الارتقاء إلى المعتصم،الارتقاء إلى بورخيس

إنهم يكتبوننا

الارتقاء إلى المعتصم،الارتقاء إلى بورخيس

حسن الأمراني

[email protected]

لعل الحديث عن أثر الثقافة العربية الإسلامية في الثقافة الغربية صار يبدو من الحديث المكرور، لكن هنالك صوراً من ذلك الأثر على الرغم من العلم بها ما تزال بحاجة إلى مزيد من الكشف والفحص وإماطة اللثام عما وراءها.ولعله قد آن الأوان لتجاوز ذلك الموقف الذي لا يسعى إلا إلى تحديد الموقف، سلبا أو إيجابا، من تلك الظاهرة،ولاسيما حين يعلن كاتب في حجم بورخيس أن الفن والمتعة والجمال غايته من الأدب. وإن أثر الثقافة العربية والإسلامية في أدب الغرب بخاصة يظل حديثا له طرافته لأن مظاهره متجددة، ثم لأن الأدب فعل جمالي وحضاري قبل كل شيء.

مند حوالي ثلاثة قرون على الأقل لا نكاد نجد أثرا أدبيا غربيا ذا شأن إلا وميسم من مياسم الثقافة العربية والإسلامية باد عليه. أنذكر كارلايل أم بايرون؟هيكو أم يورسنار؟كوته أم هيدجر؟بوشكين أم تلستوي؟لوركا أم دي كاسونا؟

وربما كان أثر الثقافة العربية على أوربا واضحا ومفهوما،فالعلاقات الحضارية عبر التاريخ،والجوار الذي لم يكن يخلو من احتكاك حربي، ثم حركة المد الاستعماري،وحركة الاستشراق من قبل، كل دلك كان مما ساعد على تسلل تلك الثقافة أو استدعائها عن وعي تام.ولكن ماذا عندما يتعلق الأمر بالأمريكتين؟هدا مع العلم أننا مدعوون إلى التمييز بين أمريكا الشمالية والجنوبية، ولذلك لم يكن شعراء المهجر الجنوبيون مخطئين عندما أطلقوا على تجمعهم الأدبي اسم العصبة الأندلسية.فالثقافة الأمريكية الجنوبية امتداد بشكل أو بآخر للأندلس، وليست الأندلس شيئا آخر غير الثقافة العربية الإسلامية.

عندما نقرأ قصص الأديب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس نجد أنفسنا مدعوين إلى استحضار الثقافة العربية الإسلامية، وبدون ذلك تظل كثير من النصوص يغلفها الغموض والضباب.صحيح أن الإغراب والدهشة والإمتاع مطلب جوهري في أدب بورخيس،ولكن ألم يكن اللجوء إلى الآثار الشرقية باستمرار وسيلة من وسائل الإغراب والدهشة عند أدباء الغرب؟ وكبار أدباء أمريكا اللاتينية مولعون بأدب الغرابة وخرق المألوف. هل نحن بحاجة مثلا إلى أن نذكّر بمائة عام من العزلة لماركيز؟ ومع دلك يحس القارئ أن الإغراب – إن صح التعبير - لم يكن دائما الهم الوحيد من وراء استثمار الثقافة الشرقية عند بورخيس. إنك لا تعرف كيف تميز أحيانا بين الحقيقة والخيال، وبين الأسطورة والتاريخ، في أعمال هدا الأديب الكبير. إنه كثرا ما يجعلك تتوهم أنه يروي حقائق من التاريخ أو من الواقع، فهو مثلا في قصته: ( الاقتراب من المعتصم)،يتخيل كاتبا لا وجود له،هو مير بهادور علي، يؤلف رواية لا وجود لها، هي الاقتراب من المعتصم، وناقدا لا وجود له،هو فيليب جيدالا، وهذا يذكرنا بعض صنيع كارلايل الذي كان بورخيس معجبا به وبأدبه وفلسفته جدا، بل إن بورخيس لا يفتأ يستدعي كارلايل باسمه في قصصه.ولعلنا نذكر كتاب كارلايل الوهمي: ( الخياط يرفو)، ،حيث زعم كارلايل أنه عثر على مخطوط ألماني في فلسفة الملابس،فهو ينشره في الناس.Sartor Resartos

