شعرية السرد و/أو شعرية الحياة

عبد الكبير الخطيبي

شعرية السرد و/أو شعرية الحياة

قراءة في:

(عناكب من دم المكان)*

"بدون الليلة البيضاء للحب والشهوة،وبدون تجربة الزمن المنقرض، هل تكون هناك قط حكاية أو كتابة ؟"

عبد الكبير الخطيبي

اســــــــــتهلال :

إن الخطاب الشعري لدى عبد السلام الموساوي لا يتحدد بوصفه كتابة وجودية تجسد تفاعل الذات مع واقعها فقط ، بل باعتباره انخراطا في أسئلة اللغة ومآ زقها أيضا ، حيث تتأمل اللغة ذاتها ، وتمارس إغراءها ، سواء داخل جنس الشعر ، كما في ديوانيه :" خطاب إلى قريتي " و" سقوف المجاز " ، أو من خلال عمله السردي الأخير :" عناكب من دم المكان " ، حيث السفر الموشوم للغة نحو المجهول ،الذي تضيع فيه الكلمات ، وهي مخضبة بدم مكان اسمه " أيلة " ، باحثة فيه عن أبجديتها الثانية ، وهي تستوعب الإبدالات المختلفة ، والتحولات الطارئة على الزمن والذات والتاريخ والمجتمع، ذلك ما تبدى لتا ، ونحن نتبادل غواية الإنصات لعمل الموساوي الجديد، بفتنة الشعر والجمال والخيال.

العناكب والتصنيف الأجناسي :

تمارس "عناكب من دم المكان " ، كعمل أدبي ، لعبة الخداع ، فهي لا تعلن عن جنسها ، فتستعيض عن ذلك بإيراد لفظة " نصوص " ، باعتبارها علامة لغوية دالة على جمع نكرة ، وهي بهذا المنظور النحوي ، لا تشي بانتمائها إلى أي جنس أدبي محدد ، وغياب الإشارة الأجناسية ) شعر ، مجموعة قصصية ، رواية ، مسرحية..( يجعل القارئ يقف حائرا حول الخانة التي يمكن إدراج هذا العمل ضمنها ، لهذا يجد نفسه ، في غياب هذه الإشارة المساعدة على اقتحام عالم هذه النصوص والاصطدام بها ، مجردا من كل الأدوات ، فيفاجأ منذ الوهلة الأولى بوجوده وجها لوجه مع وحدة سردية معنونة ب :" المزمنون " ، وبقدر ما يحس باكتمال هذا النص وتقاطعه مع الشكل السردي / القصصي ، بقدر ما يشعر بإمكان قول الكاتب أكثر مما قال ، وأنه لم يستنفد كل ما لديه . وهذا الانطباع يجرنا إلى القول بأن النصوص الأخرى المتتالية ، تشكل وحدات سردية أساسية مستقلة ، غير أننا بانتقالنا من نص لآخر ، نكتشف خيطا سرديا رفيعا يوثق عرى هذه النصوص ، ويقوي سدى لحمتها ، ويربط بينها رغم توزعها إلى ثلاثة عشرة نص . وتوالي النصوص وانشدا دها إلى خيط ناظم يوحيان بطبيعتها السردية / القصصية ، فضلا عن تصويرها للحظات زمنية ذات دلالات وايحاءات معبرة ، تكاد تشبه اللقطات في الصورة ، كل هذه السمات ، أضف إليها ما ينبئ عنه العنوان ، بوضوح ، من أن المكان هو الهاجس المسيطر على مخيلة الكاتب ، باعتباره مكونا سرديا بامتياز ، وهناك " العناكب " بصيغتها النكرة والمطلقة ، وهي توحي بعنصر الشخوص ، الذي يقيم علاقة جوار وحوار مع المكان، هذه المؤشرات النصية ، علاوة على التحققات النصية في متن الكتاب ، والمرتبطة بباقى المكونات السردية الأخرى ) ، السارد ، الأحداث ، الزمان... ( تستجيب لمواصفات النص القصصي ، المتمثلة في التعبير عن مواقف الكاتب من قضايا يبرزها في قالب قصصي مختزل ، وتأسيسا على ماسلف يمكن اعتبار نصوص " عناكب من دم المكان " قصصا قصيرة تؤسس لعالمها ، وتمتاز بفرادة أسلوبها و بنائها الشعري .

