فلسطين في دموع محمد صيام

فلسطين في دموع محمد صيام

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

إنه واحد من الشعراء الرساليين الضاربين فى الأرض يبتغون نصرًا من الله وفضلاً ورضوانًا... كان يمضى - وما زال - يحمل هموم دينه وأمته ووطنه، بل وطن كل المسلمين: فلسطين الدامية السليبة.. أرض الأنبياء، ومسرى محمد (صلى الله عليه وسلم)..

وفى الكويت والسودان والسعودية واليمن وغيرها كان يرفع صوته بالكلمة الوضيئة الهادفة منطلقًا من إيمان قوى لا يهتز أمام ظلم، ولا يلين أمام تهديد.

ومن عجائب الصدف أن التقائى بفن الشاعر كان من قرابة ثلاثين عامًا فى قصيدة مطولة مسجلة على «شريط كاسيت» يحكى فيها حكاية إلقاء رجال الأمن القبض عليه، وضحكت طويلاً وهو يصور كيف ضبطوه متلبسًا بجريمة «إحراز مفتاح»، إنها خفة الظل التى اشتهر بها محمد صيام.

والمقام لا يتسع لتقييم كل ما جادت به قريحة شاعرنا الرسالى محمد صيام.. ولا حتى كل فلسطينياته، وقد يتسع المقام لذلك إن شاء الله إن امتد بى العمر.. فلتكن وقفتى هذه المرة أمام أحدث دواوينه صدورًا، وهو ديوان «الاغتيال منهج الاحتلال».

والاغتيال ليس مجرد منهج للاحتلال، ولكنه دينه، وديْدنُه، وطبيعته ونخاعه؛ لأنه مرتبط ارتباطًا عضويًا بطبيعة المحتلين الغاصبين، وهى الجبن والغدر والعجز عن مواجهة الرجال.

أبدأ الولوج إلى عالم شاعرنا صيام فى هذا الديوان، وأقبّل بعينيّ أبياته الخمسة فى (التقديم) فأجدنى أمام حقيقة علمية أزلية لم يقصد إليها الشاعر قصدًا، وإن كانت أبياته قد أشارت إليها عفويًا، ومؤداها أن الحيوانات الكاسرة المفترسة - فى صراعها وقتالها - محكومة بضوابط وقيود تتلخص فيما يأتى:

1 - سلمية المعايشة فى حياة «الجنس الواحد»، فلا صراع ولا قتال بين أفراد الفيلة مثلاً، أو بين أفراد الأسود، أو بين أفراد الذئاب، مهما كثرت أعدادها فى الغابات.

2 - محدودية القتال سلوكًا: فلو أن ذئبًا خطف قطعة لحم من فريسة الأسد، فإن الأسد يشفى غضبه بجرحه أو قتله، وينتهى الأمر، ولا نجد «طائفة الأسود» تهاجم جماعة الذئاب، ولا يقرّ لها قرار إلا بإفنائها.

3 - محدودية القتال وقتًا، فهى لا تعرف القتال الدائم المستمر، بل ينتهى الصدام بانتهاء سببه، وقد لا يستغرق إلا دقائق محدودة.

4 - التخلى عن «روح العدوان» عند حلول الخطر العام الجائح، ومثال ذلك: عندما يشب حريق فى الغابة، نرى الأسود والنمور والغزلان وحمر الوحش.. متجاورة، فلا قتل، ولا فتك، ولا غدر، ولا إيذاء، فكلها تسيرها «وحدة الهدف»، وهى النجاة من النار.

ولكننا نرى الإنسان - وخصوصًا إنسان العصر الحديث، وبنى صهيون بصفة خاصة.. نراهم فى طبائعهم، ونهجهم، ومسالكهم.. أضرى من الوحوش الكاسرة، بل إننا نظلم هذه الوحوش، إذا شبهنا هؤلاء بها.

