فن التشخيص

فن التشخيص

في شعر مطران القصصي

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

لخليل مطران ( 1872  1949 ) م ديوان شعري مطبوع من أربعة أجزاء، والديوان بأجزائه الأربعة يضم 580 قصيدة، ومقطوعة شعرية تزيد أبياتها على سبعة عشر ألف بيت، وفي هذا الديوان ما يزيد على خمسين قصة شعرية وقصيدة قصصية . ومنها قصائد ملحمية فائقة الطول مثل ملحمة نبرون التي تبلغ 327 بيتًا([1]) وهي على وزن واحد وقافية واحدة.

والخليل بهذا الإنتاج الشعري القصصي الغزير يعد واحدًا من رواد القصة الشعرية في العصر الحديث، فهو في هذا المجال لا يقل عن شوقي في مجال المسرحية الشعرية، والمقام لا يتسع لتقييم شامل لفن الخليل في القصص الشعري، ولكنا سنحاول أن نلقي الضوء على عنصر من أهم عناصر القصة الشعرية وهو "الشخصية" لنتبين أبعاد "شخصيات" الخليل ومنهجه في رسمها، وتحديد ملامحها.

أبعاد الشخصية في القصة الشعرية..

القصة  سواء أكانت نثرية أم شعرية  تعتبر معرضًا لأشخاص جدد يقابلهم القارئ، ليتعرف عليهم. ويتفهم دورهم. ويحدد موقفهم، ومن هنا تأتي أهمية التشخيص Characterization ([2])، في القصة.

والشخصية التي يرسمها الأديب يجب أن يكون لها كيانها المميز. وطابعها الخاص المستقل عن شخصية كاتبها، وإن كانت روحه تنعتكس على هذه السمات، كما يجب أن يكون لها وجودها الإيجابي في القصة حتى يؤمن القارئ بأن وجودها ضرورة من ضرورات العمل الفني. فالعقل . كما يقول ستأين  لا يستسيغ أن تكون الشخصية مجرد كائن يردد كلمات رتيبة([3]).

والشخصية في القصة الشعرية كائن حي له جوانب وأعماق، وأبعاد تتمثل في ثلاثة هي:

1 الجانب الخارجي  أو البراني  ويشمل الصورة الحسية، والمظهر العام، والسلوك الظاهري للشخصية.

2  الجانب الداخلي  أو الجواني  ويشمل الملامح النفسية والفكرية ، والسلوك المنبثق عنهما ، والناتج منهم .

 3  الجانب الاجتماعي: ويشمل المركز الذي تشغله الشخصية في المجتمع وظروفها الاجتماعية بوجه عام([4]).

شخصيات مطران ومنهجه في التشخيص..

قصص مطران الشعرية غاصة بعشرات من الشخصيات المتنوعة الأجناس والأنواع والمشارب والسمات: فمنها الشباب، والرجال والنساء، ومنها الأطفال (قصص: الطفلة البويرية  الطفلان  حنا الصغير... الخ).

ومنها الملوك والأمراء والحكام (نيرون  نابليون الأول  سور الصين ...).

ومنها الشعراء (الزهرة  سور الصين  إن من البيان لسحرًا ...).

ومنها: الأمم والشعوب والجماعات (مقتل يزرجمهر  نيرون ...).

ومنها: الحيوانات والزهور والأطيار (نيرون  الحمامتان  النرجسة ....).

والخليل في تصوير شخصياته لم يتبع منهما واحدًا:

(1) ففي كثير من الأحيان يتبع الطريقة التحليلية المباشرة: فتسمع صوت "الخليل" واصفًا محللاً، مصدرًا حكمه الحاسم المباشر على الشخصية، بل إن الشخصية لتأخذ مكانها في صدارة القصة ابتداءً. كما نرى في تصويره المباشر لنيرون في صدر النيرونية:

أي شـيء كـان نـيـرون الذي
بـارز الـصـدغعين رهلا iiبادنًا
خـائـب الـهـمة خوار iiالحشى


عـبـدوه؟  كـان قظ الطبع iiغرا
لـيـس  بـالأتلع يمشي مسبطرا
إن يواقف لحظه باللحظ فرا([5]).

