الشاعر عبد الرزاق حسين والتناص التاريخي
الشاعر عبد الرزاق حسين والتناص التاريخي
أ.د/
جابر قميحةمن الأحكام النقدية المشهورة أن شعر العلماء - وإن كان غنيًا بالفكر - يفتقر إلى كثير من الشعرية، كالتوهج الوجداني، والتصوير المحلّق، وقوة الإيحاء في الأداء التعبيري، وغلبة المباشرية في معالجة المواقف، وتمثيل الرؤية الذاتية؛ لأن هذا الشعر يهدف أساسًا إلى الإقناع، بزرع أفكار وحكم معينة، وترسيخ أحكام في شتى مجالات الحياة. لذلك كانت المباشرية - كما ألمحت - من أهم ملامحه، حتى يكاد يقترب من روح النثر في كثير من الأحيان، ومثلوا في هذا المقام بشعر «صالح ابن عبد القدوس»، و«الخليل بن أحمد الفراهيدي»، و«الإمام الشافعي»، و«ابن القيم».
وفي العصر الحديث: بكثير من شعر «جميل صدقي الزهاوي»، و«عباس محمود العقاد»، حتى كتب «سيد قطب» - رحمه الله - أنه يتمنى أن يستل من دواوين العقاد - وما أكثرها - ما يمكن أن يسمَّى شعرًا، ويجمعه كله في ديوان صغير، وهو حكم على مصداقيته يرفضه العقاد، وهو الذي نادى به «طه حسين» أميرًا للشعراء بعد موت أمير الشعراء أحمد شوقي، وإن ماتت هذه الدعوة في مهدها.
وإذا كان هذا هو الحكم المطرد على شعر العلماء، فإنه يبقى حكمًا على أساس التغليب، لا أساس الإطلاق.
**********
أكتب هذا وبين يدي شعر عالم فلسطيني قدسي، وهو الأستاذ الجامعي الدكتور «عبد الرزاق حسين»، وهو شاعر، وناقد، وبحاثة، ومحقق، وقصاص.
وهو فلسطيني مسكون بحب وطنه السليب، يرفع صوته دائمًا معلنًا عن حبه الدفاق لهذا الوطن:
ريحانة الدنيا فلسطين الهوى نبراسُ حبي وهي أول قبلتي
ولكن وطن الشاعر أوسع وأرحب من أرض فلسطين، فهو يتسع حتى يضم أرض العرب والمسلمين، ولا يقنع الشاعر بالنص على هذه الحقيقة على سبيل الإجمال، بل يقدم قائمة كاملة بهذه الأوطان في قصيدته «عهد ومودة»، فيقول:
الـشـام أمي، والعراق والأردن الـصـافي بقلبي حبُّه لـبـنـان وصـل دائـم متجدد والـسـاحـل العربي عهد مودة قـطر بروحي والكويت بخافقي والـسبع واحاتي إمارات الهوى وعـمان غاليتي ومسقط هامتي وهـواي مصر نيلها قلبي الذي | حبيبتيلـيـلاي نجد، والحجاز سـفني ومجدافي ونهر شريعتي فيه الهوى يرسو، وترسو مهجتي أصْلي وفصْلي، فالخليج عروبتي وبـزهـرة البحرين عيني قرّتِ فـيـهـن آمالي ومرتع ظبيتي واليمْن في اليمن السعيد وبهجتي يجري بنبض الحب نبض مودتي | أرومتي
**********
وبعد الأبيات السابقة يستكمل الشاعر بقية القائمة، فيذكر السودان، والصومال، وأريتريا، وجيبوتي، وليبيا، وتونس، والجزائر، وموريتانيا، والمغرب.
وهو إحصاء حسابي شامل، يشد الشاعر بعيدًا عن شاعريته - وهي أصيلة، ويقربه من نظم العلماء، وكان يكفيه بعض الأسماء على سبيل الإشارة والتمثيل.
كما نرى في الأبيات التالية لشاعر عربي معاصر:
وطن الإسلام لا أبغي سواه وبنوه أين كانوا إخوتي
مصر والشام ونجد ورباه مع بغداد جميعًا.. أمتي
وليس بالعصيّ على المتلقي أن يدرك أن فيما ذكر الكفاية، وأنه ذكر على سبيل التمثيل لا الحصر.
