القصة القصيرة جداً ..قرنفلة الحضور

محمود علي السعيد‏

القصة القصيرة جداً ..قرنفلة الحضور

محمود علي السعيد‏

القصة القصيرة جداً جنس أدبي جديد أطل باستحياء وخفر على يد نفر قليل جداً في الثلث الأخير من عقد الستينيات في رحاب بلاد الشام، أخصّ قلب كنعان منها أولاً، ثم اتسعت فتحة فرجاره لتشمل القطر العربي السوري ولحقتهما تباعاً أرض الرافدين والكنانة وأمصار المغرب العربي مشيراً بتواضع جم وغبطة عارمة إلى تجربتنا الريادية السبّاقة (تقنية ومصطلحاً ) في هذا المضمار، والتي استوقفت العديد من الأقلام النقدية المومأ إليها بالمهج (د. نعيم اليافي- د.سمر روحي الفيصل - د.علي حافظ - د. محمود سالم محمد- يوسف سامي اليوسف - محمد علي شمس الدين - رياض نعسان آغا- خيري عبد ربه - محمد غازي التدمري- سلامة عبد الرحمن- طلعت سقيرق- زياد محمد مغامس - محمد الراشد- صفوان صفر - باسم عبدو- محيي الدين مينو- على سبيل المثال)، واستمرت الخطوات على الإيقاع البطيء إلى أن بزغ عقد التسعينيات بصليات شمسه فانفجرت مستودعات القص المبتسر وقامت الساحة الأدبية ولم تقعد وطفق سيل عارم من كتاب هذا الجنس ومشايعيه يغزو أعمق النقاط و أدق المرامي وتدفقت المجموعات الأنيقة، وقد طرزت أغلفتها بمصطلح (قصص قصيرة جداً ) (Very Short Story) وأخذت المعارك النقدية تتصدر واجهة وسائل التوصيل وقنوات البث بين مؤيد ومعارض، شاجب ومبارك ومازالت حرارة وطيسها في ارتفاع، وسعة قفزاتها في تتابع وتواتر، وكان لمدينة حلب البيضاء القدحُ المعلّي في رفده مجرى هذا الجنس العَبِق بجداول ثرة، كان بودي التعريج على الأسماء، ولكن... أقول دون مصادرة قناعة أحد والاستيلاء على درر مصرف مقتنياته أو النيل ولو بأوهى خيوط الإشارة من مرتكز خواطره، وعلو منصته، وتفتق قريحته: ان القصة القصيرة جداً أضحت جنساً أدبياً متفرداً باستقلالية طاغية، له قوامه الخاص وخصوصيته المرموقة ومذاقه الجلي ووهجه الدافئ الأليف، بمنارة مرئية للقاصي والداني، الأعشى والمبصر، من المتابعين الجادين أصحاب الذائقة المدربة والمنطق الصائب أربأ أن أقول : السابلة وإن لم يتقعد منهجه وترسو قوارب نظريته بشكل مطلق ونهائي، أعرّج على بعض نقاط العلّام التي يشترط تواجدها في أصلاب النصوص المندرجة تحت سقيفته من منظور خاص: ?- التكثيف: وذلك بتوخي الاختصار والتلخيص اللافتين، والانتقاء المفرداتي الحاذق، والتوظيف الجمالي في عملية رصف اللّبنات والمداميك في معمار الطرح التشكيلي. ?- الزمان : برهة وقتيّة أو شذرة دقائقية أو لمسة دهرية أو زفرة واحدة فقط من عدّاد السيرورة والصيرورة الكونيتين أو قل : قبلة من شفة لحظة. ?- المكان : مساحة تويجة قرنفلة أو قطعة ضوء شرختها أصابع راقية من قرص الشمس أو ضربة فرشاة مصور متألق أو صدر حبة مطر صيفي، أو رقعة جدار عتيق ومسند

مخدة عشق أو.. ?- شعرية النص: امتطاء صهوة وسائل التبليغ الموارب التعبيرية من أنماط الصورة الفنية باعتماد الأقنعة والمجسات والانزياح بضروبه المتداولة ( المجازي - الإيقاعي- اللغوي- الدلالي) بدءاً بتسنم قمم الخطف الاستعاري واللمح الكنائي والتشبيهي من تشظيات وجوه موشور البيان والمعطى الطباقي وخمائر التورية من صليات البديع الجمالية وليس انتهاءً بالمجاز العقلي . ?- الحجم: توخي الحجوم التي لا تتجاوز سطورها مساحة راحة الكف وإن كنت أجزم أنني غير معني الآن بتحديدها درءاً لغائلة الوقوع في مطب الرجم بالغيب والتطلع المستقبلي الرجراج، قصدية إيصال الشحنة وضخ المعلومة وتوقيع الرسالة بأقصر الطرق وأنجعها دون الاكتراث بالترهل المجاني والإطالة المملة والثرثرة اللفظية وذلك بتبني (أس الكتابة وأسس القول). ?- القفلة الحادة : من أبجديات جماليات القص القصير جداً

وخلب مسروده القفلة الحادة الصادمة الغير متوقعة والضربة المدهشة القاضية (بالمفهوم الإيجابي ) بغية استمرارية التوهج في قرارة المتلقي وتناسق دوائر القراءات الدلالية ولسع حرارة الأثر. ?- الحدث: ليس بالضرورة القصوى والمطلب الملحّ تبؤر الحدث درامياً بوتيرة متأججة وتصاعد بنائي هرموني شاهق وتواشج سمفوني صاعق بل تكفي المفارقةالشكلانية المضمونية والعزف على وتر التصادمات المفرداتية والأنساق اللغوية والموسقة الداخلية والخارجية بمهارة أنامل ورجاحة عقل ونصاعة وعنفوان موهبة. ملاك القول : القصة القصيرة جداً وشقيقتها التوءم قصيدة النثر(شريطة التميز والسطوع والتجذر) قدر كتابي لمن يتطلع إلى جنة القص القادم وفردوس الشعرية المكتظ بالياقوت واللحاق بقطار العصرنة المقلع بمتوالية هندسية أخشى أن أقول عددية صوب الهدف المرتجى والرنو المقصود فالضغط الجوي الحياتي ومتطلبات عصر الاستهلاك وتسليع المناقب والحيوات القابض بسادية على مفاصل الجبهات وجمرات مواقد الفصول لم يبق فرصاً سانحة أو بحبوحة مقعد جلسات لمطولات الوجبات العقلية والوجدانية، الروحية والجسدية، المجردة والمشخصة (المقروءة والمرئية والمسموعة ) وإن كنت أقر بصماً بمشط الأصابع إنه ليس القدر الوحيد وبالتالي ليس كل ما يلمع من سرديات القص القصير جداً الذي اجتاح الشارع العربي دون مصدات أو كوابح جوهراً فغالباً ما تصمي فؤادك أو تشدُّ ذائقتك البصرية قطعة زجاج عجفاء أو كسرة معدن رخيص أفردتها عجلة العطالة في ركن مهجور.‏