وبطبيعة الحال فإن أحداث القصة ،قصة: ( الاقتراب من المعتصم)"1"، ليست من وحي خيال المحامي الأديب مير بهادور علي الذي هو شحصية لا وجود لها،، بل هي من صنيع بورخيس نفسه.وكذلك هو الشأن في قصص أخرى مثل قصة: (دراسة لأعمال هربرت كوين)،وقصة: ( تقرير برودي)،حيث يتخيل أنه عثر على مخطوط (مثل كارلايل)،في نسخة من المجلد الأول من "ألف ليلة وليلة"(لندن،1938)،ترجمة لين الإنجليزية،وأن عمله هنا لا يعدو أن يكون ترجمة لهذا المخطوط إلى اللغة الإسبانية.

في قصص بورخيس نجد الجو الشرقي الذي كثيرا ما يذكر بألف ليلة وليلة، لكنك تجد شخصيات تاريخية كثيرة كابن خلدون والعطار والمعتصم، كما تجد أماكن شرقية معروفة مثل سمرقند ومصر وطنجة.كما أنك تجد كذلك إشارات إلى أجواء أندلسية، إما في فترة ازدهار الوجود الإسلامي بها وإما على عهد محاكم التفتيش الرهيبة.

فماذا عن قصة الاقتراب من المعتصم؟

يقولون إن العنوان عتبة النص.وعناوين قصص بورخيس قد تستجيب بقدر لهذه المقولة. فاسم المعتصم يجعلك تستدعي ثامن الخلفاء العباسيين،وعمورية، والاستغاثة المشهورة:وامعتصماه.ولن يخيب ظنك على كل حال الخيبة كلها، فلهذه الشخصية حضور ما،رغم أن أحداث القصة تجري في الهند المعاصرة، وتعكس وجها من أوجه الصراع الهندوسي المسيحي.ما علينا، فهذا أمر قد نعود إليه.

يدخل بورخيس قارئه توا إلى مراده بهذا المدخل: ( كتب فيليب جيدالا أن رواية"الاقتراب من المعتصم"، للمحامي مير بهادور علي"مزيج غبر مريح بعض الشيء من تلك القصائد الإسلامية الرمزية التي قلما يزهد فيها مترجمها،ومن تلك الروايات البوليسية الخ...) ...(قبل ذلك كان مستر سيسيل روبرتز اكتشف في كتاب بهادور "تأثيرا مزدوجا ولا يصدق لكل من ويلكي كولنز وفريد الدين العطار،الفارسي العظيم المنتمي إلى القرن الثاني عشر".

وليضفي بورخيس مزيدا من الواقعية على عمله، زعم أن الطبعة الأولى من"الاقتراب من المعتصم" ظهرت في بومباي عام 1932.وأن الجمهور استنفد في أشهر قليلة أربع طبعات قوام كلٍّ ألف نسخة.وأجمعت على مديحها مجلة بومباي الفصلية وبومباي جازيت ومجلة كالكتا ومجلة هندوستان في الله آباد وصحيفة كالكتا الإنجليزية.

ويواجهنا بورخيس بالحديث عن القصائد الإسلامية الرمزية ،أي عن نمط من الأدب الإسلامي الذي ما يزال يماري بعض أبناء جلدتنا فيه مصطلحا ودلالة.ويحضر فريد الدين العطار مثالا على ذلك، وهو، بالمناسبة، أكثر شعراء الفرس حضورا في الأدب الغربي، بعد حافظ الشيرازي، لا يتقدم عليه حتى الخيام الذي اشتهر في الغرب برباعياته.

والعطار يمثل التجربة الصوفية التي يومئ إليها بورخيس في أكثر من قصة، وهو هنا يذكر ديوان منطق الطير، أشعر دواوين العطار، عاقدا تلك المقارنة المستعصية بين الشعر والرواية، ولا ينبغي أن نغفل أن بورخيس بدأ حياته الأدبية شاعرا، ونشر حوالي أربعة عشر ديوانا في حياته، آخرها كان عام 1975،مما يدل على أنه لم يطلّق الشعر كما فعل غيره من الروائيين الذين بدؤوا حياتهم الأدبية بقرض الشعر.يقول في الاقتراب من المعتصم:"كما أن اتصالات رواية بهادور علي بكتاب: ( منطق الطير) لفريد الدين العطار تلقى لا أقلّ من ذلك ترحيبا غامضا من لندن، وحتى من الله آباد وكالكتا." كما سيشير إلى العطار نفسه وديوانه منطق الطير في قصة: ( الألف).