شعرية مكان اسمه أو أسطورة "أيلة" :

إن أول ما يلفت الانتباه في عنوان " العناكب " تفجيره لدموية المكان ، واستنهاضه للعديد من الأسئلة المتعلقة بعنصر المكان ، باعتباره إطارا لأفعال الشخوص والذوات الفاعلة ، ومن تم يغدو ، بأبعاده المعمارية والهندسية والجغرافية وأشيائه ، قولا لغويا داخل جسد النص للدلالة على المكان ، وعلى العلاقات بين الفضاءات والشخوص وأفعالهم في ارتباطهم بالقيم المحفزة لهم على الفعل في مساراتهم السردية المتحولة ضمن سياقات متعددة . ولعل احتفاء الكاتب بالمكان ، في هذا العمل ، فيه إيحاء باستعادة الجغرافيا الرمزية الموغلة في الماضي المكاني ، لأن دور الزمن/ التاريخ/ الماضي كبير في تصوير الدراما الإنسانية ، وهو ما يسوغ نوع الدراما الحدثية التي تؤثث أغلب مقاطع النصوص : " دم منتفض يبحث في التراب عن عروق الموتى )ص 77 ( .

والمكان/أيلة ، القرية الجبلية الصغيرة الواقعة في مقدمة جبال الريف ، يشكل الفضاء المركزي في " عناكب من دم المكان" ، وهو مكان شعري بامتياز في كل أبعاده ومكوناته :" قاموس نباتك قيامة خضراء .. صيدليات متوحشة ثلاثية الأبعاد : كيمياء الشفاء وكيمياء الموت ،وكيمياء العصر." )ص 6 ( /" الغابة الخضراء ".." قرية مدعومة بفوضى السواقي وتعريشات شجر اللوز المسن " )ص 44 ( ، ف"أيلة " مسحورة الحدود ، متاه ولحن أضرمه شيطان عبقري في نايات الرعاة ")ص 52 ( ، والكاتب – الشاعر يخرج هذا المكان إخراجا شعريا ، يجري فيه كل شيء وفق القاموس الانزياحي وجغرافيا المدى الرمزي :" يوم تنساب فيه موسيقى " الطقطوقة" بين الوديان المنزلقة من جبال مدينة تحمل تباريح الوجد والعشق المهزوم . فيختلط عبيرها بتناسق روائح الحب والنعناع المتجاورين تحت أثداء الدالية المزوجة لشجرة الليمون المزهرة .. ")ص 26 ( ، فيستحيل هذا المكان حكيا شعريا باذخا ، يعيد للأسطورة نسغها وسحرها ، فتتشابك المرويات لتفسخ للغواية سبل لفرح المؤود، والشوق الموارى ، وتتناسل اللغات بغموضها ، فتغدو "أيلة" فضاء لنبش الطبقات الأركيولوجية الذاتية والجمعية المترسبة ، إنها حكاية "أيلة"/ حكاية الحكايات : حكاية الباب لكبير، حكاية الدار الكبيرة ، حكاية الام، حكاية اللوح المختوم ، حكاية الشيخ سلام، حكاية مسعود ، حكاية البارودي ، حكاية فاطمة، حكاية السارد / الكاتب،...