وهذه الحقيقة العلمية - فى محورها الأساس - عبر عنها الدكتور صيام فى أبياته الآتية:

طـبْعُ  الوحوش جرائم تنهدّ منهن iiالجبالْ
ودم  وأشـلاءٌ وعـضّ باليمين iiوبالشمال
أما وحوش الناس فهى أشد فى هذا المجال
فالقتلُ  والتدمير أو سفك الدماء iiوالاغتيال
هذا لعمر الله - وا أسفاه - منهجُ الاحتلالْ

*******

ويهدى صيام ديوانه:

لأولـئك الشهداء من أبطالنا الصِّيد iiالعظامْ
مـمـن قضوا بسلاح أبناء الخنازير اللئام
فمضوا إلى جنات عدْن فى رضا ربِّ الأنام
مـسـتبشرين منعمين وخالدين على iiالدوام
كـالـسـابـقين الأولين وكالنبيين iiالكرام

وهو إهداء يبين عن موضوع الديوان، فقد جاء كله - على وجه التقريب - سجلاً حافلاً بشخصيات المجاهدين الشهداء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فجادوا بنفوسهم فى سبيل الله، دفاعًا عن الأرض والعرض، والأقصى، لا تأخذهم لمحة جبن، ولا لحظة تردد.. فأعادوا بنهجهم الرحمانى قول من قال:

ولستُ أبالى حين أقتلُ مسلمًا

على أيِّ جنبٍ كان فى الله مَصْرعى

********

ونمضى فى ديوان الشاعر العظيم لنكحل عيوننا بأسماء الشهداء تعطر صفحاته، ومنهم: الشيخ أحمد ياسين - الدكتور عبد العزيز الرنتيسى - عماد عقل - يحيى عياش - محيى الدين الشريف - عادل عوض الله - عماد عوض الله - محمود أبو هنود - الشيخ جمال منصور - الدكتور جمال سليم - الدكتور إبراهيم المقادمة - صلاح شحادة - المهندس إسماعيل أبو شنب.

والشاعر فى هذا الديوان - بما قدمه - يؤكد ويرسّخ - عمليًا - الحقيقة النقدية التاريخية المشهورة، وهى أن «الشعر ديوان العرب»، فلولا الشعر لضاع نصف تاريخ العرب وخصوصًا قبل «عصر التدوين» أيام أن كان العرب يعتمدون على «حافظتهم».

وكان «أبو تمام» يوصف بأنه «خطيبُ عسْكر»، كما كان يوصف بأنه «بكّاءة نوَّاحة»، نراه خطيب عسكر فى بائيته المشهورة التى مطلعها:

السيفُ أصدق أنباءً من الكتب

فى حدّه الحدُّ بين الجد واللعب

وكان بكّاءة نوّاحة، ومراثيه خلدت كثيرين من الشخصيات التاريخية، وخصوصًا بنى حميد الطوسى، وما زالت الأجيال تردد بكائيته فى محمد الطوسى، ومطلعها:

كذا فليجل الخطبُ ولْيفدح الأمرُ

فليس لعينٍ لم يفضْ ماؤُها عذْرُ

توفيتْ الآمالُ بعدَ محمدٍ

وأصبح فى شُغْلٍ عن السفرِ السَّفْرُ

ولكننا سنرى أن دموع محمد صيام تختلف فى طبيعتها، وبواعثها عن دموع أبى تمام، وغيره من الباكين الراثين.

ولم ينس محمد صيام - فى مقام الشهادة - أن يتحدث عن «البراءة الشهيدة» فى أطفال فلسطين الذبيحة مثل الطفلة «إيمان حجّو».

إيمانُ حجو لا تزال تذكِّر الدنيا

بإجرامِ الصهاينة الأصيلْ

وهناك آلافٌ سوى إيمان من

أطفالِ أمتنا جريح أو قتيلْ

وليس من الضرورى أن يكون الجهاد فى «ميدان قتال»، فكل جهات الأرض ساحة جهاد للمسلم بالكلمة والدعوة إلى الحق، وتربية الشباب، وشحن النفوس لمواجهة الأعداء، وهى من منظومة القيم التى يؤمن بها الشاعر، ويدعو إليها، فلا عجب أن تسع دموعه الشيخ الشهيد محمد صلاح خطيب المسجد الحسينى بصنعاء الذى اغتالته يد الغدر المتصهينة فى 25 من يوليو 1998م.

وسمة بارزة أراها فى «دموعيات» الشاعر، وهى القدرة الفائقة على تضمين الأعلام فى شعره دون تكلف، فنراها فى سبيكة واحدة، واتساق وتلاحم منتظم، بلا قلق فى التجاور، ولا تنافر، ومن الشواهد على هذه السمة:

محيى الشريف إضاءةٌ

فضحتْ دهاليزَ الظلامْ

أما «عماد» و«عادل»

وسواهما الصيدُ الكرام..

أشلاء جسمك يا أبا هنود

أمْ ريحُ مسكٍ أم أطايبُ عودِ؟

فتحى الشقاقى فى جنا

ن الخلد بين الخالدين

وهذه السمة تدل على قدرة شعرية وتمكن لغوى من ناحية، كما تدل على صدق معايشة الشاعر لعالم هؤلاء الشهداء من ناحية أخرى.