يعرف بورخيس (المعتصم)،في قصته فيقول:"المعتصم ثامن الخلفاء العباسيين،الذي انتصر في ثماني معارك، وأنجب ثمانية ذكور، وثماني إناث، وترك ثمانية آلاف عبد، وحكم ثمانية أعوام وثماني ليال وثمانية أيام".ص 36

ولعل هذا يبدو وكأنه نوع من الخرافات والأساطير، أو محض خيال، يلجأ إليه الروائي المعروف بخياله البعيد، ولكن كتب التاريخ تؤكد ما جاء في الرواية، مما يدل على أمرين اثنين:الأمر الأول أن بورخيس لا يبني أعماله على فراغ، بل هو يستند إلى التاريخ من أجل عمله الفني، والعلاقة بين الفن والتاريخ كما هو معلوم علاقة وطيدة، وكثير من الأعمال الفنية كان التاريخ مرتكزا لها، بالرغم من أن أعمال بورخيس لا تدخل في إطار ما يعرف بالرواية التاريخية مثلا.والأمر الثاني هو هذا الاطلاع البيّن على الثقافة العربية الإسلامية تاريخا وأدبا. فإن نحن رجعنا إلى تاريخ الطبري، وما ذكره عن المعتصم، نجد ما يلي: ( ولد سنة 180،في الشهر الثامن، وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد العباس، وعمره كان ثمانيا وأربعين سنة، ومات عن ثمانية بنين وثماني بنات،وملك ثماني سنين وثمانية أشهر.)،ولذلك لقّب المعتصم في كتب التاريخ بالمثمّن، فلم يكن بورخيس إذن مبتدعا، وإن بدا مبدعا في طريقة استثماره لهذا الخبر التاريخي.

وفي قصة (مكتبة بابل) تبرز الثقافة العربية من خلال هذا النص:" منذ خمسمائة سنة، عثر رئيس قاعة عليا على كتاب شديد الغموض كغيره ولكنه يحتوي على صفحتين تقريبا من السطور المتجانسة، وعرض اكتشافه على محلل شفرة متجول قال إنهما صيغتا بالبرتغالية، وقال آخرون إنهما كتبتا بالييدية،وقبل مرور قرن أمكن تحيد اللغة:الجوارانية بلهجة سامويدو- ليتوانية بتصريفات من العربية الفصحى".والإشارة إلى الخمسمائة سنة كأنها تؤول على سقوط الأندلس وانتهاء الوجود العربي بها، دون انتهاء آثار الثقافة العربية.

وأما قصة: ( الخالد)، فهي قصة تكاد أحداثها وإشاراتها تكون شرقية عربية خالصة.فهناك (حدائق طيبة)، والموريتانيون الذين يهزمون في الحرب،والأسرى الموريتانيون، والبحر الأحمر، والحروب المصرية،والإسكندرية، ومصر،النهر الذي تغذيه الأمطار،ونهر الكانج، والرجال العراة ذوو البشرة الرمادية واللحى المهملة،الذين ينتمون إلى سلالة سكان الكهوف القديمة التي ملأت سواحل الخليج العربي والكهوف الإثيوبية،وأبو الهول المستلقي على الرمال، ثم افتراق الراوي عن هوميروس على أبواب طنجة.

وللزمان مكانة لا تقل أهمية عن المكان، بل هما متعالقان: ( ففي القرن السابع الهجري،في حي بولاق، دوّنت بخط متأنّ، بلغة نسيتها، وبأبجدية أجهلها، رحلات السندباد السبع، وقصة مدينة النحاس"2".في فناء سجن بسمرقند لعبت الشطرنج طويلا.)

ويعود الحديث إلى ألف ليلة وليلة يف قصة: ( تقرير برودي)، مع اقتران ذلك بالحديث عن الإسلام في مثل قوله:"ويمكن القول بأن قارئ المجلد لم يهتم بحكايات شهرزاد العجيبة بقدر اهتمامه بعادات الإسلام.)