إن الكاتب يجعل لمكان "آيلة" حيزا هاما يحضن أمكنة أخرى متعددة : الدار الكبيرة ، الجامع ، مكان الولي الصالح، الغابة ، سوق الخميس...، بل إنه من بشارة تكوين "أيلة " توزعت مدن سافرت في اتجاهات حدودها ، إنها مدن أجدير، فاس، تندوف، وهران ، القنيطرة / سوريا ، الجولان ـ أفينيون...هذا التكثيف المكاني يكشف إيحائيا بانفتاح المكان الأيلي على وقائع اجتماعية تاريخية ، وأبعاد إنسانية كونية. ولعل ذلك ما يشكل القلق الذي يؤرق الكاتب ، ذاك القلق المحصور في الوجود الإنساني إزاء فقدان قيم التعاطف الإنساني ، التي كانت تضج بها "آيلة" في زمن ولى إلى غير رجعة، هذا لانقطاع مؤشر على انتفاء الوجود بانتفاء قيمه ومعناه ، وبانتفاء كنهه وكيانه ، وهو ما يمكن عده تناصا موضوعاتيا، على الأقل ، بين " عناكب من دم المكان" و" سقوف المجاز" ) ( 1 ، أطلقنا عليه في دراسة سابقة :"شعرية الفقدان") ( 2 .

تعد "آيلة" أيضا فضاء الفرح البهي زمن الشيخ سلام والام وفاطمة ومسعود والقائمة طويلة، لأن تاريخها يبدأ ببلاغة الماء/ الخصب ، الذي تسقي كل مكونات أيلة الطبيعية والبشرية والرمزية ، لذلك ، فهي تسحر وتغوي ، وغوايتها تنغرس معالمها وطقوسها ودقائقها وشخوصها وأشياؤها عميقا في الوجدان ، وتحفر بعيدا في اركيولوجيا اللاوعي الجمعي . وإذا كان هذا المكان يسحب ذاكرة السارد إلى البقع البهية المرسومة في الذات ، فإن رؤى الكاتب تتوغل أيضا في الذات وتستبطنها ، بل وتشعرن ما تختزنه من هواجس وأحاسيس ، عبر غوص في الأعماق السحيقة ، فتغدو اللغة المستعملة رموزا لعوالم ضاربة في الخفاء ، لذلك يتعالق هذا المكان الأسطوري في بنائه وتمظهراته ، مع شخوصه، فيمسي مكان البطولة والرجولة والنضال مع عبد الكريم الخطابي، الذي أوصى قائلا :"إذا لم تستطيعوا حماية أيلة ، فاذبحوا نساءكم")ص 33 ( ، وهكذا تمتد أيلة لتصبح رمزا للوطن ، ودليلا آخر على وعي الكاتب بقضية الوطن بمفهومه المحلي والواسع ، وقضية الإنسانية بمفهومها الشامل ، وأيضا حرصه الوجداني على المصير الجماعي والإنساني انطلاقا من التجربة الذاتية للكاتب :"وامتزج دمهم القاني ..ضدا على الخيانة وبيع التراب ")ص 34 ( ، ]والبارودي الذي[" خاض الحرب العربية الإسرائيلية في القنيطرة وعلى تخوم الجولان ")ص 59 ( .إن أيلة ،أيضا مكان الفرح الطقوسي والوجودي مع الشيخ سلام وكمانه الوحيد وصوته المندلق من غنة الأنف .. ومع مسعود المولع ولعا شديدا بأعراسها وطقوسها الاحتفالية ، وكأني بالسارد يقدم رصدا لأيلة بين زمنين : 1 – زمن الخفاء / الخصب الممتد عبر كل معالم وأبعاد أيلة بطبيعتها الباذخة ومائها وناسها وأشيائها وطفولتها وشخوصها المتوارية..