فمطران يقدم لنا "صورة جاهزة" لا تترك سبيلاً لاستنتاج القارئ أو إعمال ذهنه لاستخراج جديد.

2  وأحيانًا يتبع مطران الطريقة غير المباشرة: فيترك الشخصية تكشف عن نفسها وترسم ملامحها ومشاعرها الذاتية بأقوالها وأفعالها وظروف وجودها دون تدخل منه. ويتضح هذا المنهج في شخصية "الملك" في أقصوصة "فنجان قهوة" : فقد قبض على رئيس حرسه الذي اكتشف الملك أنه يعشق ابنته، ويلتقي بها خفية، ويقتاد العاشق إلى "الملك الغيور" ويصور مطران "الموقف الكاشف" في الأبيات التالية:

فـرنـا إلـيه كما يضيء iiالكوكب
وعـلـى  مـحـياه ابتسام iiعتاب
مـا  هـكـذا يـا أصدق الأعوان
سـبـق الحِمام إلى العروس iiفنالها
لـكـن  رأيـتك سامي iiالأغراض
وجـزاء  هـذي الـخـلة الأكرام






إذا شـق عـنـه مـن بعيد iiغيهب
كـالـكـهـرمـان مـغبرًا iiبتراب
شـأن الـشـجاع مصاهر iiالسلطان
وأخـذت مـنـهـا ظـلها iiوخيالها
كـلـفًـا ابصون طهارة iiالأعراض
فاجلس وحادثني ولا استعظام"([6]).

وأمر الملك أن يقدم للحارس "فنجان قهوة" مزجت بسم تناوله الفتى بإباء وشمم ، وأخذ يتلوى من الألم حتى فارق الحياة، وهنا أشار الملك بيده فصدحت الموسيقا تجري على الأوتار.

 فمطران في هذا المشهد "يلتزم الحياد" تجاه شخصية الملك. ويترك المجال لحديثه ومسلكه وانفعالاته دون تدخل منه. وكل أولئك يقدم لنا صورة طاغية متبلد الشعور، جامد الإحساس ، سادي النزعة يسخر من ضحيته ويتسلى بعذابها.

3  وقد يسلك الخليل الطريقتين معًا، فيعطي صورة مجملة بطريقة مباشرة. ثم ينطق الشخصية ذاتها بما يكمل ملامحها، أو يفصل خصائصها ، أو يعبر عن أعماقها. والشخصية فيما تنطق به إما أن تضيف جديدًا من الملامح لم يذكره الخليل ، أو يكون ما تنطق به أدلة وأسانيد لما ذكره الشاعر ، أو يضيف مبررات وتفصيلات تضع النقاط والخطوط الدقيقة بعد أن سبقتها الخطوط العريضة على سبيل المباشرة والإجمال.

ونجتزئ هنا بمثال واحد، وهو صورة ظئر الأميرة التي وقعت في حب قائد حرس أبيها الذي أشرنا إلى قصته في (فنان قهوة):

فاستوصفت  ظئرًا لها في أمرها
طوت السنون على الخدائع قلبها
فـتـمـثلا  في وجهها iiالمتجعد



حدباء  أذكى الشيب فاحم iiشعرها
وأنـرن بـالـعبر السواطع iiلبها
لـلناقدين  وطرفها iiالمتوقد([7]).

فالظئر كبيرة السن حدباء، متجعدة الوجه أبيض شعرها من الشيب: تلك هي ملامحها الحسية كما رسمها مطران في إجمال، أما ملامحها النفسية أو الجوانية فأهمها: طول الخبرة وبعد النظر والذكاء. وبعد هذا الإجمال المباشر، تتضح الملامح أكثر وأكثر في الحوار التالي الذي دار بين الأميرة والظئر، وهو حوار يؤيد ما ذهب إليه الخليل من حنكة الظئر وذكائها وبعد نظرها.

