القصيدة العينية..الفراقية..اليتيمة.لابن زريق
القصيدة العينية..الفراقية..اليتيمة.لابن زريق
أ.د/
جابر قميحةتأخذ هذه القصيدة - في التاريخ الأدبي أسماء ثلاثة: عينية ابن زريق, وفراقية ابن زريق - ويتيمة ابن زريق. ولكل تسمية سبب:
- فهي العينية لأن قافيتها هي العين المضمومة, وإن انتهت بهاء مضمومة. وكان من عادة العرب إطلاق اسم القافية علي القصيدة: فيقولون «لامية العرب» للشَّنْفَرَي, و«سينية البحتري», و«بائية أبي تمام», و«ميمية» البوصيري.
- وهي القصيدة الفراقية: لأن موضوعها «الفراق», كما سنعرف.
- وهي القصيدة اليتيمة : لأن ناظمها لم ينظم في حياته غيرها (كما يقولون (.
* * *
ناظم القصيدة هو الشاعر العباسي أبو الحسن علي بن زريق البغدادي, وكان له ابنة عم أحبها حبًا عميقًا صادقًا, ولكن أصابته الفاقة وضيق العيش, فأراد أن يغادر بغداد إلي الأندلس طلبًا للغني, وذلك بمدح أمرائها وعظمائها. ولكن صاحبته تشبثت به, ودعته إلي البقاء حبا له, وخوفًا عليه من الأخطار, فلم ينصت لها, ونفذ ما عزم عليه. وقصد الأمير أبا الخيبر عبد الرحمن الأندلسي في الأندلس, ومدحه بقصيدة بليغة جدًا, فأعطاه عطاء قليلاً. فقال ابن زريق -والحزن يحرقه - «إنا لله وإنا إليه راجعون, سلكت القفار والبحار إلي هذا الرجل, فأعطاني هذا العطاء القليل??!. "
ثم تذكر ما اقترفه في حق بنت عمه من تركها, وما تحمّله من مشاق ومتاعب, مع لزوم الفقر, وضيق ذات اليد, فاعتل غمًا ومات. وقال بعض من كتب عنه إن عبد الرحمن الأندلسي أراد أن يختبره بهذا العطاء القليل ليعرف هل هو من المتعففين أم الطامعين الجشعين, فلما تبينت له الأولي سأل عنه ليجزل له العطاء, فتفقدوه في الخان الذي نزل به, فوجدوه ميتًا ,وعند رأسه رقعة مكتوب فيها هذه العينية.
* * *
يستهل ابن زريق قصيدته بتوجيه الخطاب إلي ابنة عمه التي كانت تلومه بشدة لتركه بغداد إلي الأندلس وإن تحدث عن نفسه بضمير الغائب, فيقول:
لا تعذليه فإن العذْلَ يُولعُهُ
قد قلتِ حقًا, ولكن ليس يسمعُهُ
جاوزتِ في نصحه حدًا أضرّ به..
من حيث قدرتِ أن النصحَ ينفعُهُ
فاستعملي الرفقَ في تأنيبه بدلاً
من عُنفه, فهو مُضْنَى القلبِ موجَعُهُ
* * *
وراحَ الشاعرُ بعد ذلك يصور معاناته القاسية الرهيبة في أسفاره التي لم يخرج منها بما يرضي مطامحه, ومع ذلك فهو كالمجبر علي الانطلاق في قفار المرارة والعذاب, ومن قوله المعبر عن ذلك:
تأبي المطالب إلا أن تكلفه
للرزق سعيًا, ولكن ليس يجمعه
كأنما هو في حل ومرتحل
موكل بقضاء الله يذرعه..