زمن العشق والوجد والجذبة الصوفية والأم الساردة ،2 - وزمن التجلي ، تجلي اليباب والخراب والفقدان والغياب والألم الإنساني والشعور بالخطيئة دون ذنب واضح ، ولعل الكاتب يشير بهذا المنحى الى حالات التاريخ الإنساني الغارق في الوحل والمأساة ، )فقدان الام ، فقدان الدار لكبيرة ، الأشجار المسنة والعجفاء ، الأنهار الجافة.. ( ، وهكذا يكشف لنا الكاتب عن تتبع التحول الدرامي ، الذي يتعقب شروخ الذات الفردية والجماعية ، إلى تجسيد تجليات هذا الصدع ومعالم الزمن الرديء،ليحل الموت والدمار كل معالم أيلة ، التي لم يتبق منها سوى اسمها " المدون بالحبر الصيني في دفاتر المركز")ص 58( ، إنها الأرض اليباب للموساوي ، التي لم يكن ساردها يرى فيها خرابا مطلقا ، لأن المعاني ظلت قائمة رغم تداخل الأشياء والأزمنة في بعضها . كيمياء أخرى تحرسها الذكرى التي تغدو عزاء الكاتب الوحيد، حيث لا أحد ينكر أن للأمكنة قبورها الجليلة ، ودمها الرمزي ، المستحيل الى سرد مشعرن ، يرنو الى تحويل خواء وخراب هذا الكون الايلي الى امتلاء ممكن يغير كيمياء الوجود ، ويعطي معنى للحياة ، وكأن الكتابة لدى الموساوي ممارسة وجدانية تسعف المرء في أن يمنح للوجود على أرض "آيلة" الهامشية معنى ، وعلى أن يبني نوعا من الجسور الرمزية والعلاقات المميزة مع الوجود..وهكذا يبني الموساوي عالمه الشعري في قالب سردي ، زمنا شعريا يلغي الموت، لكنه يؤرخ للحظات الهاربة ، فالموساوي استطاع بذلك" ترويض" مكان آيلة ، ليفتق منه حياة )شعرية( يومية ، يخضعها للشعرنة ، بما هي غوايات يومية يحياها الإنسان ، وشعرنة الحياة في أيلة تجعل الكاتب ينسى موته بالرجوع الى ألق الفطرة والطفولة والذاكرة ، التي تقله عبر سفر في المكان والزمان ، كما يستعيد الصوفي حضرته ، وبهذا المعنى ، فالشعر يعاش أكثر مما ينكتب ، خصوصا وأن الكون عند الموساوي يتأسس على الشعر وبه ، فلا غرو أن نجد لديه تفاعلا جدليا جميلا بين شعرية السرد و/أو شعرية الحياة من خلال نصوص العناكب ؛ فهو يسرد شعرا ، ويشعرن سردا ، ويشعرن حياة بأكملها في "أيلة" ، لأن الحياة لديه لا تستقيم إلا بالحديث عن التباساتها وشعريتها ، وبطرح أسئلة وجودية ملحة لها عمقها ، لذا نراه يكتوي بنارها ، وينكتب بها في " عناكب من دم المكان" ، لا بصفته قصاصا ، بل بصفته شاعرا مادام يمتلك مفهوما خاصا للفن الشعري والحداثة ، على الأقل، من خلال تجربته الشعرية في:"خطاب الى قريتي" و" سقوف المجاز".