قـالـت بـنية إن جسمك iiسالم
قـالـت: "أظنك أن رؤية iiرائي
قـالت:  "كذاك الحب بادئ بدئه
قـال: "فكيف ترين لي أن iiأفعلا
قـالـتـ:  "أحاوله وقلبي iiدامي
قـالـتـ:  "فيا أسفا ولكن iiقدرا
فـلئن  أطعت هواك وهو مُحَكم







ولـعـل داءك أن قـلـبك iiهائم
تـفضي  بصاحبها إلبى iiالبُرَحاء
حـتـى يـنـوء المستهام iiبعبئه
قـالـت  "أرى سلوانه بك أمثلا"
فـإذا  سلوت ذكرت في iiالأحلام
لك يا ابنة السلطان ربُّك ما جرى
فـسواك فيه يا بنية iiمجرم([8]).

 ومطران وهو يسلك في "التشخيص" منهجًا من المناهج المذكورة. قد يبدأ برسم البعد الخارجي الحسي، وقد يبدأ بالأعماق الداخلية. وغالبًا ما يجعل البعدين مختلطين متمازحين.

الملامح والسمات:

 وفن "التشخيص" عند مطران يسم شخصياته بسمات معينة نجملها فيما يأتي:

1  الواقعية فالقارئ يشعر أن كل شخصية من هذه الشخصيات ليست غريبة عنه ، بل تعيش في واقعنا النفسي، أو الاجتماعي، أو السياسي : فنيرون وكسرى وملك الصين، والأمير في فنجان قهوة: نمط واحد للحاكم المستبد المتسلط الذي عاش وما زال يعيش في واقع الحياة. وإن كان لكل منهم ملامحه الخاصة التي تميزه في قليل أو كثير عن الآخرين.

و "جميل" في "الجنين الشهيد" صورة مجسدة للفتى العابث الغادر الذي ما زلنا نرى منه الآلاف في كل المجتمعات ، يعيشون على هامش الحياة بالخيانة والغدر والعربدة.

وشعب روما في "نيرون" وأمة الفرس في "مقتل يزرمجهر" نموذج للشعب الخانع المستسلم لظالميه.

و"شخصية الجماعة" في "الزهرة أو كوكب المساء" هي شخصية الصفوة المتبتلة الطاهرة التي تتعلق دائمًا بالمثل الأعلى، وتتعبد في إخلاص للجمال الروحي، فشخوص مطران "هي شخوص الواقع الحي لكنها أشف وأصفى، وأكثر حرارة وأشد ضياء"([9]).

 وواقعية هذه الشخوص لا تنفي عنها الجدة، والابتكار بواقعها حينما ترتمي على صفحة الخليل تتمازج وتتفاعل، وتترك أثرها العميق في تضاعيف النفس الحساسة، فتنعكس على نفس الشاعر صورًا جديدة تمت إلى الواقع بصلة الحقيقة وترقى عنه بصفات الوضوح، وسهولة العرض، وحذف الزائد من الخطوط والألوان والظلال([10]).

 وهذا الواقع المتميز المبتكر يرجع أساسًا إلى طبيعة خيال مطران: فهو خيال لا يجيء من قبل الحس، ولهذا فالواقع لا ينزل من عنده، ولكنه يجرد ، ويخرج بذلك عن الواقع الموجود في عالم الحس ليتجنح ، ويحلق في عوالم أشف من عالم الحس الكثيف. ومن هنا يمكننا أن نقول: الطبيعة الظاهرة في هذا الخيال أنه ليس بخيال عربي ؛ لأن الخيال العربي واقعي الحس، لا يتجاوز الشيء الواقع تحت دائرة الحس. فمثلاً : شخصية بنت الملك في "فنجاة قهوة" ملحوظ عليها أنه  وإن كان في الوسع الوقوع على نماذج لها في عالم الواقع  فشرط الوجوب ليس أساسًا فيها؛ لأنها لم تأت من تحت دائرة الحس، وإنما ألف الشاعر صورة شخصيتها على أساس الصور المختزنة في ذاكرته، ونسج منها مثال شخصيتها ، ونفخ فيها من شخصيته روحًا، ومن هنا جاءت أشف من الواقع الذي تحت دائرة الحس؛ لأن فيها قبسًا من ذاته وروحه. والروح لا تقع تحت دائرة الحس([11]).