ولأن الأردن كانت أكثر الدول إيواءً وترحيبًا بضحايا النكبة التي حلت بفلسطين، نرى الشاعر يعترف بهذه الحقيقة في رسالة وفاء وحب وولاء إلى عمّان التي وصفها ب «شقيقة الجرح»، ويختم قصيدته بالأبيات الآتية:
حقٌ على الشعر أن يعطيكِ خالصه شـقـيقة الجرح يا عمّان كنت لنا فـلنمسح الجرح، والأحزان ندفعها ولـنزرع الحب في آماق وحدتنا | وأن يـرصِّـع تـاجيك بما أمًـا رءومًـا، وحـضنًا دافئًا أمِنا ولنرفع الصرح صرحًا عاليًا وبنا ولـننسج الفجر فجرًا زاهيًا وسنا | كمنا
**********
وشاعرية الشاعر «عبد الرزاق» تمتح من معين الأصالة، والإيمان العميق بهادفية الشعر الذي لا يكون جديرًا بهذه التسمية إذا لم يؤد رسالته الوطنية والإنسانية، وفي ذلك يقول:
إذا الـشـعر لم تحكمه نفسٌ وقلبٌ من الإيمان قد فاض وارتوى ومـعـنـاه أسٌّ لـلمعالي جميعها فـلا كـان شـعرًا ما يقول ذليله | أبيةٌوأيـدٌ إلـى العلياء تمضي تصعَّدُ وعزمٌ من الصوان أمضى وأصلدُ وألـفـاظـه الأمجادُ تبني، تشيّدُ ولو كان في القاعات يروى وينشَدُ |
لذلك كان الشعر عند شاعرنا وسيلة لا غاية، إنه آلية جمالية راقية للارتقاء بقيم وطنية ودينية وإنسانية عليا، لا يكون المخلوق إنسانًا إلا بها، واتساقًا مع هذا الإيمان الصادق يرفض الحداثة الهابطة شكلاً وموضوعًا، ويرى أنها مضلة ومفسدة للفن والعقل والعقيدة.
**********
إن الحداثة نبتةٌ سقيت بماء من صديدْ
فاللون منها كالحٌ والشكل شيطانٌ مريدْ
* * * * * *
فاربأ بنفسك وابتعد ولتحذر الحذر الشديدْ
فالوخز من أشواكها يدمي ويجرح بل يبيدْ
**********
وفلسطينيات الشاعر - في أغلبها - بريئة من المباشرية، تتمتع بحظ وافٍ من الجماليات الفنية شعورًا وتصويرًا وتعبيرًا، وتجنح للنهج القصصي الدرامي، فرائعته «قم يا بني» ومحورها الأساسي انتفاضة أطفال الحجارة، يستهلها الشاعر بحوار بين طفل يريد أن يواصل نومه بلا إقلاق ومنغصات، وبين أمه.. ولكنه لا يهنأ بالنوم؛ لأن الأطفال الثائرين بالحجارة التي يرجمون بها جنود الصهاينة تقلق مضجعه، وهو حريص على السكون حتى يواصل نومه في استغراق، لذلك يطلب منها أن تغلق كل النوافذ:
ولتسرعي وتعجلي: هاتي غطائي دثّرين
إني صريع النوم يا أمي فلا، لا توقظين
وعلى هذا الرجاء الطفولي العفوي ترد الأم، وتستنهض طفلها الكسول المتراخي، ليشارك أقرانه في ضرب الصهاينة المعتدين:
قد آن يا ولدي ركوب الخيل للمترجلينْ
فالحق بركب الحق يا ولدي فقد خف القطينْ
قم لا تنم فالشمس يسطع في سناها العابرونْ
قم وانظر الأطفال في حُلَلِ الجهاد مسربلينْ
طلعوا علينا من وراء الدمع والزمن الحزينْ
طلعوا كأفنان الورود فروعُهم من ياسمينْ
من كل ثنْية شارع .. من كل فج يظهرونْ
جنًّا تخالهم بمقلاعِ الحجارة يضربونْ
وهم أشاوسُ في ميادينِ الجهادِ لهم فنونْ
ويلتفت الشاعر بأسلوب الخطاب إلى هؤلاء الأطفال محييًا:
مرحى لكم أشبالنا تفدون قدسي والعرينْ
مرحى لكم جئتم منائر للعفاة الغافلينْ
مرحى لهاتيكَ الأيادي تصفع الخصم اللعينْ
مرحى لكم مرحى لذاك الطفل مرفوع الجبين
وبمثل هذا الطفل يتحقق النصر أو الشهادة، وهي بدورها تحقق النصر المؤزر المبين، ولو بعد حين.
**********
وفي هذه القصيدة الطويلة من الظواهر الفنية الآسرة، ما خالف الشاعر به المعهود المطرد من قصائد انتفاضة الحجارة، فجاءت قصيدته قصصية درامية لعب الحوار دورًا مهمًا فيها، وجاء الخيال تركيبيًا في صور شعرية مزج فيها الشاعر بين انعكاسات الواقع، وتحليقات الرومانسية دون غلو وإسراف، وإن أخذنا عليه استخدامه لقلة من الكلمات التي جلبها الشاعر وتكلفها من أجل القافية ككلمة جفون بعد عيون في قوله:
قم يا بني اليوم لا تغمض عيونك والجفون
وكلمة «يمين» في قوله:
إما الشهادة أو نطهر قدسنا قسمًا يمين
وفي قصيدة أخرى، نقرأ للشاعر «سطورًا» من الشعر الحر عن أطفال الحجارة يتحدث بها إلى وطنه أو إلى شجرة الزيتون:
.. وريح المسك يعبق في أعاليكِ
نشيدَ فدى
ليحميك..