هكذا يلملم الكاتب- الشاعر صورة أيلة ، وهي صورة معبرة ومكتنزة بالطاقة والكثافة الرمزية ، وهي أيضا خيط شعاعي ينبثق من النافذة ليضيء شروخا كبيرة في ظلمات ليل الواقع الراهن الدامس ، وكأني بالكاتب يفتح ثغرة لرؤية الجرح البشري والإنساني عبر كثافة التعبير وقوة التصوير من خلال تشكيل نصوص العناكب لامتدادات أيلة الجغرافية والطبيعية ، وابعادها التاريخية والأسطورية، وتنوع إشاراتها وإيحاءاتها ، التي تشيد شبه ملحمة مكانية ، يكون بطلها هو المكان كامتداد تغذيه شلالات دموية متفجرة من سراديب الذاكرة، لتتجمع في المجرى الواحد، بحيث يصبح المكان معادلا موضوعيا لدم الحياة :"الدم ماء الله لا يخرج إلا من ألم ")ص 43 ( ..

جغرافية المبنى وتضاريس المحكي :

يشكل مكان "أيلة " قوة محورية فاعلة تستقطب باقى القوى الفاعلة الأخرى ، لذلك نلاحظ أن وظائف هذه الأخيرة تتغير تبعا لاختلاف وضعياتها ، وتبقى " أيلة" كقوة ثابتة تستدعي الفواعل الأخرى من شخوص) الأب، الأم ، الصبي ، عبد الكريم ، مسعود، سلام ، البارودي ، فاطمة.. ( ، وحيوان )الخيول ، الثعابين... ( ، وطبيعة)أشجار التين والزيتون واللوز.... ( ، وأمكنة )الدار الكبيرة ، البطمة، ورغة ، أجدير ، فاس.. ( ، وأشياء)الباب الكبير ، البندقية ، الكمان الصك الأخضر... ( .. هذه العناصر المتنافرة يتم توليفها شعريا ، لأن الشعر نوع من السرد ، قد يختلف عن لغة السيرة الذاتية ، إنه سيرة سرية روحية ، يؤرخ من خلالها الشاعر للحظات هاربة لم يستطع أن يقولها باللغة السطحية ، لذاك يتم تحويل عنصر الزمن أثناء الكتابة من الزمن الكرونولوجي المحيل على المعاناة ، إلى زمن ينفلت من الرتابة ، فيغدو مرادفا للحلم والرؤيا:" سيذهب مسعود الى أفينيون يا شرذمة الرعاة ، ويعود بسيارة مجنحة يقصم بها ظهوركم وظهر الفقيه البغيض الذي يقاسمه جسد الفاجرة")ص 55 ( .

وتراهن الكتابة السردية في العناكب ، على واجهة اللغة باعتبارها متنا يشكل التواصل بين السارد والمسرود له ، ويستغل الكاتب في ذلك أغلب عناصر الحكي ، بما فيها الحوار، )نص أشجار التين،ص66-70 ( المونولوج )نص الباب الكبير ص 12 -14 ( ، الاسترجاع )في كل النصوص تقريبا ( ، التوصيف ، الثغرة...، ولعل الرهان خلف ذلك اشتغال هذه العناصر بطريقة جديدة تخرق شرنقة الابتذال، وتخصب الشكل السرد بشعرية باذخة تؤسس "القصة – القصيدة ".

والسارد في العناكب يبتعد عن التدخل في أحداث الشخوص ، ويكتفي بالوصف والنقل :" وأصبح أبي ذات يوم يتهمها بالجنون ، وأنها ستنتهي الى المارستان الذي احتضن الفقيرة خديجة قبل موتها ")ص 20( ، وفي نصوص أخرى يظهر ساردا مشاركا في الأحداث :" ليس أقسى عليهم من أتكلم بأزمنة كثيرة ، وأوزع أعصابي على كل المواجع ثم أنصب خيمتي على تلال الملح ، وأنتظر مرور الدراويش لأستمد من أذكارهم فورة وجد تحول القلب الى طائر يتمرد على قفصه.." )ص 16 ( ، إنه انشغال بالذات المشتاقة لشعرية الصفاء في "أيلة" ، المتعنتة في وجه المسخ والتشويه اللاحق بها ، ولعله وعي الكاتب بيبوسة الواقع وجفافه، لهذا يرتدي الماء قميصا ، ورغم هذا فالظمأ قادم ، كأنه اليأس في الحاضر ، ولد تشاؤما بالمستقبل :" دليني على عطرك كي أخرج من دائرة الخراب وأتبع خطوي المعاند الى نهايته ، الى جلال الينابيع والسواقي الأولى ، تلك التي أطلقتها يد ربانية من زوادة الرواء اللذيذ ]...[ قل أشياءك أيها الوجه ، قل شيئا يعيدني الى هلام التكوين..." )ص 13 ( ، وكأن الكتابة الموساوية كشف الذات وإضاءتها ، حيث تصدق عليها مقولة "آرطو" :"إن القطيعة بيننا وبين العالم قائمة بالفعل ، ونحن نتكلم لا لكي نكون مفهومين ، بل لذواتنا الداخلية ".

