"خيال ساخن" لمحمد العشري

"خيال ساخن" لمحمد العشري

التمرّد على تقليدية الحبّ

محمد العشري

[email protected]

محمد العبادي

 "خيال ساخن": الرواية الخامسة للأديب محمد العشري، تمثل إضافة جديدة ومتميزة لإسهاماته في عالم الكتابة التي بدأت برواية "غادة الأساطير الحالمة" المنشورة في 1999" حتى "هالة النور في عام2002".

بشكل عام.. قد يتفاعل القارئ مع النص من منطلق كونه رواية حب، أو لنقل رواية عن الحب، لكن من قراءتي تكون لدي يقين أن الهدف الأساسي هنا هو التمرد على الشكل المعتاد لقصة الحب التقليدية، يظهر هذا من البداية في العنوان، وفي خيالية العديد من الأحداث داخل قالب خارجي منطقي (وهو ما دعا النقاد لربط الرواية بفكرة الواقعية الأسطورية) بالإضافة إلى اللغة المستخدمة.

العنوان "خيال ساخن": يعطي الإيحاء أن البطل الحقيقي هنا ليس جمانة أو ابن ساهر، ولا حتى الحب، البطل الحقيقي هو الخيال الذي يمضي عبر أركان النص، ويبدو كما لو كان هو المتحكم الرئيسي في كل التفاصيل، سخونة الخيال هنا- كما ذكرت  -لا تدل على انطباع إيروتيكي ما، سخونة الخيال هنا مرتبطة بديناميكيته وخصوبته عبر أجزاء الرواية. الإهداء والمفتتح يعملان على اعطاء انطباع أولي أن الرواية تتحدث عن الحب (يبدو الأمر كخدعة لتخفي قشرة العاطفة والحب الهدف الأساسي: الخيال)!. الضمير "رأيت" في السطر الأول، ربما يكون هدفه الأساسي هو كسر الإيهام، وبداية عقد نوع من إتفاقية التواطؤ بين الكاتب والمتلقي، إشارة إلى أن كل ما يلي من أحداث مبني على الخيال، دون اهتمام بالواقعية.

الجزء الأول "الأمل":

من بداية يتضح لنا أهمية استسلام المتلقي لعالم الرواية الخيالي، من البداية نجد: الشجرة المتحجرة، السلعوة، ساهر البطل الذي يستطيع أن يحفر نفق ليهاجم السلعوة ويهزمها.. بل ويمزق جسدها إلى نصفين!، التنين الخارج من اللوحة ليوحد الحيوانات (يذكر بمزرعة الحيوانات لأورويل)... وغير ذلك الكثير.

كل هذه المفردات والأحداث الخيالية تعطي النص حيوية هائلة، لا يقللها سوى محاولة "منطقة" الأحداث أحياناً، مثلاً:

-  احتياج ساهر لتخدير السلعوة: "من المنطقي" أن يحتاج ساهر لتخدير السلعوة كي يقدر أن يتغلب عليها، لكن الجمال في حكاية (قتل السلعوة على يد ساهر)  أنها حكاية "غير منطقية" على الإطلاق أقرب لمفهوم "اللا جدية" كما ذكره "كونديرا"، بمعنى آخر: لو استسلم الكاتب للمنطق لكان من الكافي جدا أن يتصل الأب التاجر بشرطة النجدة لنجدته، دون الحاجة لظهور ساهر!.

-  حكاية ظهور التنين: تصويره على أنه مجرد حلم في خيال التاجر، رغم ارتباطه في أجزاء تالية من الرواية بأسطورة قديمة، هل التنين مجرد خيال لرسام؟ أم هو تحقيق لهبة أسطورية من حتحور؟

الجزء الثاني "الهيام":

يبدأ برحلة نيلية غارقة في الخيال، ذات جو شبه أسطوري يذكرنا برحلة الإنسان الدائمة للبحث عن المعرفة، يختلط في هذا الجزء التاريخ بالأسطورة، بل ويتضح سعي الكاتب لإنتاج أساطير جديدة ومغايرة (يبرز هذا مثلاً في الحديث عن بردية النماء).

في هذا الجزء أيضا يتكشف للقارئ الوجه الآخر لساهر(أعجبني اختيار اسم "ساهر" لتحمله لازدواجية المعنى: ساهر قد تعني حارس وحامي يسهر الليل، وساهر قد تعطي انطباع بعدم الالتزام الأخلاقي)، رغم ظهوره في الجزء الأول بصورة البطل الشهم المتمرد على القيود إلا أن ساهر هنا إنسان هارب من أي التزام، حتى التزامه الأسري، يسعى للعمدية بمنطق البحث عن لعبة جديدا، يرسم الكاتب هنا بمهارة التناقض بين صورة ساهر الحقيقية، و صورته الأسطورية في خيال جمانة المبنية على الحكايات والتماثيل.

الجزء الثالث "النافذة":

تغيير الراوي من راوي عليم إلى راوي أول يعطي انطباع بواقعية الحدث، وهو ما أصابني بالحيرة لتناقضه مع ما ذكرته في البداية عن محاولة الكاتب كسر الإيهام. لازالت الأحداث تمضي بشكل خيالي، خاضعه لمنطقها الخاص، حتى نصل فجأة لجملة (لنقص الدواء في الصيدليات)!، نفس مشكلة المنطق المفاجئ في وسط اللامنطق التي ذكرتها من قبل. اللغة هنا متميزة، أقرب الى اللغة الصوفية كما قيل، لكن – ابتداءا من هنا – يأتي تميز اللغة على حساب الإيقاع العام.

الجزء الرابع "العناق": عودة للراوي العليم..

في هذا الجزء – وعن طريق إعادة رواية المروي لكن بشكل مختلف – يكشف لنا الكاتب أبعاد مختلفة للأحداث، يظهر لنا أن السلعوة التي ظنها الناس وحش كاسر ليست سوى أم قتلها الحزن، كذلك تتكشف لنا أكثر فأكثر صورة ساهر كشخص غير مسئول، متحجر المشاعر، عاله على المحيطين به، حتى ابنه. لكن وقعت الرواية هنا في فخ التقليدية في بعض الأِجزاء، منها مثلاً: المقارنة الصارخة بين ساهر وصاحب البيت الذي يعمل فيه ابن ساهر، أيضا شخصية الأب الذي يتعامل مع ابنته كصفقة تجارية (لكن قد يكون هذا من سبيل السخرية أو التمرد على الشكل المعتاد لكتابة حكايات الحب كما ذكرت من قبل).

اللغة في مشهد اللقاء النهائي بين ابن ساهر وجمانه لغة متميزة لكن لازالت على حساب الإيقاع، لكن هذه النهاية الخيالية مناسبة تماما للخيال الساخن المستمر في الرواية كلها. ورغم عدم وجود مبرر واضح للقاء الحبيبين، إلا أنني لا أجد داعي لمثل هذا المبرر في ظل فنتازية الرواية. إجمالا نجد أن رواية "خيال ساخن"، الصادرة عن "الدار العربية للعلوم" مؤخراً في بيروت، بالإشتراك مع "مدبولي" في مصر، و"منشورات الإختلاف" في الجزائر، هي رواية مختلفة لكاتب مختلف، وهي أيضا رواية مبشرة بأعمال أخرى مغايرة ومتميزة لكاتبها محمد العشري.