**********
بأيد غضة بضة
وقلب ناعم النبضة
بطفل يدفع القبضة
فترشق وجه أعدائك
وكالومضة
يشع النور والشوقا
ويمضي شعلة برقا
***********
وأرى أن القصيدة «الأم» في فلسطينيات الشاعر هي قصيدة «أغنية الزيتون» (ديوان: أغنية للزيتون ص5 إلى ص14)، والزيتون شجر «تراثي» إن صح هذا الوصف، وقد أثنى عليه القرآن إلى حد القسم به {وّالتٌَينٌ وّالزَّيًتٍونٌ} (التين: 1)، وقد ذكر في القرآن خمس مرات، كما ذكر مرة واحدة مفردًا في قوله تعالى: {يٍوقّدٍ مٌن شّجّرّةُ مٍَبّارّكّةُ زّيًتٍونّةُ لاَّ شّرًقٌيَّةُ ولا غّرًبٌيَّةُ} (النور: 35)، وهي على مدار التاريخ ترمز للسلام، كما أنها أشهر شجرة في الشام بعامة، وفلسطين بخاصة، لذلك جعل الشاعر منها معادلاً شعريًا، أو موضوعيًا لوطنه فلسطين مستخدمًا أسلوب المناجاة، متحدثًا إليها ممتزجًا بها إلى حد الحلول الشعري، منطلقًا بلسان الفلسطيني عارضًا مسيرة الحياة بأمجادها وجهاد الأجداد، مؤطرًا هذه المسيرة بين حدي البداية الولائية، ووداع الدنيا إلى لقاء الله.
فابتداء يعلن متحدثًا إلى الزيتونة:
أنا زيتونة الوادي
أعيش هنا
على بابكْ
أقيم هنا
على تاجك
ورسمي في محياكِ
ووردي في ثناياك
وأحيا بين أنفاسك
ونضح عبيرك الثرِّ
كعبق الزيتون والنور
وأنت أنا
وعمر الدهر يجمعنا
أما الحد الثاني الأخير من الإطار فقوله:
أنت اللحن
أغنيتي وإنشادي
وأعلن للدنا أني
أموت هنا
لأُغسل في مآقيك
وأدفن في روابيك
وأحضن جذرك الممتد من قلبي
وعبر قلوب أجدادي
ليبقى زيتك القدسي مصباحًا
لأولادي وأحفادي
**********
وأهم الظواهر الفنية والتعبيرية في هذه القصيدة ظاهرة «التناص»، والتناصّ في إيجاز وتبسيط شديد، بعيدًا عن خلافات التعريف وتفريعاته يعني: استدعاء جزئيات من الماضي: عبارة، أو صورة، أو حادثة، أو شخصية، وتفعيلها مع النص «المستدعي» (بكسر العين)، وبناء علائق وثيقة بينهما دون افتعال.
وقصيدة الشاعر عبد الرزاق اتسعت لكثير من المستدعيات التراثية، منها الوقائع والأحداث والأماكن، مثل:
المعراج والأقصى - مؤتة - حطين - عكا - القسطل - العرقوب - بيروت.
ومن الشخصيات: زيد بن حارثة - جعفر بن أبي طالب - عبد الله بن رواحة - عمرو بن العاص - القسام - فرحان السعدي - حجازي.
وممن ذكره بالوصف لا بالاسم: الفتى الكردي (وهو صلاح الدين)، والفاتح الغربي، وهو (نابليون بونابرت).
وقليل في القصيدة التناص التعبيري، ومنه «ليبقى زيتك القدسي مصباحًا» فهو يذكرنا بقوله تعالى: { .... مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح فٌي زٍجّاجّة الزجاجة كّأّنَّهّا كّوًكّبٌ دري يوقد من شّجّرّةٍ مباركة.. } (النور: 35).
وهذا التناص التاريخي - على كثرة ما ساقه الشاعر من أعلام وأحداث - أعطى القصيدة قوة من التوثيق، وتجذير الحاضر وتأصيله، وأذاب المراحل الزمنية لتصب في وعاء واحد ليعطي وحدة دلالية، ووحدة هادفية للمعطى الفني الشعري التقاءً وامتزاجًا دون تناقض، أو تقاطع.
ومن عوامل تفوق هذه القصيدة التدفق الموسيقي الأخاذ اعتمادًا على تفعيلة «الهزج» «مفاعيلن» . والقصيدة - في مجموعها من وجهة نظري - أنضج فلسطينيات الشاعر، وهي - في نظرى كذلك - من أفضل ما قرأت من الشعر الحديث، وفَّق الله شاعرنا الناقد العالم الجليل.
الشاعرفي سطور:
هو: أ. د. عبد الرزاق حسين - من مواليد القدس سنة 1949م - عمل في عدد من الجامعات العربية، ومنها جامعة الملك فهد بالظهران في السعودية.
- من دواوينه الشعرية: دوائر القمر - معًا إلى القدس - أعطر السير - أغاني الحروف.
- وفي الأدب والنقد: شعر الخوارج - علقمة الفحل - الإعاقة في الأدب العربي.
- وله عدد من الكتب القيمة في تحقيق التراث، وعدد من الروايات والمجموعات القصصية.