يتسم الزمن في العناكب بكونه يستتبع التقسيم المعروف عادة الى قصة وخطاب ، لكنه يتجاوز هذه البنية ، لأن الكاتب يراهن على كتابة خارج الزمن ، كتابة تمتلك زمنها الخاص المفتوح ، الذي يخرق زمن الواقع ، وبهذا لا يمارس الزمن وظيفته الأساسية المتمثلة في تنامي الأحداث ، وإنما يكسرها :" اخرج أيها الحكي من جسده..اخرج بحق التمائم المعقودة في زيتونة الرثاء.. اخرج خرافات أو تعاويذ أو غناء القلب مل كتمانه وصار جدار الصمت نارا تحرق ما تبقى من شتات المأسورين في ماء الذاكرة وراء الباب الكبير ، ذاك الموصد أبدا وقدا علا قرنفله الحديدي صدأ حزين ، ودفنت طبقات التراب الشتوي أعتابه المشروخة ؛ وبدا كما لو كان مدخلا أسطوريا لكنز مرصود أو نافذة عتيقة على جنة محروسة الأسرار.." )ص 46 ( ، فالزمن ممتزج بالوصف ، ومختلط بالهواجس الداخلية ، والكاتب لا يدع اللحظة الزمنية تمر دون أن يفيها حقها ، إنه يعول على الزمن في توصيل رسالته ، لذلك لا يقف عند حدود تركيب الأحداث على مستوى الاسترجاع أو الاستباق أو التكرار ، ولكن يوظف اللحظة بهدف شحنها بالكثافة والإيحائية الشعرية :" صدمته لفظة الزمن ، وقرر في سره أن فكرة الزمن تنسجها مخيلة الناس السذج ، عندما يستسلمون لنواميسهم ، ويربطون بين تراكم الأيام وتراكم الأحداث : ميلاد..زواج..أطفال..موت. كأن القلب وحده يكفي لعد الوقت وانسيابه ، لو كانوا يحتكمون إليه لعاش كل واحد زمنه الخاص .لم يطل سهوه ، فقد لاحقته كلماتها المنطوقة بالصوت الذي سمعه قبل عشرين سنة.." )ص 66 ( .

ويتدخل الوصف في تضاريس المحكي ، ويقوم بدورين في العناكب : الأول تعطيل السرد من أجل تكثيف مشهد أو توصيفه أو رسم صورة :"بين أيلة وأجدير يتمدد خيط اللوز المر وأسراب الأشجار البدائية الرافضة لشريعة التدجين ؛ وبينهما تتناسل طرق البارود ، وعروش صخرية لاستراحة المجاهدين وسماع خطب الزعيم عبد الكريم الخطابي قبل أن يطل الوقت على فجر الزناد.." )ص 35 ( ،الثاني : منح الوصف البعد الإيحائي للسرد، وبالتالي المساهمة في شعريته :" هي ، لم تتذكر ليلة الزفاف المحفورة في كل الجسد .أودعته هواجسها واستسلمت لحمى منشوبة في جغرافيا اللحم الغض ..وتداعت لأنهار وسيول؛....ومض متعاقب ورعود أنهكت رأسها المسلح بالجدائل الملحدة ")ص 39 ( . وبهذا يتعالق الوصف مع الذاتي ، الأمر الذي يمنحه بعدا شعريا ، لذلك تأتي المقاطع السردية ذات تكثيف شعري وإيحائي يستلزم من القارئ نهج قراءة متأنية ،وبالتالي يفقد الوصف وظائفه التقليدية ليعانق أدوارا جديدة ، خاصة وأن العين الواصفة/ الساردة هي نفسها العين الشاعرة.

