اسماعيل بن كثير – نسخة صححتها لجنة – دار الخير – بيروت ودمشق - مج3 – ط1 : 1410هـ = 1990م – ص : 46 .
(5) – انظر الآيات : 5 و 7 و108 ، يضاف إلى ذلك من الاشتقاق نفسه ( ... وعِدْهم . وما يَعدُهُمُ الشيطانُ إلا غُروراً ) (الآية 64 ) .
(6) – تحدث بن عيسى بن عبد القادر في رسالته للماجستير عن الإقناع بين العقل والعاطفة في الفصل الأول (ص5 – 13) ، وفي الفصل الثاني تحدث عن أساليب بيانية أصلية للإقناع ( الجدل – التصوير – القص – التمثيل ) ، وفي الفصل الثالث تحدث عن أساليب بلاغية فرعية ( الاستفهام – التوكيد – الحذف ) – رسالة غير مطبوعة – مقدمة إلى كلية الآداب – الجامعة الأردنية عام 1990م .
(7) – مدخل إلى القرآن الكريم – محمد عبد الله دراز – ترجمة محمد عبد العظيم علي – ط 3 – دار القلم – الكويت – 1981 م .
(8) – فقه السيرة – د . محمد سعيد رمضان البوطي – دار الفكر للطباعة والنشر – دمشق – ط 8 – 1400هـ = 1980م – ص 305 – 308 .
(9) – التصوير الفني في القرآن – سيد قطب – دار الشروق – القاهرة وبيروت – ط 9 - ص 11 .
(10) – دراسة نصية أدبية في القصة القرآنية – د. سليمان الطراونة – الأردن – عمان ط : 1417هـ = 1992م – الفصل الثاني – مستويات القص(الالتفات السردي ) – ص 118 – 141.
(11) – البلاغة العربية – عبد الرحمن حبنكة الميداني – دار القلم والدار الشامية – دمشق – ط : 1416هـ= 1996م – ص : 479 .
(12) – المرجع السابق : ص : 479-480 .
(13) – المرجع نفسه : ص : 483 – 488 .
(14) – المرجع نفسه : ص : 480 .
(15) – المرجع نفسه : ص : 480 .
(16) الكشاف – محمود بن عمر الزمخشري – انتشارات آفتاب – طهران – ج1/62 – 64 .
(17) – البلاغة العربية – ص : 481 .
(18) – الاتقان في علوم القرآن – عبد الرحمن السيوطي- ط3 : 1370هـ = 1951م – مكتبة البابي الحلبي وأولاده – مصر – ج2 – ص : 34 .
(101) – التعقيب وأثره في إعجاز القرآن – عكاب طرموز علي الحياري – رسالة جامعية لم تنشر – جامعة الأنبار – ص : 5 .