التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة

 

(10)

ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

2     - الاحتراق : الكتابة الصوفية والاستشهاد في سبيل الكلمة

 يتناول هذا المبحث خاصية النار وما يترتب عنها من مضاعفات ونتائج ، لذلك سنقرأها من منطلق تحويل الدلالة إلى أفق القراءة السليمة، القريبة من الدلالة الحقيقية ، مستغلين كافة أنماط التعبير التي توجد الكتابة الشعرية، وتؤطرها ؛ منها السياق والنسق اللغوي العام.

ونعتقد أن هذه المسألة ، هي التي دفعت محمد بنعمارة إلى الغوص في الكتابة الشعرية التي تنهل من التجارب الصوفية. لقربها من إنشاء الصورة التعبيرية المتوخاة ، وبأقل " الخسائر" اللغوية ، ومحاولة التجرد من اللبس والغموض عبر اكتمال التجربة وإتمام المنقوص منها في سياقات متجانسة ومتنامية.

والعناصر الدلالية المكونة لمادة النار تتألف من ( + احتراق ، + حرارة ، + ضوء ، + علامة +… ) وفي النص القرآني منها خلق الشياطين ، وتحولها لبرد وسلام على إبراهيم عليه السلام و.. لذا فإن هذه الدلالة ارتبطت أكثر بالتجربة الصوفية . ومن المؤكد أن بدايات شعر محمد بنعمارة خلت من دلالات من هذا النوع، واكتفت بالصيغة التعبيرية المتعارف عليها ، ( الحرق الطبيعي ):

يقول محمد بنعمارة في قصيدة ( هارب ):

 قال بعض القوم إني

روح إلهامي وفني

قالوا : شاعر حب

أحرقوا كي يغني [1]

فالاحتراق هنا احتراق طبيعي غير متحول دلاليا، وحتى فهمه لا يحتاج إلى دراية بآليات منهجية أو تأويلات دلالية. لأن الشاعر في هذه المرحلة لم يعمق من أسلوبه الشعري.

إن الأساس اللغوي في المتن الشعري يتيح ضرورة الاحتراس من الوقوع في هوة المغالطة المعجمية، وتتأكد أيضا احتمال الصعود إلى ما فوق اللغة للتأويل والإنزال، أو استنبات دلالات لم يكن للشاعر رأي قبلي بها. وقد حقق الشاعر القفزة النوعية من خلال التجارب اللاحقة، وتميزت دلالاته بمقاربة المفهوم الصوفي:

يقول في قصيدة ( على هامش الحكاية يا زهرة الأوطان ):

أخرج من عينيك شعاعا

أو بريقا يتأجج أو حريقا

يسأل : أين طريق العشق والفرسان

في خارطة الحب الخضراء [2]

وينتقل بعد ذلك إلى الانتشاء بنار الوجد ، والاحتراق بها ، وصيرورة ذاته نحو صفة ما بعد الاحتراق، إنها الرماد الذي صار الروح المشكل لذات الشاعر والمعبر عنها:

يقول في قصيدة ( مقام ترتيل الصمت ):

الجمر أناي، وصوت الروح رمادي

ومكاني من صمت الناي ، ومن ترتيل سهادي

وهروبي من نار الرف إلى نار الحرف [3]

فالحرف يحترق، وتحترق الذات . يحترق الصمت فيخلف رماد هي ذات الشاعر، فالرماد هنا هو حرف الشاعر ، هو قوله الشعري الذي يحترق به لمناجاة الله والتقرب إليه. وقد أعطى محمد بنعمارة صفاتٍ متعددةً لدلالة الحرق عند المتصوفة ، يقول إن :" لبعض المتصوفة أمثلة على مفهوم الحرق، مستوحاة من طبيعة السلوك الصوفي ، الذي يقوم أساسا على البحث عن حقيقة الحب الإلهي ، ولا يصل الباحث المحب إلى مرابع ذلك الحب ، إلا إذا أصبح كفراشة النار التي تريد القرب إلى ان تصل درجة الحرق." [4]

وبذلك فقد أحرق الشعر نفسه للتقرب من الله، يقول في قصيدة ( شيخوخة هذا البحر ):

عددت الأصوات، وأحرقت الشعر

وبايعت القتله [5]

يبدو أن الاستعمال المجازي للفظة النار تحول عن القصد المراد منه في المعاجم وحتى في الشعر العربي قديمه وحديثه، وتمثل الرؤية الصوفية التي أفرغت محتواه الدلالي وعبرت عن ذات الشاعر، وعن فعل الكتابة الشعرية المحترقة.