2  تجسيد المشاعر النفسية والقدرة الفائقة على رصد الدقائق والتفصيلات:

فمطران يعطينا من دقائق الحس الظاهر ما تعجز عنه ريشة الرسام العبقري وألوانه، ويجسد خوالج الأعماق، والأبعاد الداخلية في دقة وتفصيل عجيب حتى ليحس القارئ بالشخصية أمامه تتحرك وتنبض بالحياة. انظر إليه وهو يصور شخصية القائد البطل الذي يدافع عن أرضه ووطنه ومن خلاله يصور كذلك جيشه تصويرًا فائقًا:

شـيخ  من الصوان iiمن
مـتـعـود  قهر iiالعدى
لانـت عـريـكته iiلطو
تـتـلـثـم الآفات iiمن
ويـرق مـشـحوذًا iiبها
بـمـبـارك  في معشر
جـيـش ولـكن iiللمرو
مـقـسـومـة  iiأخلاقه








يـمـسسه يقتدح iiالضرَمْ
كـالنور  في كشف الظلم
ل  مـراسـه وقسا iiالأدم
ه بـصـارم لا iiيـنـثلم
فـإذا  أصـاب فقد iiقصم
كـالجيش  من نسل iiكرم
ءة والـشـجاعة iiوالشمم
فيهم ونعم المقتسم([12]).

 فالقائد هنا توفرت له كل خصائص القيادة الناجحة : فهو بين أصحابه علم متفرد بلا مراء، وهو يستمد هذا التفرد من شخصيته القوية ومن حب جنوده والتفافهم حوله، وقوة شخصيته تؤكدها خصائص الحس وخصائص النفس والعقل، فهو يتميز بالقوة الجسدية الفائقة، وهو رجل حرب تعود قهر عدوه، وكأن قهره عمل إنساني ورسالة سامية يؤديها قائد "كالنور في كشف الظلم" . وهو ذو مروءة وأريحية وشجاعة وشمم، وله مركزه الروحي بين جنوده تلمحه في تلك اللقطة الصوفية "مبارك". وأخلاق هذا القائد المحنك الفذ انعكست على أصحابه فكانوا نماذج حية لأخلاقه، والناس على دين ملوكهم.

 وما يقال عن قدرة مطران الفائقة على رسم صورة الأفراد يقال كذلك في رسم "شخصية الجماعة" ، كهذه الصورة التي رسمها مطران لعباد الزهرة. ونجم الزهرة هنا رمز للمثل الأعلى الذي تتعشقه القلوب ، وتذوب إليه الأرواح حنينًا وشوقًا: إنهم يتطلعون إلى "المعبودة الحسناء" وقد استبدت بهم الأشواق والحب الشفيف. إنها صورة الإنسانية الحائرة التي يقتلها الأوام والشوق إلى السلام والمحبة والمثل الأعلى:

والـقـوم  جـاثون لدى iiحسنها
مـطـهـرو  الإيمان من iiشبهة
لا كـافـر مـنـهـم ولا iiملحد
مـا  أكـرم الـديـن على أهله




سـجـود حـب صادق iiواحتشامْ
مـنـزهـو  الصبوة عن كل ذامْ
ولا  جَـحُـود خـافـر iiلـلذمام
إذا التقى فيه التقى والهيام([13]).

