(حكايتي شرح يطول)رواية حنان الشيخ:فن إبداع الحقائق

(حكايتي شرح يطول)رواية حنان الشيخ:فن إبداع الحقائق

يمنى العيد

تكتب حنان الشيخ على غلاف كتابها الأخير )حكايتي شرح يطول( (2005) رواية، لكن داخل الكتاب نقع على ما يشير إلى أن هذه الرواية هي سيرة. فالأم، كاملة، تروي حكايتها لابنتها الكاتبة، حنان، والمشهد الذي تدعي فيه الأم أمام ابنتها الطفلة ، في رواية حنان الشيخ حكاية زهرة ، بأن الرجل الذي تتردد عليه هو طبيب، يستعاد في )حكايتي شرح يطول( ليكشف عن حقيقته، أي عن كونه العشيق، وهو بصفته هذه عنصر من عناصر السيرة الذاتية، سيرة الأم كاملة. ذلك أن كشف الحقيقة هو الميثاق الضمني الذي يتعهد به راوي السيرة، أو كاتبها، للقارئ أو للسامع، بقول الحقيقة.

تقول كاملة التي تروي حكايتها في رواية )حكايتي شرح يطول(تسألني (أي حنان) (بتوجس وخوف إذا كان <<الدكتور>> موجوداً. ولا أفهم ما ترمي إليه، وعندما رددت سؤالها مرة أخرى، أفطن أني كنت قد أوهمتها أن غرفة محمد هي غرفة <<الدكتور>> عندما اختبأنا خلف باب غرفته. تمطرني حنان بالأسئلة في ذلك الوقت: لماذا لم يفحصها الدكتور؟ ولماذا لم <<يشكها>> بالحقنة؟ لماذا لم يدعها تلعب مع البنت الصغيرة؟ أطمئن حنان الآن بأنه لا يوجد <<دكتور>> وأقبلها>> (ص 230).تعترف إذن الأم، كاملة، لابنتها حنان بالحقيقة، أي بأن الرجل الذي كانت تذهب إليه لم يكن، كما كانت تدعي، الدكتور، بل كان محمد الذي أحبت.

ثمة مؤشرات أخرى تؤكد أن رواية <<حكايتي شرح يطول>> هي سيرة. مؤشرات من داخل الرواية وليس مما قد نعرفه من الكاتبة، مثلا، أو من آخرين يعرفون حكاية كاملة الطويلة. من هذه المؤشرات: أسماء أفراد العائلة وسيرهم، وأماكن سكنهم وتواريخ ميلادهم... إضافة إلى البوح باسم العشيق محمد.

رواية أم سيرةلماذا إذن تضع حنان الشيخ كلمة رواية على غلاف كتابها ولا تضع سيرة؟ربما هو القناع، الروائي، الذي يتوسله أكثر من كاتب عربي في رواية السيرة.

شأن سهيل إدريس ، مثلا، في الحي اللاتيني، وحنا مينة في ثلاثيته: بقايا صور و المستنقع والقطاف.

فالقناع الروائي وسيلة فنية يواجه بها كاتب السيرة المعيار الأخلاقي الذي ما زال وعينا الجمعي، بما في ذلك وعينا الثقافي، يحاكم به الأدب، كما يواجه المعيار القمعي الذي يحاكم به أصحاب السلطة، في بلادنا، التجرؤ السياسي والجنسي في الأدب. لذا قلما نقرأ أدبا مكتوبا تحت عنوان السيرة الذاتية، أو تحت عنوان الاعترافات شأن اعترافات روسو مثلا أضف إلى هذه الأسباب، المسؤولية التي قد يشعر بها الكاتب اتجاه أفراد عائلته، فقد يطالهم بما يكتبه من سيرة أو بما يبوح به ويعترف، معرضا سمعتهم الى ما تأباه الأخلاق ويأبونه.

تستوقفنا رواية حنان الشيخ، أو السيرة التي ترويها أمها عن ذاتها، وتكتبها هي، من هذا المنطلق، منطلق تعاملها مع المعيار الأخلاقي السائد في الوعي الجمعي والذي يحاكم المرأة عندما تعيش علاقة حب مع رجل هو، كما في الرواية،غير زوجها.

فالرواية السيرة هذه تنبني بمنظور لا يوحي بأنه يواجه هذا المعيار الأخلاقي.