ومن ناحية الكم نظم الشاعر سبع قصائد فى شيخ المجاهدين أحمد ياسين، وقصيدتين فى الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسى، وثلاث قصائد فى الشهيد يحيى عياش وقصيدتين فى الشهيد صلاح شحادة.

ومن الشهداء من خصه الشاعر بقصيدة واحدة وهم: الشهيد الدكتور فتحى الشقاقى، والشهيد المهندس إسماعيل أبو شنب، والشهيد الشيخ محمد صلاح، والشهيد محمود أبو هنود، والشهيد الدكتور إبراهيم المقادمة، وجمع الشاعر فى قصيدة واحدة بين الأخوين: عماد وعادل عوض الله.

ولم يخلُ الديوان من «المرثية الجمعية» التى تتناول عددًا من الشهداء كقصيدة «كوكب الشهداء» وفيها جمع بين أربعة من الشهداء وهم: عماد عقل، وخالد الزير، وكمال كحيل، ومهند الطاهر.

وهو فى هذه القصيدة يحكى تفصيل حلم جميل، إذ رأى نفسه فى رياض الجنة، حيث النعيم والحور العين، وهناك يلتقى بآلاف الشهداء:

ثم  اقتربتُ فصرتُ  أجلسُ بينهم وبلا حدود

فإذا «كحيلُ» العبقريّ يطل من بين  الحشود

و«عمادُ عقلٍ» جالسٌ كالليث يزأر فى الوجود

و«مهندٌ» و«الزيرُ» والجمع الغفيرُ من الأسودْ

********

وفى تضاعيف القصائد الدمعية يمجد الشاعر الشهادة، ويبرز جلالها، وأثرها فى بناء الأمم، ونهضة الشعوب، وله قصيدة مستقلة فى «الشهادة» ص32 تعد من أبرع وأجمل ما نظم. يقول فى مطلعها:

هى الشهادة لا تعطَى لإنسان

إلا لمعتصم بالله ربانى

من الذين إذا ما استُنهضوا نهضوا

مثل الضراغم من شيب وشبانِ

هؤلاء هم الذين يستحقون أن يرزقهم الله نعمة الشهادة؛ لأنهم مهيأون لها، جديرون بها، بما يملكون من ثراء روحى وصلاح وتقوى، وصدق فى العزيمة والعمل.

أما الذين هوى فى النفس يدفعهمْ

إلى التثاقل من صمٍّ وعميانِ

ممن إذا استُنْهضوا خارت عزائمهم

طلاب فانية، عبّاد شيطان

فهم على الأرض أموات وإن ظهروا

بمظهر الحيِّ من قاصٍ ومن دان

وهو بهذه المفارقة بيَّن الجديرين بالشهادة، والذين لا يستحقونها، يلح على حكم ربانى خالد فى قوله تعالى: { ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } (آل عمران: 169)، كما أنه يجدد قول الشاعر العربى:

والناس صنفان: موتى فى حياتهمو

وآخرون ببطن الأرض أحياءُ

**********

ودمعيات الشاعر منها قصائد قصار لا تتجاوز عشرة أبيات كقصيدة «عبرٌ ياسينية» ص11، وقصيدة «عجائب ياسينية» ص21، ومنها دمعيات متوسطة الطول، ومنها مطولات بلغ بعضها ثمانين بيتًا مثل قصيدة «عشاق الشهادة: يحيى عياش» ص37 - ص48، ومثل قصيدة «الدكتور فتحى الشقاقى» ص 51 - 58.

ومطولات صيام يغلب عليها الطابع القصصى الحكائى، بطريقة عفوية لا افتعال فيها، حتى تبدو الدمعية المطولة وكأنها «ترجمة نفسية روحية» للمرثى.

وحتى يتبين للقارئ معالم هذا النهج نعرض - فى إيجاز - مضامين مطولة الشاعر عن فتحى الشقاقى:

فهو يستهلها ببيان طبيعة العلاقة التى كانت تربط بينه وبين الشهيد، فهما يجمعهما وحدة العمل للحق والأمة، ووحدة الهدف، وهو تحقيق الحرية والنصر فى عالم مجنون «لا خلق لديه ولا ضمير».

