قراءة في كتاب حكايا مدينتين

قراءة في كتاب حكايا مدينتين

للشاعر العالمي الكبير منير مزيد

منير مزيد / رومانيا

[email protected]

سها شريف

مشروع ثقافي من أجل جمع الثقافات و بناء صداقات أوثق و أشمل بين الشعوب

أحد أهم أعلام الثقافة في رومانية والعالم . الشاعر والأديب والروائي العالمي منير مزيد الأردني من أصل فلسطيني والمقيم في رومانية . درس في إنكلترة و أميريكا . كتب في مجال الشعر والرواية والقصة القصيرة باللغة الإنكليزية والعربية و الرومانية   وكذلك العديد من المقالات الأدبية. وقد ترجمت العديد من أعماله الإبداعية إلى لغات عالمية.

يعد منير مزيد واحدا من أهم الأصوات الشعرية العالمية، ومن أنصار الشعر للشعر في العالم العربي ، وهي طريقة لا يقصد أصحابها أن يستعملوا  براعتهم في اللفظ ليمدحوا أو ليذموا أو ليرفعوا أو ليضعوا أو ليسايروا من يشاء متى شاء له هواه ومطامعه،  فيمدحوا اليوم ما ذموه بالأمس ، فهذا ينافي التجربة وصدقها، ورسالة الشعر الوجداني في سبر أغوار القلب الإنساني والتعرف إلى أدق خلجاته، وإمكاناته الطبيعية، ومستقبله ، ومصيره الاجتماعي ، وتأثراته الوراثية ، وأحلامه ، وطاقته ، وموقفه الميتافيزيقي في عصره ، وكل ما يعد مقوماً من مقومات حياته وسعادته في الأرض...

أطلق عليه الناقد والباحث الروماني ماريوس كيلارو لقب... شاعر الحب والانسانية ، وجعله الشاعر الفرنسي الكبير أتانيس فانتسيف دي ذراكي... شاعر الحب و الجمال، ووجده البرفسور العراقي عبد الستار الأسدي ...ياني الشعر العربي ، وهو عند الشاعرة العراقية رحاب الصائغ... شاعر الرقة والجمال، وعند الإعلامي الفلسطيني د. بشار القيشاوي... ناي الشعر العالمي ، وفي مفهموم الكاتبة السورية سها شريف ... رسول الشعر، واختارت الأديبة السورية سها جلال جودت له وسام ...  شاعر الكلمة و الترجمة ، وارتأى الشاعر والناقد الفلسطيني محمود فهمي عامر.... خلال ترجمته وخدمته للأدب من هذا الباب الحضاري وصفه بأمير شعراء الغربة ، وبعد قراءاته النقدية لأعماله الشعرية العالمية  أطلق عليه لقب بوشكين فلسطين ، أما البرفسور الإيراني محمد صادق البوصيري ..... فحباه شاعر الجمال و الصور البلاغية والفنية ...  

والجدير بالذكر أن منير مزيد هو صاحب فكرة مهرجان أوديسا العالمي للإبداع الشعري والالتقاء الحضاري الذي تم عقده في العاصمة العاصمة الأردنية، عمان، وحاليا يعمل رئيسا لمجلس إدارة بيت الحكمة .

الشاعر والأديب والروائي العالمي الكبير منير مزيد يحمل رسالة ثقافية هامة في إيصال صورة الثقافة العربية و التعريف بإرثنا الثقافي و الإبداعي و الإنساني و ما يحمله من قيم التسامح و التعايش السلمي . و قد قام بإصدار أنطولوجيا للشعر العربي بثلاث لغات العربية و الإنجليزية و الرومانية . كما يقوم بإنتاج أنطولوجيا للشعر الروماني بثلاث لغات أيضاً لنطلع على الثقافة الرومانية و لتعميق الفهم لبعضنا البعض و لتقريب وجهات النظر . و ترجم مجموعتين من مجموعاته الشعرية من اللغة الإنكليزية إلى العربية و هما يمثلان تجربته الشعرية في رومانية و هما

( وجوديات )

و كتاب ( الحب و الشعر )

كما يقوم حالياً بإصدار أنطولوجيا للشعر الصيني . بالإضافة إلى ترجمته ديواناً شعرياً إلى العربية للشاعر الباكستاني ( سونا الله ) الذي يشغل منصب سفير الباكستان في رومانية و أصدره بثلاث  لغات العربية

و الإنجليزية و الرومانية .