وتأبى اللغة، في العناكب، هي الأخرى إلا أن تحقق شعريتها السردية ، رافضة أن تظل لغة نثرية ، وذلك بتجاوزها المنحى الإخباري المباشر إلى إبداع لغة جديدة تخلق عالمها وواقعها الجديدين ، إنها لغة تعتمد التكثيف واللمح والإيحاء الرامز ، لذلك فهي لا تضحي بالسردي لفائدة الشعري ، وإنما ترتكز على الشعري من أجل تكثيف الدلالة والإشارة السردية :" لك أيها الباب كل الجنازات السرية والمعلنة/ لك نحيبي حبرا مسفوحا على مقام الفقد/ وموقعا بخبب الحصان الذي دخلك مرة / ومن على صهوته كانت تتدلى جثة فارسه المغدور../ لك قصيدي الذي لم أكتب و صمت الكلام/ وطرق لذيذ يوشيه بهاء الحناء في كف حبيب.." )ص 85 ( ، وهكذا تتجاوز اللغة ذاتها ، فيغدو المرسل هو المرسل إليه ، والراوي هو المروي ، حيث تكثيف وتركيز ذاتية الخطاب ، ويغدو المروي هو الهواجس والصبوات")تيار الوعي ( ، مما يستوجب شعرنة المسرود ، وحتى الصراع بين الشخوص ، هو في الواقع ، ليس في الحقيقة إلا شخصية واحدة ، هي الذات الساردة ، ليتخلى الحوار عن دوره الأساسي المرتبط برصد التوتر بين الذوات، ويتم رصد توتر الذات المنقسمة إلى ذاتين، فعبر شخصية الأم، على سبيل المثال، تستضاء شخصية السارد/الشاعر، وهكذا تنشطر الذات عبر ظلال تيار الوعي لتنكتب، وتكتب ذاتها في لغة رامزة مفتوحة على سراديب التأويل . فاللغة ،هنا، لا تحتفظ بمرجعيتها ومدلولاتها اللغوية ، ولا تكتفي بوظيفة سرد الأحداث،لأنها، هي نفسها تغدو موضوعا للسرد ، لغة ميتا- سردية ، تتجاوز بذلك طبيعتها، وتحقق ذاتيتها، لتعانق شعرية الإنزياح والخرق الرامزة الى ذلك الصراع الأبدي بين اللغة والإنسان ، وبذلك يقدم لنا الموساوي في العناكب سردا شعريا وشعرا سرديا بامتياز، فيمنح ، باستعمال هذه اللغة الحياة لمن لا صوت له في فضاء "أيلة" ، حيث نكون بإزاء قطبية مكانية يمثلها الهنا)أيلة ( الحاضرة بتكويتاتها الجزئية التي يطولها اليباب على كل الأصعدة ، و الهناك ) أيلة ( الغائبة ، فضاء البذخ الجمالي الممتد الى كل تضاريس الكون، فضاء الاستشراف والرغبة ، وهو فضاء يؤطره زمن يبني من خلال جملة من المؤشرات ، التي تمنح المكان سمكا زمنيا قادرا على ترهين و شعرنة الحياة فيه وتجذيرها ، فتغدو شعرنة السردي "أحد أهم تجليات هذا الانفلات من شرنقة العالم الاستهلاكي في بعده التشييئي الاستلابي، والتركيز على ما هو خاص وغير قابل للتبادل"") ( 3 ، فالدال السردي ، في العناكب، يوسم بالغموض والتعدد ، وهما خصيصتان شعريتان، فلنقرأ هذا المقطع:" اغزلي من الليل أثوابه كي تكبر في دمه أنياب الذئاب..ليس من حقك أن تشربي من قدح الأمومة ومفجوع الضلوع فوهة بركان، وحفر الدموع ما يزال ممعنا جغرافيا العيون.." ")ص 44 ( ، فتكثيف الدال في هذا المقطع السردي لا يكتسب شعريته فقط من ألفاظه ، وإنما من العلاقات الملتبسة التي يقيمها الكاتب بين العلامات اللغوية ، والتي يواجه بها خواء عالم الواقع ، ويستدعي مخيلة القارئ ليستحضر أبعادا جديدة غير مألوفة ، هذا الحضور الشعري في اللغة جعل السرد فضاء لتعدد الأصوات ، وفي مقدمتها صوت الشعر المميز ، والخارق لحدود المرسوم ، وحمل الشخوص على البحث عن آفاق رحبة للتحرر من قسوة الزمن الرديء الذي جفت فيه أنساغ كل شيء ، ومن غبار الأيام الفاقدة لرائحة عطرها المستباح ، وكان الكاتب، خلال ذلك، يؤسطر اللغة ، ويصنع بذلك أسطورته الخاصة في تفاعلها مع الجانب الوجداني والانفعالي تعبيرا عن هواجسه، وبخاصة ما يرمز الى الحياة وتجددها ، خصوصا وأن الأشياء التي كان في وسع الكاتب قولها وتحويلها الى جزء من نفسه ، تتحطم واحدا بعد الآخر، أو تنسحب الى هامش الحياة ، فتكون الأسطرة اللغوية مراهنة على استعمال رموزها لبناء عوالم مختلفة يتحدى بها الكاتب هذا التحول الآثم على فضاء "أيلة"، فإحساس الكاتب بأن عوالم "أيلة" تتحكم فيها خيوط العبث والفوضى ، ويهددها اليباب على أكثر من مستوى ، حتى على مستوى العلاقات الإنسانية ،جعله يحس بنوع من الاستلاب عن هذه العوالم ، فيستبدلها بعوالم أخرى عبر أسطرتها باختراق استلابها ، وتفكيك تعقيداتها ، والعودة الى ما هو جوهري وأصيل ، ولعل إحساس الكاتب القوي المتميز بالحياة وأشيائها من حوله هو ما يدفعه الى إيجاد تلك العلاقات والصلات الغريبة بين الكلمات والأشياء، وهو ما يبدو نوعا من الإدراك الحميمي المقارب للحلول الصوفي مع الأشياء، وهو ما اسميه " شعرية الحياة"، باعتبارها حدسا ، واستعارة يومية ، ورؤيا تجعل العالم يبدو مختلفا عن طبيعته، أو هو " ضرب من التعاطف الذهني بواسطته يضع المرء نفسه ضمن شيء ما لكي يتوافق مع ما هو فذ فريد فيه، وبالتالي يستحيل التعبير عنه") ( 4 .