ومضى بنا درب الحياة الشيبُ منا والشبابْ
وكأنما تلك الجموع لدى الوغى آسادُ iiغاب
فـهنا «الجهاديون» فتيان مرازبةٌ iiغضاب
وهـنـا الحماسيون كالبركان يلقون الذئاب
وسـلاح كـل مـنهمو ظفر مدببة.. وناب

ويذكر الشاعر يوم نُعى إليه وإلى أصحابه «فتحى الشقاقى» بعد أن اغتاله الغادرون فى «مالطة» ومع حزنهم على فراقه، تمنوا أن ينالوا ما نال، فهو فى جنة الخالد:

أما الذين استهدفوه من الطغاة المجرمينْ

فالله أركسهمْ وردّهمو لأسفل سافلين

وتُفجر ذكرى استشهاد فتحى الشقاقى عددًا من الحقائق الجليلة والشخوص النبيلة الذين بذلوا دماءهم فى سبيل الله والوطن، وفى المقابل النقيض:

الآخرون من المهازيل الصغار الأدعياءْ

مـا عندهم بــذل لأمتهم وليس لهم وفاء

ويذكر فى ذكراه الانتفاضة القوية التى وقفت فى وجه الحلول التصفوية المصحوبة بالتطبيع والذل وفقد الهوية، وكان أصحابها:

مثل السوائم همُّها رعْيٌ وأطعمة شهيةْ

هؤلاء الذين باعوا دماء الشهداء:

كى يجلسوا فوق الكراسى راكعين وخانعين

والخصم يصفعهم صباحًا أو مساءً خائفين

وفى ظلال هذه الذكرى يشير الشاعر إلى الرحلة التى قام بها مع الشهيد إلى «الحواضر والعواصم» لشرح أبعاد القضية الفلسطينية للعرب، والعمل لمناصرة الشعب الفلسطينى.

«ويذكر صمود الأبطال الذين أبعدهم الصهاينة إلى كرْم الزهور» سنة 1992، فلم يهونوا ولم يستسلموا:

وتحملوا فيها تصانيفَ الأذية والشرورْ

ولقربها من أرضنا كانت ألذَّ من القصورْ

وتتوالى الذكريات فى ذكرى الشقاقى الشهيد العظيم، يعرضها الشاعر فى اتساق عفوى متوالٍ، فيذكر عياش الفتى الحر العنيد:

وصموده حتى كأن القلب قُدَّ من الحديدْ

ويذكر البطل الحماسى: «خالد مشعل» الذى حاول عملاء الموساد عبثًا أن يغتالوه، ويثنى على حراس البطل الذين قبضوا على المجرمين الآثمين الذين حاولوا اغتياله.

وفى هذه الذكرى يحمل الشاعر على الزعماء والقادة الخانعين، والسلطة الهشة المنصاعة المستسلمة، وكانت النتيجة المنكودة - كما صورها الشاعر:

وبلادُنا كـادتْ تضيع وحقّنا القدسى ضاعْ

لا ضفة بقيت ولا القدس الشريف ولا القطاع

وبحماسة إيمانية صادقة يهتف شاعرنا بالأمة:

يا قومنا فمتى نفيق من التثاؤب والرقاد؟!

حتى نرد سهام أعداء البلاد إلى الأعادى

فالصوتُ بُحَّ من النداء ولا حياة لمن تنادى

إن ما قدمتُ يمثل «جزءًا» من الرحلة الفنية مع هذه المطولة وما دار فى فلكها.. ويمثل شوطًا فى عالم «الدمعيات الصيامية»، وكل أولئك يطالبنا بصلة واستكمال .

****

ونمضى مع الشاعر الدكتور محمد صيام فى ديوانه «الاغتيال منهج الاحتلال»، فنرى أن «دموعياته» لا تقف عند الشهداء فحسب، بل تتسع للوطن الأم فلسطين، ويرى أنها تمثل «أندلس العصر»، فبين فلسطين والأندلس وجوه شبه متعددة، منها أن أصحابها من العرب هم المسئولون الأساسيون عن ضياعها، وأن من أهم أسباب الضياع :

تفرق الكلمة، وتفتت الوحدة، وانشغال الأمراء بأنفسهم، والتمكين لحكمهم على حساب قيم الحق والرجولة والشرف، وضعف الحس الدينى،

وتفكك العزائم.

