قراءة في نونية المثقب العبدي
الذات المأزومة
د. ياسر عبد الحسيب رضوان
هل كان أبو عمرو بن العلاء البصري ، وأحد القراء السبعة المشهورين ، وشيخ الرواة [ ت154هـ ] محقًّا عندما قال : لو كان الشعر مثل قصيدة المثقب العبدي النونية ، لوجب على الناس أن يتعلموه " ([1]) ؟!! ما الذي أعجب أبا العلاء في القصيدة إلى هذا الحد الذي تمنى فيه أن يكون الشعر العربي كله مثلها ، وأن على الناس أن يتعلموه ؟!
إن هذه القصيدة شأنها شأن أشعار العرب في الجاهلية وشطرٍ من العصور الإسلامية من حيث البنية الفنية ، ومن حيث اختلاف مصادر الشعر العربي في عدة أبياتها ، وفي روايتها وترتيبها وألفاظها ، وإن كان من الحق القول : إن اختلاف الترتيب لم يكن ليخل ببنية القصيدة وبوحدتها النفسية والدلالية كما أن اختلاف رواية بعض الألفاظ لم يكن كذلك ببعيد من الأصل المتفق عليه لدى أكثر المصادر التي تناولت القصيدة ، وللقارئ الكريم أن يفيء إلى المصادر المثبتة في الهامش ؛ ليقف على ما نقوله بشأن الاختلاف في عدة الأبيات وترتيبها ورواية ألفاظها ([2]) 0
وإذا ما عدنا إلى تساؤلنا السابق حول علة استجادة أبي عمرو بن العلاء ، وحاولنا تحديد تلك العلة أو تلك العلل ، فلن يجدينا نفعًا سوى أن نغوص وراء القصيدة نتتبع الشاعر في مراحلها أو أقسامها ناظرين في البنية الدلالية والتصويرية ، ثم البنية الإيقاعية علنا نجد ما يبرر استجادة هذا العلامة اللغوي أبي عمرو بن العلاء 0
لقد تحدث المثقب العبدي في الأبيات الخمسة الأولى إلى المرأة المحبوبة فاطمة التي يبدو منذ البداية أنه مأزوم محزون مهموم من عزمها المحتم على البين والهجران ، ثم يدفعه الحديث عن إصرار المحبوبة على الهجر وصرم حبل وصاله إلى الحديث عن الظعن والظعائن ، وهو حديث يستغرق منه خمسة عشر بيتًا من الشعر هي من أجود ما قيل في الظعن من الشعر العربي ([3]) 0
ثم يتحدث الشاعر عن ناقته في واحد وعشرين بيتًا يقدم فيها صورة تكاد تكون متفردة لوصف الناقة في الشعر العربي ، ثم يصل إلى الغرض الرئيس من القصيدة وهو العتاب حيث يعاتب صاحبه الملك عمرو بن هند في ستة أبيات يكشف فيها عن همومه لما بدر من صاحبه مما تسبب فيما أصاب الصداقة بينهما من الكدر بعد المودة والهناءة التي لم يكن الشاعر لينكرها ، أو لينكر فضل صاحبه عليه ، وهو ما يجعلنا منذ هذا المدخل نشعر أننا أمام شخصية لديها من الوفاء الرصيد الثريّ ليس مع المحبوبة ، وليس مع الحيوان ـ الناقة ـ بل أيضًا مع الصديق 0
تلكم عدة أبيات القصيدة في المشهور من المصادر القديمة سبعة وأربعون بيتًا ، وثمة أبيات أُخر متفرقة منسوبة للمثقب في كثير من المصادر القديمة ، وهو ما كان سببًا في اضطراب عدة أبياتها ، ولم تكن التوجهات الحديثة بأحسن حالاً من المصادر القديمة التي أجمع أكثرها على هذا العدد من الأبيات ، لكننا مع المقرر التعليمي لا نقف إلا على اثنيْ عشر بيتًا من القصيدة ، تم اختيارها لتغذي فكرة التفكك واختفاء ما يسمونه الوحدة العضوية في القصيدة العربية القديمة ، وقد عفا الدهر على هذا المصطلح ، لتحل محله مصطلحات : الوحدة النفسية أو الفنية أو المعنوية أو الدلالية أو النصية وكلها نراها متحققة في هذا النص ، عندما نتخذ من المناهج النقدية الحداثية وما بعد الحداثية وسائل إجرائية لمدارسة مثل هذا النص الشعري 0
لقد قلنا إن الشاعر مأزوم مهموم ، ويبدو أن هذه الأزمة هي الخيط الرابط بين أجزاء القصيدة كلها ؛ ذلك أن " الأشياء في الشعر يلفت بعضها إلى بعض ، فالهموم تلفت إلى الناقة والناقة تلفت إلى الكون ، والكون يلفت إلى الذات " ([4]) وكأننا ندور مع الشاعر والقصيدة في دائرة مغلقة تبدأ من الذات المهمومة المأزومة وتنتهي بها لتتآزر جميعها على إبراز عمق الحزن المسيطر على الشاعر حتى خرجت كلماته متشحة بهذا الوشاح الحزين الذي ترك آثاره على الكون وما فيه ، وبرز ذلك من دون شك في حديث الناقة ، وحقق حضورًا واضحًا كذلك في حديث العتاب 0