 ويصل مطران إلى قمة الإعجاز الفني في رسم خوالج النفس، وملامح الأعماق، كما نرى في "فنجان قهوة .فهو" يصور مشاعر الأميرة التي خرجت متخفية تحت جنح الظلام للقاء حبيبها قائد حرس أبيها فيقول:

حـتـى  إذا دفـق الدجى iiبسيوله
تـخـتـال  فـي أثوابها iiالسوداء
طـورا تـضـل وتـارة iiتـتعثر
وتـكـاد إن لـمـحت إشارة نور
لـكـن ذاك الـخـوف لم iiيتجرد
ورجـاء  نـور مـقـبـل وأمان
وبـدا لـهـا فـيـما أضاء iiخيال
فـاشـتـد خـفق فؤادها iiمتوزعًا








مـضـت الأميرة من خلال iiسدوله
عـن  قـطـعة تمشي من iiالظلماء
وفـؤادهـا  مـتـفـزع iiمـتطير
تـنـحـل مـثل غياهب iiالديجور
مـن لـذة الـشـيء الذي لم iiيُعْهد
وسـعـادة يـأتـيـنـهـا في iiآن
ذاك الـحـبـيـب كـأنـه iiتمثال
بين المهابة والمنى متصدعًا([14]).

 يقول الدكتور إسماعيل أدهم "في هذه الأبيات لا نخطئ أمرين: دقة التصوير، ودقة التشريح: أما التصوير فواضح من وصف الأميرة في ذهابها للقاء حبيبها، وأما التشريح فتشريح المشاعر المستولية عليها في أثناء الذهاب([15]).

 فالخليل هنا "مشرح" لا يغادر أدق المشاعر إلا جسدها في دقة تهز الوجدان ، حتى ليتعاطف القارئ مع الأميرة السارية بليل ، ويعيش معها الموقف كله، والمشاعر تتسق معها: فالحرص والحذر يجعلان الأميرة لا تخرج إلا في "أثوابها السوداء" التي "تتسق" مع "سدول الظلام" ، والاضطراب يتجسد في "الضلال" و "التعثر". والخوف لم يكن خوفا خالصا ، ولكن مازجته لذة التطلع للمجهول المحجب ، والأمل في "أمان" و "سعادة" مرتقبة، وبهذه المشاعر عاشت الأميرة حالمة توزع قلبها فيها بين الفزع والرجاء.. نعم إنه لم يكن تصويرًا فحسب ، بل كان كذلك تجسيدًا وتشريحًا.

3  التنسيق الفني ومراعاة مقتضى الحال:

قد تتشابه شخصيات "النوع الواحد" في قصص مطران في خطوطها العريضة، وهذا أمر طبيعي: فشخصيات نيرون وكسرى والملك في فنجان قهوة كلها تلتقي في الطغيان والاستبداد وانكار إرادة الأفراد وحقوق الجماعات، ولكن الخليل بملكته "التصويرية التشريحية" يجعل لكل شخصية "طابعًا فارقًا" و "ملامح خاصة" تحول دون تداخلها واختلاطها بحيث لا تصلح واحدة من هذه الشخصيات أن تأخذ مكان الأخرى في البناء الفني للقصة الشعرية على الرغم من التقائها جميعًا في الخطوط العريضة والعناصر الرئيسية.

 وهذا "الطابع الفارق" يستقي الخليل مادته وألوانه من "الموقف" ومسرح الأحداث وجو الوقائع، وهذا ما نعنيه بالتنسيق الفني بين "الشخصية" و "المادة" التي تغذيها وتعيش عليها. فمطران مثلاً عندما يتحدث عن جمال الفتاة، وهي بارزة إلى ساحة القتال لا يصفها كما وصف جمال الحسان الأخريات. بل يراعي مقتضى الحال، ويستعيد لهذا الجمال ملامحه من بيئة الحرب، وساحة الوغى يقول مطران في فتاة الجبل الأسود "التي كان متنكرة في زي فتى:

 لهيب الحروب على وجنتيـ                       ه والنقع في شعره الأسود

 وفي محجريه بريق السيو                      ف وظل المنية في الأثمد([16]).

فملامح الصورة منتزعة من ميدان الحرب وعدة القتال: فحمرة الخدين انعكاس للهيب الحروب، وسواد الشعر مأخوذ من نقع المعارك، وبريق العينين يذكر بالسيوف اللامعة... الخ.