ذلك أن السرد ينمو، بشكل أساسي، لتقديم صورة حقيقية لواقع الأم، كاملة، ولحقيقة طبيعتها. كأن هذا الواقع المعيش وهذه الطبيعة في تعاملها مع هذا الواقع هما غاية السرد ومعناه العميق وليس ما يمكن أن يترتب على ذلك من أحكام.

تعيش كاملة وأخوها كامل طفولتهما مع أم مطلقة من أب لا يكترث بتقديم الحد الأدنى مما يتوجب عليه، شرعا وقانونا وإنسانية، اتجاه عائلته. هكذا تفتح الطفلة عينيها على براري النبطية ساعية وأمها في البحث عما تجود به الأرض من أعشاب ونباتات يسد جوع أم وطفليها.

وعندما يستعيد الأب الطفلين، كاملة وأخاها كامل، بغفلة عن أمهما، يعيش الولدان مرارة الفقدان، فيهربان من والدهما وزوجته الجديدة، ويعودان إلى الحضن والجوع.

لكن كامل لكي يطعم أمه يحمل في حضن ثوبه المجدرة غير مبال بسخونتها التي تحرق ما بين فخذيه.

تنتقل أم كاملة وولداها لتعيش في بيت شقيقتها دون أن تنتقل إلى وضع أفضل.

هكذا وبدل أن تذهب كاملة إلى المدرسة تروح تجول في الطرقات.. طفلة بائعة لقبات تخيطها الأم وشقيقتها طلبا للرزق. لكن الشقيقة تموت تاركة أولادا صغارا وزوجا لا حول له ولا قوة.. هكذا يتفق الجميع على تزويج كاملة بمن كان زوج خالتها كي ترعى، هي الطفلة، أطفالا كبيرهم يقاربها في العمر، لذا توضع كاملة قيد الانتظار.. وتبقى الصغيرة التي لم تصل بعد سن البلوغ، لاهية وغير مدركة معنى لحقيقة ما يجري حولها حتى عند مجيء اليوم الموعود.

تفصيل من السيرة يضع سؤال الأخلاق خلفه، كذلك المشهد الذي تصوّره الرواية لهذا الزواج، زواج كاملة من زوج شقيقة أخت أمها المتوفاة. فلقد ذكرني هذا المشهد بما روته لي فتاة من شبه الجزيرة العربية عن نفسها وكانت بعمر كاملة. فقلت وأنا أقرأ الرواية ما يحدث هناك يحدث أيضا هنا في بيروت، المدينة المتحضرة والمنتقلة إلى حداثتها...

ثلاث ليال اقتيدت فيها كاملة، في بيروت، كما اقتيدت فتاة شبه الجزيرة العربية، إلى غرفة الزوج المرفوض. في الليلة الثالثة دفع الأخ، هنا، أخته كاملة إلى غرفة الزوج المرفوض وأوصد الباب. وربط الأب، هناك، ابنته من قدميها ويديها بأعمدة السرير وأوصد الباب.

زواج هو اغتصاب. لكن كاتبة الرواية السيرة، وكذلك الفتاة التي أخبرتني سيرتها، لا تقولان إنه اغتصاب، بل تكتفيان برواية الحكاية وبسرد ما جرى في الواقع.

أمانة المكتوب للواقع تبتعد حنان الشيخ بلغتها وأسلوبها عما يقوم ويحاكم. تترك أمها كاملة تروي، وهي إذ تكتب، تصوغ، ولكن بما يشعر القارئ بأمانة المكتوب للواقع كما يروى على لسان من يحكي:

هادئ أسلوب حنان الشيخ في هذه الرواية السيرة، متمهل شأن الكلام يتذكره من يحكي، أو من يحكي ويتمهل متنهدا. ينساب السرد بسيطا على إيقاع نبرة أهل الجنوب، النبطية تحديدا، مطعما بالكثير من ملفوظاتهم الشعبية وأمثالهم العامية.

هكذا يمارس الأسلوب، كما اللغة، وظيفة أساسية هي الإيحاء الدلالي بواقعية المروي وحقيقته.

يجري الكلام على لسان كاملة بعيدا عن المشاعر الرومانسية، دون ندب أو تشكٍّ، برغم ما في حكايتها من مأساة، وهو مما ينسجم وطبيعة كاملة ويشير، في الآن نفسه، إلى مقدرة الكاتبة في بناء وصياغة الشخصية المعبرة في المتخيل السردي عن شخص كاملة في الواقع المرجعي: فكاملة امرأة مرحة، تتسم بالعفوية والبراءة، أمية وتحب الحياة على طريقتها.

