التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة

التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة..

ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

إن اقتران الشعر بالتجارب الذاتية، ألزم الشاعر اكتساب القدرة على تخطي ما هو جاهز ، والدخول في محك الواقع للتعبير عنه وعن ذاته بصيغة جديدة ومتميزة. وألزم القارئ من ناحية مقابلة تغيير وجهات بحثه كي يصل إلى ظاهر القول وباطنه.

ومقاربة الشعر بهذه الوسيلة كان وراءه شغف الباحث الجاد بالشعر، أي عشقه المتفاني في تجلياته، ومحاولة تفكيك الخطاب الشعري بالنزول إلى عمقه والبحث عن أصدافه الضائعة.

الواقع أن دراسة الشعر المغربي المعاصر من وجهة التنظير الدلالي، لم يأت بمحض الصدفة، ولم يكن وراءه شغف بهذا العلم أو غيره من المناهج التي ما فتئت تغرس في بيئتنا ومحيطنا. لكن الأمر جاء مفروضا من حيث قوة النص الشعري عند الشاعر الذي اختير للدراسة، وكان وراءه التحدي الملموس في محاولة إظهار المعنى الثاني الباطني.

كما أن الفجوة الفاصلة بين النص والمتلقي، التي أصبح اتساعها يتمطط، وهوتها تتشقق، وفاصلتها تتمدد؛ أفضى بنا إلى محاولة إزالة اللبس، وإبعاد فرضية الغموض، أو الإبهام في الشعر العربي والمغربي المعاصر خاصة.

قد نبخس من قيمة القراءة التي تنهج آليات أخرى غير التي وقفنا عندها إذا نحن كنا من المتشددين في مسألة المنهج وضرورة الاحتماء بنظرية دون أخرى، غير أن بحثنا كان إضاءة للتحولات الدلالية من أجل إضاءة ثانية: هي المتن الشعري المدروس..

إن الخلاصات التي وصلنا إليها لم تكن بمحض الصدفة، ولكن تأت بناء على عملية النظر إلى النص الشعري من منطلقين:

* كونه يشكل انسجاما كليا في دلالاته، والانسجام لا يتم إلا بتفسير، وتأويل ثم شرح الدلالات.

* تشكيل البعد السياقي / المنطقي في النص الواحد، ومن خلال السياق العام للتجربة الشعرية.

 لذلك كان عملنا خطيا ينبش في الدلالات وتحولها. وخلصنا إلى أن الشاعر محمد بنعمارة ينظر بوعي إلى دلالاته، ويؤثثها طبقا لقانون العملية الإبداعية التي يحقق بها رؤاه ورؤيته الشعرية.

كما أن الدراسة الحالية لجأت إلى تفجير النص الشعري للبحث عن أفق التوقع التي يتلذذ النص به. وكون الشاعر لا يكتب إلا عن قصد ، ومن أجل غاية معينة، فالتحليل انصب بالخصوص على تفكيك التجربة الشعرية وتحقيبها للوصول إلى دلالات كل مرحلة.

ومن المهام المنوطة بالبحث في مجال الدلالة في الشعر ، الوقوف طويلا عند المعنى في كل كلمة، ومنها إلى التعبير، ثم إلى النص باعتباره مجموع الخطابات المحمولة وذات الوظيفة الإخبارية أو الجمالية. لذا كان الاحتراس قائما في كل مراحل التنقيب عن المعاني الباطنية، ولا نزعم أن الوصول إليه كاف لتحديد الرؤية الشعرية، لأن المعجم يخدع القارئ في كثير من الأحيان. ولكننا توخينا تمطيط الدلالات على أساس تحديد المفارقات التي تصل دلالة النص بدلالة الخطاب. بمعنى أن عملنا انصب على تحديد الخطاب الشعري عند محمد بنعمارة، وانسجاما معه حاولنا تأويل الدلالات بعيدة المنال.

فمن بين أهم ماوصلنا إليه هو الحقيقة المرتبطة بالتجليات الصوفية في شعر محمد بنعمارة، واتسمت تجربته بمحاكاة رواد التصوف العربي كالنفري وفريد الدين العطار وغيرهما. كما أن التحولات الدلالية ارتبطت بالتحول الجذري القائم في أطوار التجربة الشعرية عنده، لذلك قلنا إن حقوله الدلالية كانت متعلقة بنسبة كبيرة بتجربته الشعرية.

ولكي نفهم نصوص الشعر أكثر احتمينا بما كان يقدم في مؤلفات الشاعر التنظيرية، والواصفة للمفاهيم الصوفية وتجلياتها في الشعر.

لذا كان للمداخل النظرية في الفصل الأول دور المشعل الذي تخطينا به مغالق النص. وما قدم  ليس زائدا على حد قول محمد مفتاح، وليست:" عبارة عن قائمة لا رابطة بينها، وإنما هي عناصر بنية شاملة، فالمقصدية بما فيها من حالات التمني والرغبة، وباعتبارها أفعالا ذهنية ، تدفع إلى الاتصال بالآخر ليحصل التواصل الإعلامي والتفاعل، ولا يتأتى هذا إلا بما للإنسان من استعدادات فطرية قابلة لأن تسعف عند الحاجة، وبما له من معارف مختزنة في الذاكرة يتزود منها بالبنيات والأطر التي تنسج على منوالها ويتحرك ضمنها، وبما له من مؤهلات للتوليد والتحويل وعقد المشابهات وارتباطات ضمن فضاء وزمان اجتماعيين ولغويين ." [1]

وبهذا كانت محاولتنا تناوش النص ، وتقارب دلالاته من وجهة نظر دلالية. وبتميز الكثافة اللغوية، وحمولاته المعرفية سامرنا قوافيه لتأكيد صلة التوجه الفكري والتجربة الشعرية بالمواقف والكشوفات الصوفية . وتفكيك النص على هذا الأساس.

مهما قلنا عن هذه المقاربة تبقى قابلة للجدال سواء في دراستنا أو في محاولات مقبلة ، تكون أكثر دقة، وأكثر قربا من النصوص الشعرية المتنوعة، والخاصة بشعراء من أجناس فكرية مختلفة.

               

[1] - محمد مفتاح: النص من القراءة إلى التنظير، ص- 100.