 وهذه المراعاة الفنية تتضح أمامنا أكثر إذا ما نظرنا إلى صورة حسناء أخرى روى الخليل قصتها في (المرآة الناظرة) ومسرح القصة حديقة من الحدائق. يقول مطران في حسناء الحديقة:

سـتـرت  بـأخضرَ سندسي جيدها
وتـمـايـلـت في ثوب خز iiمورق
وتـحـف أبـصـار بـها iiفيخزنها
كـالـنـحـل  طفن بزهرة iiفلسعنها




فـحـكـى الـمـحيا وردة في iiكمها
غـصـنا وهل للغصن نضرة جسمها
بـحـيـائـهـا  ويشكنها في iiوهمها
ورشفن منها ما رشفن برغمها([17]).

 فالحال تقتضي أن تتسق "صورة الشخصية" بكل خطوطها وألوانها مع طبيعة الجو والمسرح الذي تتحرك عليه، حتى لا تبدو بقعة غريبة على اللوحة الفنية، ومن ثم جاءت "خامات" هذه الصورة وألوانها كلها منتزعة من "الرياض".

 وقيمة هذا التفريق بين "الصورتين": صورة الحسناء الأولى وصورة الحسناء الثانية تبدو واضحة جلية لو أننا وضعنا واحدة مكان الأخرى: إذن لبدا الاختلال المذهل لا في صورة الحسناوين فحسب بل في القصة كلها؛ لأننا سنلحظ بسهولة مدى التنافر والعداء الصارخ بين "صورة الشخصية" و "أرضية" القصة([18]).

4  شخصية الأنثى: ويلاحظ أن شخصية الأنثى في قصص مطران شخصية مثالية رفيعة في غالب الأحيان: فهي رمز للبطولة وصلابة الكفاح وشجاعة القلب كما نرى في قصة "إن من البيان لسحرًا" و "فتاة الجبل الأسود" و "الطفلة البويرية" و "مقتل بزرجمهر"([19]).

وهي رمز للوفاء والإخلاص، ورعاية العهد كما نراها في "النرجسة" و "الحمامتان" و "وفاء" و "شهيد المروءة وشهيدة الغرام([20])"

وهي نموذج حي للإنسانية والرحمة كما نراها في قصة "العصفور"([21]).

أو هي ضحية برئية من ضحايا الظلم الاجتماعي، والفوارق الطبقية الباهظة، كما تظهر في "فنجان قهوة" و "الطفلان" و "الجنين الشهيد"([22]).

فالأنثى عند مطران دائمًا فائقة على نحو من الأنحاء، والأنثى غالبًا شخصية إيجابية فاعلة. حتى "ليلى" التي دفعها المجتمع المختل الساقط إلى الرذيلة كان لها جانبها الإيجابي الفاعل الذي تمثل في إدانتها صراحة لمجتمعات الزيف والسقوط والفساد.

 ولعل قصة الحب التي عاشها الخليل، ولم يتم القدر فصولها بعد أن اغتال أثيرة قلبه هي التي أملت عليه أن يجل شخصية حبيبته في شخصية كل أنثى، وكأنه بذلك يؤدي ضريبة من "الوفاء القولي" أيده بوفائه الفعلي، إذ عاش عزبًا قرابة نصف قرن بعد موته حبيبته، فلم يتزوج إلى أن مات.

 ويلاحظ كذلك أن البطلة في بعض قصص مطران تتلثم وتتنكر في سبيل الوصول إلى الهدف الذي ترمي إليه: ففتاة الجبل الأسود تتنكر في زي شاب يهاجم الأتراك ويسيل دماءهم. وحبيبة الأمير "مهند" تتلثم وتنازل حجبيبها وتوقعه أرضًا وتتغلب عليه، وهكذا كانت فكرة التنكر تسيطر على الخليل في كثير من شعره القصصي، وهذا ما نجده في بالاد "روبين هود" إذ يتنكر البطل في زي رجل فقير رث الثياب.. و "حسناء ايزلنجتون" تتنكر في زي شحاذة فقيرة وتجلس في انتظار حبيبها فوق افريز من الأفاريز([23]).