على سبيل الختم :

إن الكتابة في " عناكب من دم المكان" تؤسس لكتابة القصة- القصيدة في تنازعها المتناغم بين الشعر و/أو السرد، واعتمادها على التكثيف والانزياح والأسطرة واشتغال المخيل لملامسة الأسئلة الأزلية في الوجود. وتبقى نصوص العناكب إضافة جديدة ، مفتوحة ومتجددة بقدر ما يمارس عليها من قراءات ، وكأني بها قصيدة سرعان ما تلوي عنقها، وتطوي كشحها، وتعود سيرتها الأولى ، لكنها ترمم ، بالفعل ، سقوف مجازات الكاتب.

الهوامش والإحالات :

*- عبد السلام الموساوي :"عناكب من دم المكان" ، دار ما بعد الحداثة ، فاس/المغرب، ط1،2001.

(1) - إبراهيم القهوايجي :" كتابة الفقدان وفضاء الحلم في سوق المجاز"، جريدة " بيان اليوم"،ع3180، بتاريخ 4 أكتوبر2000، ص :5.

(2) - عبد السلام الموساوي :" سقوف المجاز" ، ط1 ، 1999 ، دار النشر المغربية ، الدار البيضاء/ المغرب.

(3) - د حمد عفط :" فضاء لشعر في زمن الرواية" ، جريدة "أنوال" ، ع1180، بتاريخ26/09/1993، ص:8.

(4) - عبد الغفار مكاوي :" ثورة الشعر الحديث" ،ج1 ، م.س ، هامش 31، ص: 36.