وبحضور هذا المعجم الصوفي بقوة في دواوينه الأخيرة ( مملكة الروح ، السنبلة ، في الرياح .. وفي السحابة ) تكثفت اللغة الشعرية المعبرة، وأنتجت الدلالة الجديدة التي تتجلى في الكتابة المحرقة. والخطاب الشعري في هذا الصدد متعلق بالكيفية التي يصدر بها الشاعر قوله.

 لذلك تمكن الشاعر من خلق جو الائتلاف بين رؤيته النظرية والتطبيقية، يقول في قصيدة ( نور الملاح ):

شاعر ، وفراشة

ودم

ونار محرقه

وقصيدة

نامت طويلا في دمي [6]

فإذا تأملنا هذا المقطع، وجدنا الدلالة واضحة في بدايته ، من ذلك قوله : نار محرقة، لكنه يحولها إلى بعدها الصوفي السالف الذكر. وينهج فيها أسلوب المجاز اللغوي القريب من الخيال، البعيد عن التصور العادي. ذلك أنه من الصعب فهم هذا المقطع دون الرجوع إلى الدلالة الصوفية، ومن الصعب تأويلها أيضا دون البوح بسر التشاكل القائم بين تجربة الشاعر الشخصية، ورؤاه بعيدة الصورة والتعبير.

يقول محمد بنيس في إطار حديثه عن الانزياح اللغوي:" يبقى البحث عن الغرابة في الأخير خروجا عن القوانين البلاغية التقليدية ، من خلال منظور لا ينبعث من التراث العربي والمغربي، ولذلك فإن هذا النوع من الخروج يشكل حاجزا أمام التحولات العميقة التي لا بد للنص الشعري بالمغرب أو العالم العربي، من الدخول فيها حتى ينخرط من جديد في وظيفته الطبيعية التي نذر الشعراء المعاصرون بالمغرب أنفسهم بصدق وإخلاص لتحقيقها." [7]

رغم عدم موافقتنا الكلية على هذا القول، فإن جنوح الشاعر إلى التصوير البلاغي وإلى التحولات الدلالية، لا يكون دائما قصد تشكيل جو الغرابة على نصوصه، بقدر ما يكون طموحا موفقا بين النظرة التأملية للوجود ، المليء بالمتناقضات، وبين رؤيته الأحادية تجاه الآخر المتحول والمتشتت. [8] هذه النظرة تقوده في غالب الأحيان إلى توظيف ثقافته والنهل من مصادر الأدب والفن عامة.

بهذا تصير القصيدة الشعرية لهيب نار متأجج، ومزجا بين روح الشاعر ورماده. يقول محمد بنعمارة في نص ( في الرياح .. وفي السحابة ) وهو يصف القصيدة وتجلياتها:

كالعباره

حرفها نور من الروح

ومزج

بين ناي ، وربابه

وصلاة

ركعتاها

جمرتا عشق وموت

بين رؤيا وكتابه [9]

نظن أننا مثلنا ببعض النماذج التي ساقها الشاعر محمد بنعمارة في شعره حول النار والحرق، والدليل الذي نرى فيه أهمية إعطاء الرؤية المتكاملة حول التحولات الدلالية في شعره، هو ( إضافة إلى المتن الشعري) التنظير الذي حملته مؤلفات الشاعر حول التصوف وعلاقته بالشعر العربي والمغربي. بذلك لا يبقى إقرار بالغرابة الشعرية، ولا مجال للحديث عن المسوغات التي تحملها مجازات الشاعر ، ما دمنا كشفنا عن التجربة الصوفية التي اختارها الشاعر لتكون منهجا له في تثمين التجربة الشعرية.

              

[1] - محمد بنعمارة: الشمس والبحر والأحزان ، ص- 13.

[2] - محمد بنعمارة : عناقيد وادي الصمت، ص- 19.

[3] - محمد بنعمارة: السنبلة ، ص- 55.

[4] -محمد بنعمارة: الصوفية في الشعر العربي المعاصر، ص- 95. ( لقد ارتأينا التعامل مع آراء الشاعر ليس لإيماننا الكلي برؤيته في هذا المجال، ولكن لكونه أطال الحديث في تجليات الممارسة الصوفية في الشعر، واستوحى كافة الأمثلة التي ترد في الشعر، رؤية ورؤيا، ومن ثمة يعد التوسل به دعما للتحليل وسندا للتأويل.

[5] - محمد بنعمارة: السنبلة، ص- 17.

[6] - محمد بنعمارة في الرياح  .. وفي السحابة ) ، ص- 65..

[7] محمد بنيس : ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، ص- 238.

[8] - لقد سبق الحديث في مواضع متعددة عن أهداف اللجوء إلى التحولات الدلالية، ونضيف هذه النظرة الشخصية التي نراها تكتسي طابع العلامة المميزة للشعر المغربي المعاصر.

[9] - محمد بنعمارة: في الرياح .. وفي السحابة ، ص- 59.