هاجمه الشعراوي ثم رجع..
(رمضان ولي) لأمير الشعراء أحمد شوقي آية في العشق الإلهي !
صلاح حسن رشيد
تعرض أمير الشعراء أحمد بك شوقي "1868- 1932م" لعاصفة من الهجوم والنقد غير المبرر بعد نشره قصيدة (رمضان ولي) . وكان في الطليعة علماء الأزهر الشريف والدين ، ومن بينهم الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله - وكان وقتذاك طالباً في المعهد الأزهري بالزقازيق- وساقه القدر ذات يوم فحضر إلى بيت شوقي مع بعض الأدباء والساسة في عشرينيات القرن الماضي، وتطرق الشعراوي إلى هذه القصيدة ، فرد شوقي بذكاء كله تقوى وإيمان : ألا تحفظ أواخر سورة "الشعراء" . فقال الشعراوي بلى . فما كان من شوقي إلا أن قال : إذن فنحن الشعراء نقول ما لا نفعل!
ومغزى القصة واضح ، وهو غير مهم لنا في هذا السياق؛ لأن هذه القصيدة آية في الحب الصوفي ، وطلب المعرفة اللدنية والعشق الإلهي ، على طريقة شعراء التصوف الكبار: ابن الفارص وابن عربي والحلاج والسهروردي والجيلي ورابعة وصالح الجعفري . يقول سلطان العاشقين ابن الفارض عن هذه الخمر العجيبة :
شربنا على ذكر الحبيب مُدامة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
والشئ المحزن أن نقاد الأدب وقعوا في القراءة الخاطئة للنص ، ولم يقرؤه قراءة تذوقية صوفية ، تعج بالسكينة والإيمان والاستقامة كما أراده صاحبه ، وتقولوا على شوقي حسب القراءة الأولية الظاهرية الخادعة للعين والأذن والقلب والعقل ، ولما تنطق به القصيدة من ألفاظ وأرواح ، من كلمات ومواجد ، من بوح وحرقة وألم ، من نور ونار !
يقول شوقي رحمه الله :
رمضان ولي ، هاتها يا ساقي مـا كـان أكثره على ألافها الله غـفـار الذنوب جميعها بالأمس قد كنا سجيني طاعة | مـشـتاقة تسعى إلى وأقـلـه فـي طاعة الخلاق إن كان ثم من الذنوب بواقي والـيـوم منّ العيد بالإطلاق | مشتاق
والمعنى الواضح وضوح الشمس أن شوقي يطلب إحضار هذه الخمر الإلهية ، بعد أن انقضى شهر الصيام ، هذه الخمر المشتاقة لصاحبها ، وهي التي ألزمته جادة الطريق وسبيل الاستقامة ، فلقد كان (رمضان) طويلاً على محبي وعشاق هذه الخمر ، لما وجدوه من العرفان الروحي ،وكان على النقيض مع أهل المعاصي يمر سريعاً ، وهكذا أوقات الطاعة والعبادة تنتهي وهم مشتاقون إليها ! لكن الله يغفر الذنوب جميعاً ، إن بقى منها شئ بعد رمضان ، واستمرت النفس في طريق العصيان ! ويعجب شوقي ويتحسر : ماذا حدث للأمة فما بين عشية وضحاها انقلب حالها ؟ بالأمس كنا سجناء طاعة الخالق فلا نعصاه ، واليوم ، عندما ذهب رمضان ، انطلقنا سادرين في تيه الحياة، نعب منها الغث والمرذول !
ويتوجه أمير الشعراء في وصف بليغ إلى هذه الخمر :
ضحكت إليّ من السرور ، ولم تزل هـات اسـقينها غير ذات عواقب صـرفـاً مـسـلطة الشعاع كأنما حـمـراء أو صـفراء إن كريمها وحـذار مـن دمـها الزكي تريقه | بـنـت الـكـروم كريمة الأعراق حـتـى نـراع لـصيحة الصّفاق مـن وجـنـتـيك تدار والأحداق كـالـغـيـد ، كـل مليحة بمذاق يـكـفـيك – يا قاسي- دم العشاق |
وتسر الخمر من حال الشاعر معها ، وهي سليلة الأصل الوارف ، والعرق الشريف ، فلماذا لا يطلب الشاعر سقياها ، وهي المحمودة العواقب ونتائج ، ولا خوف من تعاطيها حتى نفاجأ بصياح الديكة؛ إيذاناً بالإمساك ! وهي صافية تنبعث منها أشعة تجذب عشاقها إليها . وهي متعددة الألوان ، ما بين الأحمر والأصفر، ولأنها كالحسناء في تألقها . ويحذر الشاعر نديمه من إراقة هذه الخمر ؛ فهي زاكية الأصل ، لأنها إلهية ، فلا تكسرها ؛ ظناً أنها من المحرمات لكن حسبك ما تريقه من دماء البشر !
وينتقل أحمد شوقي إلى مضمون قصيدته وهو حال الأمة السيئ على عهده ، هذا الحال الذي امتلأ بالشرور:
لا تـسـقـني إلا دهاقاً ، فـلـعل سلطان المدامة مخرجي لا عـيـد لـي حتى أراك بأمة ذهـب الكرام الجامعون لأمرهم أيـظـل بـعضهم لبعض خاذلاً وإذا أراد الله إشـقـاء الـقرى | إننيأسـقـى بكأس في الهموم مـن عـالـم لم يحو غير نفاق شـمـاء راويـة مـن الأخلاق وبـقـيت في خلف بغير خلاق ويقال : شعب في الحضارة راقي جـعـل الـهداه بها دعاة شقاق! | دهاق
فهو لن يشرب إلا كئوساً مترعة ، تنسيه همومه في دنياه ، فقد تخرجه سيطرة الخمر الإلهية من دنياه التي لم ير فيها سوى التملق والخداع . ويخاطب رفيقه في مجلس الخمر الصوفية قائلاً له : العيد هو أن تحيا وراية الأخلاق مرفرفة في أنحاء البلاد . لكن شوقي يفيق من سكرته الروحانية إلى واقعه المؤلم التعيس ؛ فأهل الفضل والخلق النبيل رحلوا ، وبقى هو في أناس بلا أخلاق ! ويتساءل مستنكراً : أترى أن هذه الحال من الخذلان فيما بينهم ستدوم ؟ وبرغم ذلك ينعقون : نحن أمة متقدمة ! وينتهي شوقي إلى خلاصة الموضوع ، في قول كله حكمة ، وهو: أن الله إذا شاء إذلال البلاد سلط عليها ناساً من أهل الرأي يقودونها إلى الفوضى والفتنة والضعف ! ومن خلال هذه المعايشة الصوفية الروحية لقصيدة شوقي اقتربنا كثيراً من مراميه، ولم نخبط خبط عشواء كالآخرين ، وعرفنا أن للشاعر أحوالاً وألفاظاً وخيالاً وعوالم ومعاني تختلف عن لغة النثر . وهكذا كان شوقي في هذه القصيدة الرائعة داعية صوفياً يتغزل في الخمر الإلهية ، ويقترب من نور الحقيقة ، وشعاع الطريقة ، في أدب إسلامي يناجي النفس ، ويناغي الروح ، ويلهج بالحال والمقام ، وينتقل بالأمة من التخلي إلى التحلى إلى التجلي !