و ترجمت كثير من أعماله إلى لغات عالمية وشارك في العديد من المهرجانات الثقافية العالمية و له العديد من الروايات و الكثير من الدراسات .

و هو رئيس رئيس مجلس إدارة بيت الحكمة  للثقافة و حوار الحضارات و مركزها رومانية و التي تؤدي دوراً هاماً في فتح باب الحوار الحضاري الثقافي العالمي و توسع دائرة الحوار بين الحضارات للوصول إلى تفاهم مشترك .و تقدم من خلال أعمالها الأدبية و الثقافية المعرفة الأكثر شمولاً و اتساعاً بثقافة الآخر .

و لقد قالت عنه  الباحثة والمترجمة ماريا موغراش (ولهذا علينا كرومان أن نشكر القدر الذي جلب لنا هذا الملاك السماوي الساحر ليكون جزءًا من تاريخنا الثقافي والحضاري الروماني أولا،  والمشهور في غنى تنوعه وانفتاحه ، ومن ثم الإنساني.)

أما عن سر دخوله إلى عالم الأدب الروماني و العالمي بقوة فتقول أيضاً عنه ماريا موغراش:

(منير مزيد يتمتع بذكاء فطري وتراكمي، ومثقف جدا ، ويمتلك شفافية عالية ، وصدق لا متناه ، وحساس جدا.هذه  الخصال كرسها في كتاباته لهذا جاءت كلماته من القلب والروح لتمس شغاف قلوبنا وتلك الكلمات تتسم بالبساطة والعمق في التعبير وسلاسة لغوية متناهية : عذبة ، رقيقة كقطرات الندى ، قوية كطلاطم الموج الخضم ، عاصفة كريح هوجاء ، مع كل تلك الرقة والقوة تحمل تلك الكلمات رائحة وعطر الأرض ، هديل الحمام وشدو البلابل ، تسابيح الكون ، لتصبح كلماته أشبه بتراتيل سما وية).

كتابه ( حكايا مدينتين ) حضر حفل توقيعه تحت رعاية وزارة الثقافة الرومانية و سفارة المملكة الأردنية الهاشمية كل من سفراء و أعضاء سفارات كل من الدول التالية : ( مصر و العراق و المغرب و الجزائر و تونس و سورية و قطر و الإمارات العربية  و السودان و إيران و الهند و كوبا و كندا و ماليزيا و الباكستان و الأردن و فلسطين و المدير العام لدائرة البروتوكول الوطني في وزارة الخارجية الرومانية و عدد من الشعراء و الأدباء و المترجمين الرومان و ممثلو الإعلام

يحتوي كتابه ( حكايا مدينتين ) الذي صدر بثلاث لغات – الإنجليزية و العربية و الرومانية –

على قصيدتين :

( دمشق معلقة الحب ) و

( بخارست مدينة الشعر الأبدية ) .

ووضعت الشاعرة و الناقدة السورية بهيجة مصري الإدلبي المقدمة للنسخة العربية .أما البروفسور العراقي (عبد الستار الأسدي) فوضع المقدمة للنسخة الإنجليزية . وجاءت النسخة الرومانية بمقدمتين : الأولى للشاعرة  الدكتورة( دونا ثيودور) و الثانية للشاعر و الباحث و المترجم العالمي (ماريوس كيلارو ) و الذي قام بترجمة القصيدتين إلى اللغة الرومانية .

      منير مزيد شاعر يحمل رسالة عالمية و من خلال كتابه ( حكايا مدينتين ) حمل رسالتين : الأولى للغرب و الثانية للعرب . كيف لا و هو من أوائل المثقفين الذين نادوا بضرورة الانفتاح على الآخر . و من خلال هذا الكتاب يؤكد ضرورة إيجاد و سيلة لفتح باب الحوار و جمع الثقافات المختلفة من أجل التوصل لتفاهم مشترك و بناء و صداقات أوثق و أشمل بين الشعوب .