إذا الزمان أراه في الرحيل غني
- ولو إلي السند - أضحي وهو يقطعه
* * *
وبعد أن يسوق الشاعر بعض الحكم في قسمة الأرزاق, وضراوة الحرص والجشع, يتحدث عن ابنة عمه, مسترجعًا مشهد الوداع في إيجاز تصويري بارع مؤثر, وكان حديثه عنها بضمير المذكر, غيرة عليها:
ودَّعتُه, وبودًّي لو يودعني
صفوُ الحياةِ وأني لا أودّعُهُ
وكم تشفع بي أن لا أفارقَهُ
وللضروراتً حال لا تشفًّعهُ
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحي
وأدمعي مستهلات وأدمعُهُ
* * *
وبعد هذا الاستحضار المأساوي لمشهد الوداع, نري الشاعر وقد استبد به شعور حاد بالندم, دفعه إلي الاعتراف بالخطأ - بل الخطيئة, لأنه بالسفر فرط في حق صاحبته التي بُدًّل بها المرارة والحرمان, كما تعبر عنه الأبيات الآتية:
اعتضٍتُ من وجه خِلًّي بعد فُرقتِهِ
كأسًا يُجرَّع منها ما أُجُرَّعُهُ
كم قائلٍ ليَ «ذقتَ البينَ» قلتُ له
الذنبُ والله دنبي لستُ أدفعه
هلاّ أقمتُ فكان الرشدُ أجمعُه
لو أنني حين بان الرشد أتبعه
* * *
وتتوهج عاطفة الشاعر, وتفيض بالحزن الأليم, فيتجه بالخطاب إلي صاحبته, فهو يريق عمره من أجلها, ولا يعرف للنوم طعمًا:
ما كنتُ أحسب أن الدهر يفجعني
به, ولا أن بي الأيامَ تفجعُه
حتي جري الدهر فيما بيننا بيد
عرّاءَ تمنعني حقي.. وتمنعه
وكنت من ريبِ دهري جازعًا فَرِقًا
فلم أوَقَّ الذي قد كنتُ أجزعُه
* * *
ونقترب من نهاية «الفراقية اليتيمة» لنري الشاعر يبدأ تدريجيًا في الانسلاخ من قيود الجزع والتمزق والانهيار, ويسترد بعضًا من تماسكه, ووقاره العقلي, داعيًا متمنيًا أن يعيد الله أيام بغداد, ويؤكد الشاعر هذه الرؤية بقرار نفسي هو ضرورة التحلي بالصبر, فالصبر طريق اليسر, ومفتاح الفرج, والموت نهاية كل حي, والاستسلام لقضاء الله هو جوهر الإيمان. يقول ابن زريق:
علمًا بأن اصطباري مُعْقب فرجًا
فأضيقُ الأمرِ - إن فكرتُ - أوسعُهُ
علّ الليالي التي أضنَت بفرقتنا
جسمي ستجمعني يومًا.. وتجمعه
وإن تَغُلْ أحدًا منا منيَّـتُـهُ
لابد في غده - الثاني سيتبَعُـهُ
وإن يدمْ أبدًا هذا الفراقُ لنا
فما الذي بقضاء الله نصنَعُهُ?
* * *
وبعد أن عايشنا هذه القصيدة الرائعة ننبّه القارئ إلي أن هناك أكذوبة - أو أغلوطة - شاعت في تاريخنا الأدبي, وهي أن ابن زريق لم ينظم في حياته إلا هذه القصيدة, لذا أطلقوا عليها «اليتيمة العصماء» أي التي لم ينظم من القصائد غيرها وهو حكم مرفوض - من وجهة نظري - للأسباب الآتية:
1-أن هناك إجماعًا بأن ابن زريق قد مدح أبا الخيبر بقصيدة أو أكثر.
2-أن وصف القصيدة «باليتم» لا يعبر عن مفهوم كمي, هو «الأحادية» أو الواحدية, بل عن مفهوم كيفي هو التفوق, والتفرد, والامتياز, فيقال هذه قصيدة يتيمة أي متفوقة - فنيا وموضوعيا - علي غيرها من قصائد الآخرين, وقصائد الشاعر نفسه, وبنفس المعني يقال: درّة يتيمة عصماء
3- كما أن ما تتمتع به القصيدة من نضح فني وفكري يقطع بأن الشاعر نظم قبلها عشرات - وربما مئات من القصائد - إلي أن وصل إلي مرتبة النضج في «العينية», وفُقدت مع ما فقد من تراثنا العلمي والأدبي والفلسفي.
والقصيدة الفراقية تتدفق بالصدق الفني, والتوهج العاطفي, ووحدة موضوعية محورها الأساسي هو الفراق, وطوابع درامية من مظاهرها التتابع الحدثي, والاسترجاع Flash back, والحوار بنوعيه. زيادة علي الأداء التعبيري السهل الموحي... إلخ. وكل ذلك أدخل القصيدة التاريخ من أوسع أبوابه, وأجملها , وأزهاها.