أما قصة : ( الألف)، التي جعلت عنوانا لهذه المجموعة القصصية، فهي أيضا على صلة وثيقة بما نحن فيه، من أثر الثقافة الشرقية على بورخيس. وأول ما يلفت الانتباه هو العنوان الذي يرجع بنا إلى الحرف الأول من الحروف الأبجدية.ولكن أهي الحروف العربية أم غيرها؟ ييل الكاتب الالتباس وهو يقول: ( الألف كما هو معروف هو اسم أول حرف في أبجدية اللغة المقدسة)، واللغة المقدسة هنا هي العبرية، لا العربية.ومع ذلك فالجو الإسلامي حاضر،بشخصياته وأحداثه ورموزه.فالمرآة التي عثر عليها طارق بن زياد مثلا تشير على ذلك.

لكن الأوضح هو هذه الفقرة: ( إن المؤمنين الذين يعمرون مسجد عمرو بن العاص بالقاهرة ليعلمون جيدا أن الكون حبيس أحد الأعمدة الحجرية المحيطة بصحن المسجد المركزي..وبالطبع ليس بوسع احد أن يراه..

ويرجع بناء المسجد إلى القرن السابع، وتنتمي أعمدته إلى معابد أخرى لديانات سابقة على الإسلام، فكما كتب ابن خلدون في الدول التي يؤسسها البدو، لابد من اللجوء إلى الأعاجم في كل ما يختص بالمعمار)ص.157

ها هو بورخيس إذن يحدثنا عن المعتصم وفريد الدين العطار وابن خلدون، ويحدثنا عن القاهرة وطنجة وسمرقند،ويحدثنا عن المساجد والحمامات والقصور الشرقية، فهل نحن بحاجة إذن إلى نقول: اقرؤوا تاريخكم، أيها العرب والمسلمون،وادرسوا آدابكم وتراثكم، إن أنتم أردتم امتلاك مفاتيح الآداب العالمية وكنوزها،وفهم ما يدور حولكم من أحداث التاريخ، وإلا صرتم غرباء عن الأدب وعن التاريخ معا.

شكسبير المغربي

تابعت ندوة عقدها في المغرب العالم الراحل موريس بوكاي بعد صدور كتابه بالفرنسية: ( التوراة والقران والعلم)، وكان من بين الأسئلة التي وجهها أحد الحاضرين المتحمسين: ما دمت قد أسلمت فلم لا تغير اسمك وتختار اسما إسلاميا؟ وكان يعني اسما عربيا. فابتسم العالم ورد في هدوء: ( إن اسمي موريس، وموريس اسم مشتق من مور، أو مورو، وهذه الكلمة تعني المغربي، إذن المسلم).

ليمهلني القارئ، فأنا لا أريد بهذا التقديم أن أزعم له أن شكسبير كان مغربيا، ولا مسلما، ولا أريد أن (أعلمن) النكتة التي تقول: إن شكسبير كان مسلما ومغربيا، وأن اسمه محرف من (الشيخ زبير)، فهذا غير وارد إطلاقا. ولكن الذي أرمي إليه هو أن شكسبير كان مطلعا على الحضارة المغربية، كما عهدها معاصروه، وكان ذلك سببا في أن شخصية المغربي شخصية حاضرة بقوة في أعماله المسرحية.

إن مسرحيته عطيل، وهي التسمية التي شاعت منذ اختارها خليل مطران ،ترجمة للصيغــة الإنجليزية

تقوم أساسا على شخوص مغربية، وأهمها عطيل وديدمونة، أو عبد الله وميمونة،كما سنرى، (Othello) وشكسبير يصرح أنهما شخصيتان مغربيتان. وتحضر شخصية المغربي في مسرحيات أخرى له، من أهمها مسرحيته الشهيرة (تاجر البندقية)، وما ندري إن كان تضخم شخصية اليهودي (شيلوك) ممثلا للشر، في مقابل المغربي الشهم، على ما فيه من بعض السذاجة، مرجعه إلى الصدفة فحسب، أم هو مرتبط بموقف فكري واجتماعي من اليهودي والمغربي، سعى شكسبير إلى تجسيده في عمله الخالد.

الهوامش:

"1"ضمن مجموعة قصصية عنوانها: ( الألف)، صدرت بترجمة محمد أبو العطا، في سلسلة كتاب شرقيات للجميع،رقم 51،القاهرة 1998

"2" وضع المترجم: ( مدينة البرونز)، إلا أن المشهور في رحلات السندباد: ( مدينة النحاس)، ثم إن البرونز قد يترجم بالنحاس، من باب التغليب.