رسالته الأولى التي أراد أن يوصلها الشاعر منير مزيد إلى الغرب تتلخص في :

 أنه عربي و قومي و يعتز بعروبته و مع ذلك لا يحمل للغرب إلا الحب و حبه لبخارست قد يفوق حب الرومانيين لبلدهم و هذا يدعم صورة الإنسان العربي .

فرسالته للعالم هي بالحب و الشعر و الثقافة نتوحد و نفهم بعضنا لأن فكرة صراع الحضارات فكرة عنصرية 

أما رسالته للعرب فهي:

 علينا أن نتفاهم مع بعضنا و نتحد بكلمتنا حتى نستطيع إيصال صورتنا المشرقة إلى الغرب .

فبدأ بقصيدة ( بخارست  مدينة الشعر الأبدية ) التي سعى أيضاً من خلالها أن يوصل رسالته الكونية و هي حلمه بأن يجعل الحب ديانة و نبذ الطائفية بين الأديان . فبخارست كما هي دمشق لدى الشاعر أرض مقدسة و رعوية و أبدية الوجود . إنها مدينة مختبأة في محارة السحر و الجمال و غارقة في التأمل . و حاول أن يكشف لنا في قصيدة بخارست عن الجمال المخبأ داخل هذه المدينة أرض الإبداع و الخصوبة و التجديد . فبخارست لؤلؤة سماوية تخطى شعاعها الحجب حيث قال :

رابية ما

بهيئة لؤلؤة

مختبأة في محارة السحر

والجمال

غارقة في الصمت

والسكون

تنظر بجلال إلى الله

بعين التأمل

خاشعة

بخارست أرض الخصوبة  و الأرض المقدسة و العلوية  افتتحت أبوابها و احتضنته بعد أن عانى من آلام الوضع الحالي و هو ما يسميه الأرض السفلية , أرض المرارة و الأحزان و الغربة و التشرد . فأحب بخارست حبا عذرياً فقد كانت بخارست كدمشق نموذجاً للتعايش  السلمي بين البشر . نلاحظ هنا عودته لطرح موضوع حوار الأديان و يدل على ذلك عندما قال :

تَفْتحُ صدرَها للأشجار

للعشب

للطير

للحصى

للماء

ليصلي كل حسب لغته

حسب تصوره...

اما عن معاناته من الأرض السفلية و لجوئه  لبخارست البلد السماوية الرعوية المنفتحة على الثقافات الأخرى و الحاضنة للشعر و الشعراء و المؤمنة بأن التنوع سنة كونية و لولا التنوع ما كان الحوار و لولا الحوار لما كان التطور فقال :

جئتك

بعدما أغرقني الآسى

والكفر

ولوثني أوساخ  فكر القبلية

وفي الروح رؤى معذبة

من مرارة الغربة والتشرد ..

جئتك

متعبا من الحرب والحب

وأنا افتش بين النساء

عن امرأة تشبه قصائدي..

و في بخارست أصبح الحلم المستحيل حقيقة و يمكن تحقيقه و هي أن يصبح الحب ديانة . فبخارست تفيض شعراً و حلماً . و قال :

و بات كل شيء في بخارست ممكناً

و لقد لجأ الشاعر إلى استعمال فكرة الرمز – الأسطورة حتى في عنوان القصيدتين و ذلك ليجعل الفرد فينا يخرج من عالمه و ينفتح على الكون العمومي. و ليوقظ روح الفرد فيننا في التأمل  و البحث . و رمز بتأسيس بوخارست إلى بوكيور الراعي طبقاً للأسطورة . فاسم بوخارست ( بوكيوسيتي ) تعود إلى اسم بوكيور الراعي الذي حسده الرعاة لشهرته فكادوا له عند أحد العرافين بلعنة سحرية فانتقل وفقاً لرأي أحد الحكماء من الكهنة إلى ضفة نهر دامبوفيتا و أعاد بناء حظيرة الغنم و تلاشت اللعنة السحرية و عاد لنجاحه من جديد و تطورت البلد و أصبحت تدعى باسم بوخارست ( Bucuesti )

و كذلك في قصيدة ( دمشق معلقة الحب ) لجأ إلى الرمز – الأسطورة في عنوان القصيدة حيث رمز إلى دموزي في اسطولرة أسطورة إنانا و هي عشتار عند البابليين . و لجأ لإسطورة دموزي ليشتق اسم دمشق . فبعد عودة دموزي الدورية إلى الأرض دبت الحياة من جديد و عادت المسرة إلى الأرض و عمت الكون و نمت الأعشاب و الأزهار و تجددت الحيوية في كل الكائنات و ترنمت أناشيد الفرح. و هكذا رمز لدمشق أنها رمز الجمال و الخصب و الحب و تعبر عن إرادة الحياة .و بجمالها الأنثوي حيث شبهها بالمرأة التي يحبها فقد كانت رمزاً للنضال و المعاناة من أجل رسالة الحب و السلام .

