التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة

(7)

ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

يتجه البحث في الفصل الحالي نحو تعميق محتوى الدلالة، والتنقيب عن أسس التحولات التي تطبعها عن طريق المجاز والاستعارة، والصور الشعرية البليغة. كما تسعى الدراسة إلى قراءة النص الشعري عند محمد بنعمارة انطلاقا من التطور الزمني المطبق في الفصل السالف، وتتميم العملية باستدراج كافة عناصر التحول انطلاقا من رصد أكثر شمولية، وقراءة نقدية عمودية للحقول الدلالية المستغلة.

فعلى خلاف ما قمنا به سابقا من التفسير الدلالي من خلال السير الأفقي للنصوص وإثبات مبدإ التحول؛ محاولتنا الحالية يتداخل فيها التحليل والتركيب، ذلك أنه من صلب الموضوع ذاته، سنخلص إلى أهم التيمات التي يستسيغها محمد بنعمارة، ويتمثلها أساسا في صناعته اللغوية والتعبيرية.

العلاقة الثنائية إذن بين اللغة باعتبارها ألفاظا من المعجم، وبين التعبير بوصفه مجموعة من الدلالات ، لا ترتبط في ما بينها دون قاعدة منطقية، بل بالعكس من ذلك تسري الدلالات في تنام وتطور من العام إلى الخاص، ومن الذاتي إلى الموضوعي. بمعنى أن الشاعر لا يستغل طاقاته الإبداعية دون نظر مسبق، أو ما يسمى اعتباطية اللغة.

إن لغة الشعر بذلك تنبع من عمق التجربة الشعرية التي يؤمن بها الشاعر، وتتجلى أيضا في ضوء الحقائق التي ينفعل بها ، ويستلهما لتكريس مبادئه، والإحاطة بكل ما يدور حوله. ومن ثمة يصبح المدلول الشعري خاصا به، منطلقا من ذاته إلى المتلقي.

يحدد جون كوهن هذه العلاقة بقوله:" إن المدلول الشعري ليس مستعصيا عن العبارة. فالشعر يعبر عنه بالضبط، والحق أن المدلول الشعري لا يمكن التعبير عنه في النثر، لأنه يسمو بالعالم المفهومي حيث اللغة تؤطر دلالتها. ليس الشعر اللغة الجميلة، لكن الشعر لغة يبدعها الشاعر لأجل أن يقول شيئا لا يمكن قوله بشكل آخر." [1]

هذا الأفق هو الذي سنح الفرصة أمام الشاعر كي يحقق عالمه الشعري الخاص. والشعر يحيا هذه السمة بالتخلص من المألوف وارتياد الجديد، ويفتح النص إلى ما لا نهائية الدلالات. وينتج الفكر والصورة الشعرية معا، " لأن شكل الكتابة عند الشاعر الحديث هو الذي يخلق فكرا، عالما غير متوقع. كأن اللغة هنا ليست المخلوقة، بل الخالقة، والكتابة / القصيدة ليست هنا  شكلا سابقا يحضن فكرة لاحقة. إنها تعبر عن شيء هو كل شيء، ولا تنغلق عليه، وإنما تفتحه إلى ما لا نهاية." [2]

إن العالم الذي اختاره محمد بنعمارة، لا يخرج في نظرنا عن تيمتين رئيسيتين:

أولاهما: الرؤية الإسلامية التي تحولت في ما بعد إلى تجربة صوفية، بتجلياتها الموضوعية والشكلية [3].

ثانيهما: مناجاة القصيدة والشعر، والحديث عن التجربة الشعرية باستخلاص الغايات والأهداف المتوخاة من العملية الإبداعية.

هذا لا يعني اكتفاء محمد بنعمارة بهذين العنصرين، لكن طغيانها على نصوص الشاعر وإيمانه بأفضليتهما، جعل شعره ملخصا لها، وإن تحدث عن قضايا واقعية فبصيغة تحويلية لدلالاتها إلى ذات المواضيع السالفة.

 وتعد تجربته - أيضا - من التجارب التي استطاعت تحويل بعض الدلالات من اعتباراتها السابقة إلى دلالات جديدة، تنهل من ذات الشاعر ومن ثقافاته ما يساعده على التعبير الجميل وغير المألوف.

