بناء الجملة الشعرية

بناء الجملة الشعرية


رمضان عمر

[email protected]

رئيس رابطة أدباء بيت المقدس / فلسطين

وهل الشعر إلا أن تأتي بالمعاني ، فترتبها في ذهن ، ثم تجلب لها الألفاظ المناسبة ، فتنسجها وفق مقتضيات اللغة، وتعمل فيها ما جادت به قريحتك، من روعة تصوير ، وبعد خيال ، وملاءمة حرف لحرف، وكلمة لكلمة ، ومعنى لمعنى، محكما قوافيك إحكاما تترقرق معه الإيقاعات ، فتشنف الأذن ، وتطرب النفس ، ولا تقل لي : نحن في زمن تطورت فيه اساليب البيان ، ولم تعد القوافي محكمات لضبط البناء ، كما فصل الخليل ومن تبعه باحسان ؛ فالشعر لم يعد ضربا من التصوير ، بل هو دفقات شعورية تعبر عن صاحبها ، وفق رؤية فلسفية ، لا يلزمها قيد الايقاع ، ولا ضبط اللغة .

فهذا الذي تراه ، وتضن به وتزعم أنه تطور ، من كثير غث منتشر في أسواق الشعر الحديثة ، وإن كان فيه ما نحب ونرتضي ، غير أنه يحتمل خطأ لا بد من رده ، وهو هيكلية البناء التي يجب أن تستند إلى شكل له أسس تقام عليها أعمدة الكلم ، وما بعد ذلك أعمل فيه أدوات تزيينك . وهذه الهيكلية مهما طرأ عليها من تطوير، فهي عائدة في مجملها إلى طبيعة اللغة الشعرية المتشكلة من كلام العرب أولا وآخرا، ومعتمدة على ذوقهم .خذ مثلا بيت امرئ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *** بسقط اللوى بين الدخول فحومل

ثم انظر هل ترى فيه من جمال ؟ فان كان ذاك كما طلبتُ فقل لي : من أين تأتى لك ذلك الذوق ؛ الذي قادك إلى هذا الاستناس اللطيف ، المتفق عليه لدى أذوقة العرب من كبار نقادهم ، ما لم تنظر الى روعة السبك في تخير المعنى الافتتاحي ، وبنائه بناءا نحويا ، وجلب افنان التصوير؛ ليخرج لنا عقدا لؤلؤيا ، ودرا منثورا ؟ ألم تر أنه أتاك بجملة انشائية ؛ تمثلت في فعل الامر"قفا" فاثار فيك شجون الأخوة كي تشاركه فعلا ما اقتضته حالة الفراق ، ثم أوجب له ما يوجبه النحاة من جزم في جواب الطلب ؛ فكانت كلمة "نبك" محذوفة الياء على شرط الجزاء ، وفق أصول النحو ثم علقت هذه الجملة بمقتضيات البكاء ؛ فكان الظرف علة البكاء" من ذكرى" والإضافة اضافت معنى جديدا اكتمل معه البناء ، ثم جاءت تفصيلات بينت قيمة المكان ؛ مكان الفراق ، و ومناطات القلوب بأسباب الرحيل .. ثم ارحل معي إلى بيت بشار، وانظر كيف اجتمع له من الحسن ما لم يجتمع لغيره ممن سبقه ، حيث يقول :

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا *** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

هذا الافتتاح الإدعائي العجيب ، من خلال استخدام أداة التشبيه " كأن" دون غيرها ، ذلك أن "كأن" تعطي قيمة استثنائية في ادعاء المشابهة التامة ، لا تعطيها الكاف في قولك : مثار النقع كالليل، لأن استخدام الكاف في تشبيه ساذج يستحضر صفة وجه الشبه ، وهي صفة واحدة ن تتمثل وتلك الصفة قد لا توافق المشبه ، أعني تشبيه الليل بالنقع ، ولا يصلح لتشكيل حالة تصويرية كما أراد بشار ، لكن جمال العبارة الشعرية ما كان ليكون لو لم تجتمع مع "كأن" قرائن نحوية وصرفية وبلاغية، ساعدت في اكتمال الصورة .

وذلك من مثل : تنكير "مثار" واضافته إلى النقع، واستخدام النقع دون غيره ، ثم الفصل بين الرؤوس والاسياف بالظرف ، ثم الإتيان بالخبر مركبا "ليل تهاوى كواكبه" اتصف بصفة غريبة " تهاوى كواكبه" . وان اردت استزادة في هذا فتأمل قول الله سبحانه: (( و قيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء اقلعي )) أي توقفي .. ثم انظر الى بناء الجملة للمجهول ، وما يعطي من هالة للخطاب ، ثم إسناد الفعل للأرض على سبيل الاستعارة ، من خلال جملة النداء"يا أرض" ثم إضافة الماء الى الأرض ، موطن الماء الاصلي(( و غيض الماء ))و هبط الماء أو رسب في الأرض . (( و قضي الأمر و استوت على الجودي )) .لقد نفد أمر الله بهلاك الظالمين ، و نجاة المؤمنين ، و تحقيق الجزاء لكلا الفريقين في عاجل الدنيا . (( و قيل بعدا للقوم الظالمين )) . هل تر في هذا التصوير البياني البديع غير تناسب اللفظ مع دقيق المعنى ، وتصوير الحالة من خلال جلب اللفظ البديع ليعانق معناه في غير نفور او غرابة .فإن استقام لك الذوق عند هذا الحد .

فعد معي إلى ما نراه من نسج غريب لما يسمونه "الشعر الحديث" -وبعض الشعر الحديث لا باس به - غير ان الانفلات من نظام العربية هجن الشعر ، وترك حبله على غاربه ، فاباح ساحته ، وأصبحنا ندور في حلقات مفرغة ، لا طائل وراءها ؛ ا فلا مراعاة لأصول نحوية ، ولا قيم جمالية ، وليس كذلك الإبداع ، انما الابداع : أن تعيد تشكيل اللغة العربية تشكيلا بديعا ، مراعيا لما تتطلبه العربية من نظام تعورف عليه . ثم بعد ذلك تخير قالبك دون ان تخدش رقة التصوير ، وسماحة الطبع ، ورونق التعبير ، وشرف المعنى ووضوح العبارة . وإن أردت الخفاء ؛ فخفاء المتأمل لإ خفاء الحوشي الغريب الذي لا معنى وراءه .

لسنا ضد التجديد ، وملاءمة اللغة الشعرية للعصر ، ولن نلقي رحالنا حيث ألقت رحالها أم قشعم ، ولن نرحل في الشعر على ناقة أو بعير ، بيد أننا لن ننحرف عن أصول التشكيل الهندسي للغتنا الجميلة التي أنعم الله بها علينا ، ونتمسك بفهم ابن قتيبة حين رفض التجديد الاعمى " فيقف على منزل عامر ، أو يبكي عند مشيد البنيان ، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم العافي ، وليس له أن يرحل على حمار أو بغل ويصفهما ، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعي ر، أو يرد على المياه العذبة الجواري لأن المتقدمين وردوا على الأواجن والطوامي ، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرار ، كما لا يجوز له أن يقيس على اشتقاقهم فيطلق ما لم يطلقوا .. فالمعاني مطروحة في الطريق ، وفق فهم ابن رشيق نقلا عن صاحب العبارة "عثمان بن بحر الجاحظ " ، الذي أعطى الشعر حقا في تخير معانيه أي أفكاره ، رافضا الشعر الوعظي ، ومبينا أن الغلو من حيث هو تصوير خير من الصدق الذي يزل عن صهوة الإبداع ، ويهوي بالمباشرة الى قيعان السطحية .