   و تقول الشاعرة و الناقدة بهيجة مصري الإدلبي في مقدمتها لكتاب (حكايا مدينتين ) :

"بين دمشق وبوخارست مسافة يملؤها الشعر وجدا ، فتصبح القصيدة جسرا تعبر عليه القلوب إلى القلوب ، ويلتقي عليه التاريخ بالتاريخ ، وبالتالي يعلن الشعر آياته وصلواته كرسول يبشر برسالة الجمال  .

ومن هنا يمكننا الدخول في عوالم القصيدتين / دمشق معلقة الحب / و بخارست مدينة الشعر الأبدية / للشاعر منير مزيد الذي يتأمل في محراب الكلمة ليفكك أسرارها .................. هاجسه الحب والبحث عن كينونة الإنسان في الزمان والمكان ، فترتدي كلماته ببساطتها عباءتها الفلسفية ، وبردتها الصوفية ، لتنسدل الرؤى من مسافاتها عليه وحيا"

و هكذا بدأ الشاعر قصيدته (  دمشق معلقة الحب) كما تبدأ روح المعلقات بالتغني بمفاتن دمشق ثم انتقل إلى موضوعه الأساسي و هو حسها الوطني و بعدها القومي .

دمشق

أنا لا أعطش إلا لحبك

لا أجوع إلا في الغرق

في عيونك الغامضة

و لا أتلذذ إلا على جلدك الندي

ثم انتقل للحديث عن عروبة دمشق و قوميتها . فقد كانت مصدر الإشعاع الحضاري على العالم و هي بلد الحضارة و الكرامة و الإبداع  . و لقد صور الموقف الوطني لسورية بقوله :

أبتهل لـ شموع أصابعك المضيئة

في عتمة عروبتنا

لفمك المعطر بالياسمين والبرتقال...

وأنادي على خيول قلبك

لتصهل عالياً بزهو وافتخار

في القدس و بغداد...

ثم أكمل الشاعر تصوير عشقه لسورية حيث أصبح حبه لدمشق شكلاً من أشكال الهوية العربية  و ميز هنا دمشق عن بوخارست بأنها تتميز بالفروسية والدفاع عن الظلم و هي فاتحة الحب والجمال على أساس أنها المدينة الأقدم

فقال :

أحبيني بما يكفي

لأكون عربيا

يتغنى بالخيل و السيف و الشعر

و يخوض آلافَ المعاركِ

دمشق أمل العروبة ومسقط رأس العروبة و هي أكثر جمالاً و روعة من بخارست حيث قال :

دمشق ، يا إنجيل الحب الأول

من غيرك

يتفيأ تحت سدرة المنتهى

يعبد طريق الله

بالزنابق والأقحوان

و دمشق بعشق الحياة تتحدى كل القوى المغيرة . و يرى أن دمشق  تحت سدرة المنتهى و من دمشق نصل إلى الله

يرعى خراف الحضارة

من ذئب المحيط

وهنا إشارة على أن دمشق هي حامية وراعية الثقافة الإنسانية . أما ذئب المحيط  فكان  رمزاً للغطرسة الإمبريالية.  

و دمشق هي الحبيبة و الأرض الطيبة القادرة على أن تجمع حياته الضائعة و المشتتة و تكون ملاذه الوحيد الذي يقيه من الضياع. و دمشق الأرض الخصبة و الخضراء و الغوطة الغناء و من دون حضور حبيبته دمشق تصبح الحياة و روحه صحراء قاحلة خالية من الخصب و لا حياة فيهما :

حبيبتي

لمَـلِمي

براعم حياتي المبعثرة في الريح

واعصريها

في قوارير عطرك الشهي ...