وبما أن اللغة العربية تتسع لجملة من المجازات التي ذاع صيتها، فأصبحت متجاوزة ومألوفة، كالأسد دلالة على القوة، والسيف دلالة القطع وغيرها.. رغم ذلك فإن محمد بنعمارة اختطف من اللغة بعض الرموز وجعلها خاصة به، وملزمة لشعره من بدايته إلى آخر ديوان ( ليس أخيرا..). نذكر من بين ذلك، ألفاظا استمرت مع شعره وتحولت دلالاتها من قصيدة لأخرى كالنخلة، والحديقة، والورد، والبحر، والوطن، والطين، والصحراء ، واللون، والدم، والمطر، والحرف، وغيرها .. ومثل هذه الدلالات تصير خاصة بالشاعر ذاته:" ويشكل الاستعمال المتكرر للمجاز لدى الشاعر منظومة رمزية خاصة، فالصور المجازية التي نشعر بجدتها وابتكارها لدى شاعرنا في عمل من أعماله تغدو بعد ظهورها في أعمال تالية خصائص فنية خاصة… تتخذ شكل المجاز المرسل" [4]

لذا فسيكون عملنا منصبا على أكثرها انتشارا لتأكيد دور التحول عن طريق المجاز والاستعارة، والوقوف عند أهم الحقول الدلالية التي كانت مدار القول الشعري عنده.

بما أن التحليل بهذه الطريقة لا يسلم من النقد باعتباره يعتمد التأويل الدلالي، لأنه يصدر من عند القارئ. لكن الأمر يخرج نسبيا عن الخلط إذا ما كان السياق هو المهيمن على تأكيد العلاقة القائمة بين المعنى الأول ومعنى المعنى. وقد سبق التطرق لجزء من هذا الفعل، واستطعنا أن نصل إلى دلالات عميقة. لذا فإن الدلالة عند الشاعر هي بمثابة نسق متكامل ومنسجم داخل التجربة الشعرية.

يسلك البحث في هذا المجال سمة العمودية في التحليل، لذلك سنقوم بتتبع عناصر كل دلالة على حدة،  ثم البحث عن المعنى الأساس عند الشاعر.

وهنا لا بد من الإشارة إلى خاصية التحول الدلالي في تكوين التجربة الشعرية كما سلف الذكر. وقد عبر بعض النقاد عن هذا التحول في غير مجال الشعر [5]، يقول عبد الحميد عقار:" فالنص الروائي والأدبي عامة مزدوج الشفرة أو التسنين، لأنه يحقق ائتلافا بين المادة النسقية التي تمثلها اللغة الطبيعية، والمادة الخارجة عن النسق، والخارج – لغوية، والتي  تتمثل في السنن الثقافية والمعايير الاتفاقية، والتقاليد الأدبية الموروثة أو المكرسة والإيديولوجيا المندمجة في البنية اللغوية." [6]

من النثر إلى الشعر ندخل عالم اللغة الشعرية المنبثقة عن رغبة التحول، ربط العلاقة بالمتلقي، لإعمال الذهن من أجل تأويل الدلالات، والوقوف عند أهم الحقول التي كتب فيها الشاعر، وإعطاء الانطباع حول العملية الإبداعية وتشكلاتها. ولعل من مظاهر هذه العلائق سعي القارئ إلى طرح برنامج نموذجي لأهم التحولات الدلالية.

ومن أجل إدراك واع بخصوصية التجربة الشعرية وللأدوات الإجرائية التي توحي بإمداد النص حمولات معرفية ودلالية مرتبطة بالشاعر ذاته، وضمن علاقاته بتنظيرات معرفية خاصة بعلم الدلالة من جهة أخرى نكشف عن الحقول الدلالية في شعر محمد بنعمارة:" والحقل الدلالي Semantic field أو الحقل المعجميLexical field هو مجموعة من الكلمات ترتبط دلالاتها، وتوضع عادة تحت لفظ عام يجمعها… وهدف التحليل للحقول الدلالية هو جمع الكلمات التي تخص حقلا معينا، والكشف عن صلاتها الواحد منها بالآخر، وصلاتها بالمصطلح العام." [7]

              

[1] - جون كوهن: ( م- س) ، ص- 155.

[2] - أدونيس: الثابت والمتحول، ج / 3، ص- 315.

[3] - الموضوعية: تتعلق بأهم النصوص التي كانت تنهل من التعبير الصوفية صورتها، كالعشق الإلهي والكتابة بالدم، والفراشات و… أما الشكلية فتتلخص في شكل بعض القصائد التي كانت عبارة عن ابتهالات وأناشيد صوفية.

[4] - أحمد محمد قدور: صورة من تطور لغة الشعر العربي الحديث عن طريق المجاز، عالم الفكر، المجلد 20، العدد 3، أكتوبر- نونبر- دجنبر، 1989، ص- 190.

[5] - الإتيان بهذا الرأي لتأكيد دور التحولات الدلالية في كافة الأجناس الأدبية، وإن اختص الشعر بها فذلك لخصوصيته الفنية، والرواية مثلا إن دخلت مجال الشعرية استنبطت هذا المفهوم.

[6] - عبد الحميد عقار: الرواية المغاربية، تحولات اللغة والخطاب ، المكتبة الأدبية، شركة النشر والتوزيع، الدارالبيضاء، ط- 1، 2000، ص- 29.

[7]span> - أحمد مختار عمر: علم الدلالة، (م- س)، ص- 79-80.