وفى بكائيته لفلسطين يعيش الشاعر نفسًا وروحًا - مأساة الأندلس فى نونية أبى البقاء الرَّنْدى، ويقدم معارضة لها، يضمنها كثيرًا من أبيات أبى البقاء، وشطوره، وفيها يقول:

(لـكـل شيء إذا ما تم نقصانُ)
والـناسُ لا فرح يبقى ولا iiترح
أمـا فـلـسطينُ فالأتراح iiدائمةٌ
وفـى جـنـينَ أحاديث مروعة
(تلك المصيبة أنستْ ما iiتقدمها)
(لـمثل هذا يذوب القلب من iiألم





أمـا مصيبتنا: الأحزان iiطوفانُ
(مـن سره زمن ساءته iiأزمان)
(قـتلى وأسرى فما يهتز iiإنسان)
(وما لها من طوال الدهر نسيان)
فـديـر ياسين تحكيها iiوبيسان
إن كان فى القلب إسلام iiوإيمان)

وفى القصيدة يشير الشاعر إلى مدن فلسطينية مناضلة ممتحنة صابرة مثل: الخليل، وبيت لحم، ونابلس، ولكن «جنين» تنال أوْفى نصيب من قصيدته، فقد ضربت بنضالها وصبرها وثباتها أروع الأمثلة على مدار التاريخ كله.

ويدور فى الفلك نفسه ربطُه بين مأساة فلسطين ومأساة العراق ونكبته بالاستعمار الأمريكى، ويصدِّر قصيدته (بين العراق وفلسطين) بالسؤال التالى: «فلسطين بعد الأندلس والعراق بعد فلسطين، فماذا بعد العراق؟».

ومن أبيات هذه القصيدة:

فى رحاب الأقصى وحول جنين

راجماتُ الموت الزؤام تُداهمْ

والجراحاتُ - عندنا - كل يوم

فى فلسطينَ.. والخطوبُ توائمْ

والعراق الأبيّ كم قد رماه

- من عرابيدهم - شقيٌّ وآثمْ

وتساوى العدوان فى البطش والظلْ

م، وقامت فى الساحتين المآتم

فهنا الاجتياح كالموت حاسمْ

وهناك القصف الجنونى قاصمْ

وكالعادة يصب الشاعر جام غضبه على الزعامات العربية الخانعة المستكينة المستسلمة، فهم:

يتلقوْن باحتجاج وشجْب

كل عادٍ من المغيرين ظالمْ

ونراهم فوق الشعوب صقورًا

وإذا زمجر الغزاة حمائم

***********

وإذا كان الشاعر يربط بين نكبة فلسطين من ناحية، ومأساة كل من الأندلس والعراق من ناحية أخرى، فإنه يربط بين المدن الفلسطينية بداعية التشابه التوأمى بين هذه المدن: مأساةً، ونضالاً، وصبرًا، ومصابرة. وهذا ما نراه فى ربط الشاعر ما بين جنين، ودير ياسين فى قصيدتيه «جنين الصامدة»، و«دير ياسين - فاتحة المجازر»، فهو يصدِّر قصيدته الأخيرة بالعبارة النثرية الآتية:

«إن ما فعله الصهاينة الوحوش فى جنين - رغم فظاعته المتناهية - إنما هو صورة مصغرة عما فعلوه فى «دير ياسين» فى 9 - 10 من أبريل 1948م».

يستهل الشاعر قصيدته عن «جنين» بقوله:

أنا من «جنين» .. وهل هناك اليوم أشرف من جنينْ؟

صمدتْ أمام المعتدين، فلا تكلُّ ولا تلينْ

ولسوف  تبقى درةً فينا  على مرِّ السنين

أنا من مخيمها الذى صدّ الغزاة المجرمين

لما أتوْا مثل الوحو ش على حماه هاجمين

ثم تحل فى أبريل ذكرى مذبحة «دير ياسين» التى تكررت فى جنين الصامدة:

واليوم «إبريل» يهلّ، و«دير ياسين» تنادى

ودم الضحايا فاح -مثل المسك- فى كل البلاد

ويهود ُ حقدهمُ الدفينُ ومنذ آلاف السنينْ

قد  حولوه  أسنةً تفرى  بطون الآمنين

*********

ودمعيات - أو بكائيات - المدن عند محمد صيام - بالرغم من مأساوية الواقع ودمويته - يهيمن عليها ثلاث قيم نفسية عليا هى:

1 - الاعتزاز بالماضى العربى والإسلامى المجيد.

2 - الاعتزاز الآنى بالأرض.

3 - غلبة الأمل، واستــشراف مستقبل ظافر منتصر، على الرغم من عمق الجراح، وكثرة المعوقات، وظلم ذوى القربى.