تجد كاملة في السينما التي تذهب إليها خلسة مرآة لذاتها التي تحلم بها، فتقلد البطلة في فيلم الوردة البيضاء، وفي فيلم ليلى بنت الصحراء، كأنها بهذا تحقق حلمها. وحين تحب محمد، الجار الأعزب، تجد قي هذا الحب، كما تقول، السلاح الوحيد الذي تحارب به الجميع.تتذكر كاملة، وهي تروي لابنتها حنان سيرتها، تتذكر زمنا مضى، وتموضع الكاتبة، حنان، المروي في زمانه ومكانه وفي حدود ما يمكن لكاملة أن تعرفه أو لها صلة به.

هكذا نقرأ عن أحداث سنة 1958 في بيروت، وبروز عبد الناصر، واغتيال القاضي رئيس محكمة الشورى التي حكمت على انطون سعادة بالموت سنة 1948.(وكان ابن شقيقي والكلام لكاملة قد انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي(ص 237). وهكذا نقرأ أيضا عن بيروت الترامواي والحنطور، وكاباريهات ساحة البرج و(صالة ناديا العريس).. (ص111).لقد استطاعت حنان الشيخ، بمهارة سردية ملحوظة في هذه الرواية، أن تصوغ الحكاية السيرة التي روتها لها أمها كاملة، لتبدع لها عالما قادرا، على ما يبوح به من حقائق لا ترضى بها الأخلاق، أن يضع الحكاية، حكاية أمها، لا في مواجهة هذه الأخلاق، أو في تناقض مع القيم السائدة، بل خارجها.

المحاكمة لا يتذرع السرد في هذه الرواية السيرة بالعواطف، بل ينسج عالم الحكاية على إيقاع متوازن مع ما عاشته كاملة من أحداث وما خضعت له من جوع وعوز وحرمان وقهر وضغوط في طفولتها ومراهقتها وصباها دون أن يكون لها قدرة الفعل وإمكانية التصرف بما يقع عليها وتعانيه.

وحده الحب المسروق، المتمرد بخوف، اللائذ بكذب أشبه بكذب الأطفال الجائعين الذين يسرقون الحلوى ويلتهمونها، كان سلاحا ل كاملة.

تمتعنا الحكاية برغم قسوتها، ونحب براءة كاملة. هذه البراءة التي تحول الإثم إلى واقع، والخطيئة إلى صدق، والسرقة إلى لعب، والكذب إلى ما ليس له علاقة بدواخل الذات وحقيقتها.

تجهر كاملة لابنتها حنان بالسر، تبوح بالمكنون.. وتكتب حنان، بأمانة، عن حب أمها كاملة لمحمد. عشر سنوات بقيت تعاشره، تهرب خفية من بيت زوجها إلى (هودج الجمل(في بيت عشيقها.. ثم يبادر محمد طالبا من زوج كاملة أن يطلقها.

العشيق، لا الزوجة، هو الذي يطلب من الزوج تحرير معشوقته ليتزوجها هو ويضع حدا للمعاني التي التبست وآن لها أن تستقيم. عشر سنوات بدت كافية لمعرفة موضع الحقيقي الذي لم يعد من الجائز أن يبقى سرا منتميا إلى الكذب. إنه العشق، ولعلها المولودة الجديدة التي بدت ثمرة علاقة ملتبسة.

تتزوج كاملة محمد. فتعاني المرأة المرحة، كاملة، فراق أولادها، لكنها تبقى تحب السينما واللهو والغناء.. ومحمد. وعندما يموت محمد، بحادث سيارة، ويكبر الأولاد.. لا يعود للسر، عند كاملة، من معنى. وكما بدا لها الحب أقوى من الفضيحة، يبدو لها الموت أقوى من الأسرار.. فتحكي وهي تعرف، كما تخبرنا الرواية، أن حنان ستكتب الحكاية الطويلة وسيقرأها كثيرون.

نقرأ الحكاية السيرة، نقرأ ونردد السؤال، ربما المضمر في الحكاية الرواية:كيف يمكن للبطون الملأى أن تحاكم الجوع. وكيف يمكن لمن يعيش في نعيم الطمأنينة أن يحاكم من يهرب من العنف. وكيف يمكن لوعي مثقف أن يحاسب أميا غير معني بالثقافة وأهلها. وهل يمكن أن نقوم الأدب بغير معياره الذي هو إبداع الحقائق؟