 فمطران إذن متأثر في فكرة التنكر والتخفي بقراءاته الواسعة في الادب الغربي. على أن التاريخ العربي لم يخل من شخصيات تنكرت وصولاً إلى هدفها كخولة بنت الأزور وأبي محجن الثقفي في حرب القادسية.

 ولعل فكرة التلثم أو التنكر انعكاس أمين لشخصية مطران الذي اتسم بالحذر والمراجعة والتقية في كثير من الأحيان، بل إنه كان يتخفى وراء شخصياته يحركها وينطقها بما يؤمن به من قيم أخلاقية وإنسانية، واجتماعية، وسياسية، وكثير من هذه المبادئ والقيم ما كان يستطيع أن ينطق به صراحة في أرض مصر التي نزل بها ضيفًا أكثر من نصف قرن.

5 الشخصيات غير الإنسانية: لا تقتصر أبعاد الشخصية التي ذكرناها على الشخصية الإنسانية فحسب، وإنما تصدق أيضًا على كل شخصية تدور حولها القصة ولو كانت حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا.

 فلكل شخصية من هذه الشخصيات جانبها الحسي المعروف. أما بعدها الداخلي فيرسمه القاص "من خلال تفكيره الخاص، ومن قدرته على أن يضع نفسه موضع هذه الشخصية"([24]).

 كما يتحدد بعدها الاجتماعي في العلائق التي تنشأ بين هذه الشخصية، وبين غيرها من عالم البشر، أو من العالم الذي تنتسب إليه. وهذا يحتاج من الشاعر إلى طاقة فنية غنية وقدرة فائقة على التمثل والتخيل والتشخيص.

 وقد جعل مطران "النرجسة" ذات شعور حي انطلاقًا من إيمانه بوحدة الوجود، وخلق نوع من المشاركة الوجدانية بينها وبين "أمينة" حتى إنها ذبلت، وقضت بعد أن مات عريسها في ميدان الجهاد([25]).

وفي "الوردة والزنبقة" يقص مطران قصة غرام حار بينهما ظلله السلام وأسعده اللقاء، إلى أن جفا عود الزنبق.

فـشـق  عـلـيها بينُهُ وهو iiجارها
وعـمـا  قـليل يقضيان من الجوى


وبـاتـت  لفرط الحزن تذوي وتنحل
وإن صح ظني فهي تهلك أول([26]).

وقصة "الحمامتان"([27])، رمز حي للوفاء حتى الموت، وكأن الخليل قد عبر بهذه القصة  على قصرها  عن قصة حبه التي تدفقت بالشعور الطاهر، وعاشت بالوفاء النبيل، وفاضت شعرًا عبقريًا كوفاء المحبين لا يموت.

 ومن أبرع "الصور الحيوانية" التي شخصها الخليل شخصية الحصان "قنصل" في ملحمة "نيرون" وهو الحصان الذي ولاه الإمبراطور "قليقولا" رئيسًا لمجلس الشيوخ الروماني.

وقد رسم مطران الأبعاد الخارجية للحصان رسمًا كاريكاتيريا ساخرًا، كما صور أبعاده الداخلية تصويرًا بارعًا.

وبــدا فـيـه وقـار بـعـد iiأن
ريـض لـلـطاغي وأوهى iiعزمَه
وغــدا فـي ظـن مـولاه iiبـه
دانـيـا حـاجـبـه مـن iiوقـبه
مـذعـنًـا يـصـلح للإقرار iiفي





كـان خـفـاقًـا إذا حُـمِّـل iiوقْرا
كـبـر الـسـن فـما يسطيع كِبرا
دمـثًـا لا خـوف مـن أن iiيحذثرا
لـيـنـا  جـانـبـه عسرا ويسرا
مجلس الأشياخ محمودا مقرا([28]).

الاستسلام والإذعان والطاعة الذليلة: إنها "المؤهلات" التي تجيز الشخص،  ولو كان حيوانًا  أن يكون رئيسًا لمجلس الشيوخ.