فالشاعر يختم قصيدته «جنين الصامدة» بقوله:

واعلم - هداك الله - أنا أمةٌ... لا تستكينْ

وإذا انتفضنا نستطيب الموت لا العيش المهين

وغدًا - بإذن الله - سوف نُرى الخلائق أجمعينْ

مَنْ هؤلاء المسلمون، ومَنْ شبابُ المسلمين؟

ويختم قصيدته " بين العراق وفلسطين " بالأبيات التالية:

وسيبقى الشعبُ الأبيّ أبيًا

ولمسرَى النبيّ فى القدسِ خادمْ

وسيبقى شعب العراق عزيزًا

وعلى الصدِّ للمغيرين عازم

وسيبقى العراق حرًا قويًا

والذى ظن قهره فهو واهم

*************

كان هذا هو الشاعر الإسلامى الرسالى الدكتور محمد صيام، وإذا أردنا أن نصنفه فى حكم مكثف - أو مقطَّر - جامع قلنا: إنه «شاعر السجيّة المنطلقة» أو «الشاعر الشعبى الإسلامى» ، ولا خلاف، إنما هو الترادف التام، بقصد التوضيح والتبيين، فصيام ينظم كأن الشعر يجرى على لسانه إبداعًا مترسلاً لا يعوقه عائق، وأقصد «بالشعبية» هنا أن شعره يتلبس بوجدان المتلقى وعقله فى ديمومة لا تحتاج إلى توقف لاستيعاب معنى متوارٍ، أو لفهم معروض منـطلق ، وبتعبير آخر : هو شاعر جماهيرى يصل إلى نفس السامع بإنشاده الصوتي مباشرة، دون اللجوء إلى قراءته، ولا كذلك شاعر مثل محمود حسن إسماعيل، وشاعر مثل عصام الغزالى، فالقارئ - حتى يعايش تجربة كل منهما - يحتاج إلى قراءتهما، ربما أكثر من مرة، وهذا لا يعيبهما، فشعرهما - وخصوصًا محمود حسن إسماعيل - مضمخ بالعبير الفنى الغامض.

وشعبية صيام - بالمفهوم الذى ذكرناه آنفًا - ترجع إلى سهولة أدائه التعبيرى، وقرب خياله غالبًا، فهو لا يميل إلى الصور التركيبية المتداخلة، وترجع كذلك لهيمنة الجو القرآنى على شعره، وترديده كثيرًا من القيم الإسلامية. ومن سماته كذلك إيثاره فى أغلب شعره البحور المجزوءة.. وخصوصًا «مجزوء الكامل» ذا النبر الآسر الأخاذ، وكذلك إيثاره ما يمكن أن نسميه «القافية القرآنية»، فهو يكثر من توظيف «النون» حرف رويّ، وقبلها حرف المدّ، مما تنتهى به كثير جدًا من الفواصل القرآنية { ن. والقلم وما يسطرون }، { والتين والزيتون. وطور سنين. وهذا البلد الأمين }... إلخ، وعند صيام (انظر قصيدة سلام الوحوش، ص6، وقصيدة «مديح أم رثاء؟» ص 17، وقصيدة «فتحى الشقاقى»، ص 51، وقصيدة «حوادث الاغتيال» ص ..63. إلخ.

والدراسة الأسلوبية والعروضية عند شاعرنا الدكتور صيام.. تحتاج إلى دراسة مستقلة، قد يتسع لها المقام مستقبلاً - إن شاء الله .

الشاعر في سطور

> هو الدكتور محمد الشيخ محمود صيام، من قرية (جورة عسقلان: جنوبى فلسطين).

> ولد سنة 1935م فى محافظة الشرقية فى مصر من أم مصرية وأب فلسطينى من علماء الأزهر.

> أنهى دراسته الثانوية فى غزة، ودراسته العليا فى مصر.

> عمل مدرسًا وموجهًا للغة العربية والتربية الإسلامية فى رفح والكويت.

> حصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة أم القرى بالسعودية (سنة 1980، 1983).

> تولى إدارة الجامعة الإسلامية بغزة (1984 - 1988)، ثم أبعدته سلطات الاحتلال من القطاع.

> أقام فى السودان عدة سنوات، ثم استقر به المقام فى صنعاء اليمن من سنة 1994م.

> من دواوينه الشعرية:

1 - دعائم الحق 2 - ملحمة البراعم (عشرة أجزاء)

3 - ميلاد أمة 4 - سقوط الرفاق 5 - ديوان الانتفاضة.

وما زال متواصل العطاء، مدّ الله فى عمره.