و يقول أيضاً :

حبيبتي

هذا المساء ذهب هباءً

مثل بقية المساءات دون حضورك

الروح آثمة

لم تذق طعم الحب

والجسدغابة موحشة

خلت من العشب والأشجار

يموت فيها حشائش الليل

يتصحر فيها كل شيء

حتى الحب

و استعمل الشاعر الصور الصوفية و الروحانية فكانت لغته سماوية ترقى إلى قدسية دمشق . فيرى دمشق أرضا مقدسة تحج إليها الملائكة و الحوريات  و هي ملهمة للشعراء و الأنبياء و الفرسان .  فهو رسول الشعر و هي مصدر إلهامه لنقل الرسالة السماوية و هي - الحب ديانة و دمشق هي  مهد الحضارات و مهد الديانات :

دمشق ، يا إنجيل الحب الأول

...........

إليكِ

تحج الملائكة والحوريات

وتعبر قوافل الأساطير

محملة بتوابل المعجزات...

........

و يرى الشاعر وجوده مرهوناً بوجود دمشق فهي الحبيبة و الأرض المقدسة و الأم الحاضنة و الداعمة و الراعية لأبنائها . و هي مدينة الحلم الأبدية بروعتها و سحرها و عروبتها و حضارتها و ثقافتها , ثقافة التسامح و العيش المشترك و رسالتها رسالة خير و محبة و سلام لما فيه خير الإنسانية . فدمشق بعيدة عن العنصرية و الظلم  ولا تغمض عينيها عن متطلبات اليوم و لا تتنكر للتراث . فدمشق له الحلم و الأمل بولادة جديدة لأمجاد العرب و البعث لأمل منتظر  . الأمل في دمشق للخروج من الآلام و الظلام و المرارة كيف لا و هي رمز للشرف و الكرامة و المجد و منفتحة على ثقافة الآخر :

الآن، ينبغي للحزن المتورم أن يتحرر

ويصبح أغنية

تستجيب لنداء الحب اللامتناهي

يحدثنا عن المرأة

عن الوطن

وعن الإنسان...

نرى في القصيدتين يتجاوز حدود الحلم برؤية صوفية و رعوية غارقة في عالم الرؤى الفلسفية . فقصائده مليئة بالروحانية مما يدل على نضوجه الفكري . فقد عايش الثقافتين و اندمج بهما و أصبحت الكلمة لديه عبر الشعر رسالة إنسانية صافية من الشوائب .  قد أخذ من روح الشعر العربي و تأثر بنفحات من الشعر الغربي فمصادر القراءة لديه متعددة بحكم معايشته لأكثر من ثقافة و لأكثر من لغة . فقد اطلع على الشعر الصيني و الروماني و الأوروبي بشكل عام و الأميركي و الفارسي والهندي .

و من إحدى الصور التي تدل على رؤيته الفلسفية و هي زواج الظلمة و النور , أي تزاوج الأشياء السالبة مع الموجبة لتوليد الشحنة :

ساق الراعي قطيع الرؤى

والأحلام

قطيع الشغف والإلهام

إلى تلك الرابية

إلى مراعي الفرح الأبدية...

على ضفاف نهر دامبوفيتا

اقْتَرَبَ من حقل احتفالات الظل

زواج العتمة والضوء...

نراه فيلسوفاً و شاعراً و حكيماً و مصيباً في رأيه مما لا نجده عند الحكماء أنفسهم . فالعناصر الإنسانية كانت كامنة في عقله و ترعرعت في ثنايا مشاعره و تدفقت علينا نوراً و نشاطاً .

و تقول عنه الباحثة والمترجمة ماريا موغراش  (في الحقيقة ، الغرابة أو التناقض يكمن في أن  شاعراً من أصول عربية وإسلامية ،  يتباهى بانتمائه إلى تلك الأصول يُعالجُ عناصر إنجيلية ومفاهيم توراتية بإجلال وحرفية عالية مستعملا لغةِ المواعظِ القديمةِ، بدون إمَالَة تقريباً لمصلحة دين أو أي منظور عقائدي)