 ومن خلال شخصية الحصان يطرح مطران كثيرًا من مبادئه وقيمه: فصور "حملة القماقم" الذين يمثلون الأمة وما هم عليه من ضعف، وكذب وجهل ونفاق:

وأتـم  الانـس داعـون iiدعوا
لـم يـكن مهرا، وكم من iiفرية
كـان امـرا شـأنهم من جهلهم
عـظـموا  طرفا، وقبلا iiعبدت




لـلـجواد  الشيخ أجلل بك مهرا
بـذلـت  فـي خطبة للود iiمَهرا
وقـديـما  كأن شأن الجهل iiإمرا
أمم من جهلها ثورا وهرا([29]).

فشخصية الحصان بأبعادها الثلاثة: الخارجي، والداخلي، والاجتماعي الذي يتمثل في العلاقة التي أنشأها الخليل بين الحصان والإمبراطور، وبين الحصان وأعضاء مجلس الشيوخ. شخصية الحصان بهذه الأبعاد الثلاثة لم تقصد لذاتها، وإنما قصد بها  كما ألمحنا من قبل  التعبير عن فلسفة الشاعر السياسية، والاجتماعية، والأخلاقية، وكذلك كان شأن مطران في كل الشخصيات غير البشرية التي صورها هنا: وسيلة لإبراز قيم إنسانية رفيعة، أو كشف مثالب ونقائص تسيء إلى المجتمعات البشرية وتهددها بالزوال.

               

[1]) ) انظر ديوان الخليل 32 / 47 (ط بيروت 1949م).

[2]) ) انظر د. عز الدين إسماعيل: الأدب وفنونه 152  154. ويقصد "بالتشخيص" هنا رسم الشخصية الروائية، وتحديد ملامحها وأبعادها النفسية والحسية والاجتماعية.

[3]) ) J. L. Stayn : The elements of Drama

[4]) ) انظر: حسين القباني: فن كتابة القصة 70  71 (المصرية للتأليف والترجمة والنشر).

[5]) ) ديديوان الخليل 3 / 50 (الأتلع: طويل العنق  المسيطر: المسرع).

[6]span>) ) ديوان الخليل 1 / 153.

[7]) ) السابق 1 / 150.

[8]) ) السابق نفس الصفحة.

[9]) ) نجيب جمال الدين: مطران شاعر العصر 117.

[10]) ) السابق نفس الصفحة.

[11]) ) د. إسماعيل أدهم: المقتطف أول فبراير 1940م ص 162  163.

[12]) ) ديوان الخليل 1 / 172.

[13]) ) السابق 1 / 124.

[14]) ) السابق 1 / 153.

[15]) ) الالمقتطف ، فبرير 1940م.

[16]) ) ديوان الخليل 1 / 181، وانظر: اتطون الجميل:الشاعر خليل مطران، مقال بمجلة الزهور ج3، مايو 1913م، ص 118.

[17]span>) ) ديوان الخليل 1 / 21.

[18]) ) تعد هذه السمة من أبرز سمات مطران في بناء شخصيات قصصه الشعري، وتكاد  تطرد في كل قصائده انظر مثلاً قصة "نابليون الأول وجندي يموت" 1 / 41 " و "حرب غير عادلة ولا متعادلة بين أمة كبيرة وأمة صغيرة" 1 / 171.

[19]) ) ديوان الخليل ج1، ص 55، 179، 162، 120.

[20]) ) السابق ص : 63، 73، 105، 82.

[21]) ) السابق 101.

[22]) ) السابق 1 / 148، 2 / 61، 1 / 223.

[23]) ) د. جمال الدين الرمادي: خليل مطران شاعر الأقطار العربية ص 157 (دار المعارف ط 2).

[24]) ) القباني فن كتابة القصة 71.

[25]) ) ديوان الخليل 1 / 63.

[26]) ) ديوان الخليل 1 / 137.

[27]) ) السابق.

[28]) ) السابق 3 / 56 (يحذثر = يغضب  الوقب : نقر العين).

[29]) ) السابق 3 / 57.