وكان من الرائع لمدينتين منفتحتين على ثقافة الشعوب الأخرى وتربطهما أواصر الصداقة ، ولديهما إرث ثقافي وإبداعي وإنساني ، وتمثلان نموجا للتعايش السلمي ، والحب ديانتهما أن يجمعهما كتاب واحد ا , و هذا له مدلول و بعد ثقافي و يحمل رسالة محبة .و هذه طريقة  من أجمل الطرق للتوصل  لتفاهم مشترك وبناء صداقات أوثق وأشمل بين الشعوب . فالشاعر منير مزيد يريد أن يوطد العلاقات بين الشعوب , و لقد أبدت إعجابها( دونا ثيودور) مديرة البرامج الثقافية في تلفزيون رومانيا بفكرة منير مزيد  ألا و هي جمع مدينتين بكتاب واحد و قالت :

" نتمنى أن نجد كتبا آخرى مثل حكايا مدينتن . الآن ، بوخارست ودمشق ، ونأمل في المرة القادمة بوخارست / القاهرة/ الدوحة/ تونس / انقرة/ طهران/ ..."

  قال الشاعر والباحث الروماني الكبير (ماريوس كيلارو)عن منير مزيد بأنه فارس عربي نبيل يمتطي جواد الشعر ويشهر سيف الكلمة و أنه كلما قرأ له يشعر بارتباطه للشرق أكثر .

و القصيدتان على الرغم من بساطتهما تكشفان عمقا في المعنى و الشفافية و الرقة التي يتميز بها شعر منير مزيد . فعالمه مليء بالسحر و الجمال و الألم و لا نستطيع الانفكاك عن عالمه بل يجذبنا بسحره للغوص عميقاً و استخراج ما يمكن استخراجه من شفافية روحه .

ففي كلتا القصيدتين كانت ألفاظه تخدم الفكرة التي يسعى إليها بجزالة ووضوح و رمزية . فقد استعمل الكثير من الألفاظ التي تدل على خصوبة أرض دمشق و بخارست مثل: ( العشب , الماء , رابية , مراعي , نهر . الأشجار . حشائش , الزنابق , الأقحوان , مطرك ,إلخ ..)

و كلتا المدينتين رمز للمرأة / المدينة الطاهرة و العفيفة و العذراء  . رمز الخصوبة و الحياة و الديمومة التي يبحث عنها في جميع قصائده  . فإسلوب الرموز التي استعملها إن كانت إسلامية أو مسيحية ليست إلا أدوات أدبية صاغها بعبقرية و قدسية عالية بعيداً عن أي انتماء أو تعصب ديني .  وكانت كلتا المدينتين مساحة للتأمل و الصفاء الروحي و الصوفي .  فكان يحلق بنا إلى ماوراء الكون ثم يعود بنا إلى الواقع و يصور الأرض السفلية ثم يحلق  بنا ثانية إلى أرض دمشق و بخارست أرض الحب و السلام فروح الشاعر غارقة في التأمل و الروح هي الخيط الذي يقود إلى الخلود . و هي السعي في عالم المثل و هو كان يطوف بنا بروحه سعياً لتحقيق حلمه في كلتا المدينتين و لتحقيق مشروعه الثقافي  من أجل جمع الثقافات و بناء صداقات أوثق و أشمل بين الشعوب و ضرورة التلاقح الثقافي و الانفتاح .

أما أهمية  لجوئه للرمز فقد كان لفتح المجال للاستنتاجات وليطلق الحرية لمخيلة الفرد فينا في أن تحلق عالياً في سماء الفكر بحثاً عن الحقيقة . و كثرة الرموز و الصور البيانية التي استعملها بعبقرية فذة جعلتنا في كل مرة نقرأ فيها الكتاب نستخرج حكما و معاني جديدة , كما جعلتنا ندخل في عالم جديد و كون جديد – من رحلة صوفية إلى رحلة روحية أو سماوية أو فلسفية ثم يهبط بنا إلى الأرض لنرى الواقع بمرارته و يحلق بنا من جديد لأفق سماوية و فكرية و روحية . فكان الكتاب كصلوات أو تراتيل ترتل في قدسية تامة في معبد يدعى (معبد الحب ) و الهدف من هذه الصلوات أو التراتيل خير الإنسانية و التقائها بمحبة و تعايشها بسلام . فهو رسول الشعر الذي حمل رسالة المحبة و التسامح من أجل تآخي الثقافات و الحضارات المتناقضة .