وهذه الدائرة المغلقة الدالة على الوحدة أو التوحد نجدها في البيت الأول الذي يختم مصراعه الأول بالضمير العائد على الذات : متعيني ، وهو الضمير عينه الذي يُنهي به آخر بيت من القصيدة الكاملة وذلك قوله : نبئيني ، وللضمائر دور بارز في الترابط النصي والدلالي على مستوى البنية السطحية وكذلك على مستوى البنية العميقة للنص ، وذلك من خلال مرجعية الضمير ـ في الخطاب النحوي ـ تلك المرجعية التي نراها في القصيدة قد تواتر حضورها في خمسين موضعًا كلها تعود على الذات الشاعرة فاعلة كانت أو مفعولة ، وهو ما يشير إلى رغبة الشاعر في أن يمسك بطرف الخطاب وأن تكون له الأثرة بهذا الطرف ، وأن تكون الضمائر الأخرى من غير ضمائر الذات خادمة ومغذية لجو الحزن المسيطر على الشاعر 0
نص القصيدة المقررة :
أولاً : البنية الدلالية
|
قلق الذات وأحزانها |
|
أَفَاطِمُ قَبْلَ بَيْنِكِ مَتِّعِينِي |
وَمَنْعُكِ مَا سَأَلْتُكِ أَنْ تَبِينِي |
|
فَلاَ تَعِدِي مَوَاعِدَ كَاذِبَاتٍ |
تَمُرُّ بِهَا رِيَاحُ الصَّيْفِ دُونِي |
|
فَإِنِّي لَوْ تُخَالِفُنِي شِمَالِي |
خِلاَفَكِ مَا وَصَلْتُ بِهَا يَمِينِي |
|
إِذًا لَقَطَعْتُهَا وَلَقُلْتُ بِينِي |
كَذَلِكَ أَجْتَوِي مَنْ يَجْتَوِينِي |
|
لَعَلَّكِ إِنْ صَرَمْتِ الْحَبْلَ مِنِّي |
أَكُونُ كَذَاكِ مُصْحِبَتِي قَرُونِي |
|
تسلية الهموم بالمهموم |
||
فَسَلِّ الْهَمَّ عَنْكَ بِذَاتِ لَوْثٍ |
عُذَافِرَةٍ كَمِطْرَقَةِ الْقُيُونِ |
|
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ |
تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ |
|
تَقُولُ إِذَا دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي |
أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي |
|
أَكُلَّ الدَّهْرِ حَلٌّ وَارْتِحَالٌ |
أَمَا يُبْقِي عَلَيَّ وَمَا يَقِينِي |
|
العتاب المفارق |
||
إِلَى عَمْرٍو وَمِنْ عَمْرٍو أَتَتْنِي |
أَخِي النَّجَدَاتِ وَالْحِلْمِ الرَّصِينِ |
|
فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَخِي بِحَقٍّ |
فَأَعْرِفَ مِنْكَ غَثِّي مِنْ سَمِينِي |
|
وَإِلاَّ فَاطَّرِحْنِي وَاتَّخِذْنِي |
عَدُوًّا أَتَّقِيكَ وَتَتَّقِينِي |
يقفنا هذا النص المقرر من القصيدة أمام دائرة مغلقة تبدأ من الذات الشاعرة وتدور حولها وتنتهي بها ، لتكون هذه الذات صاحبة الخطاب والمسيطرة عليه ، حيث يمثل الضمير العائد على الذات الشاعرة في حاليْ الحضور ـ التكلم والخطاب ـ والغياب ـ ضمير الغائب ـ ثلاثًا وثلاثين مرة ، إذا توزعت على الأبيات ، فسوف يمثل حضورًا واضحًا في كل بيت ، ومن ثمة نقول إن النص يمثل أنةًّ من أنات الذات الشاعرة التي تستأثر بالخطاب في تسعة وعشرين موضعًا يتكلم فيها ، وموضعًا ليتم الثلاثين مخاطَبًا ، ثم ثلاثة مواضع يُتحدَّثُ فيها عنه بضمير الغائب ، ثم لا يقنع بهذه الأثرة المغذية لفكرة التوحد في الهموم ، وكأن أحدًا آخر لا يشاركه ، ولا يشبهه في همومه ، وإنما راح يوظف الذوات الأخرى ـ المرأة والناقة والصديق ـ لتمثيل هذه الهموم والأحزان على مستوى الخطاب الشعري 0
عندما نقسم النص ـ إجرائيًّا ـ إلى أفكارٍ رئيسة نجدنا أمام العناوين الثلاثة التي عنونا بها للأبيات ، حيث ارتكزت على ثلاثة محاور دلالية ، أولها قلق الذات وأحزانها ، ثم ثم الرغبة في تسلية تلك الهموم والأحزان بوسيلة التسلية المعهودة عند الشاعر القديم وهي الناقة ، وأخيرًا عتاب الصديق الذي يبدو أنه الغرض الرئيس للنص 0
وإذا وقفنا عند الفكرة الأولى حيث قلق الذات الشاعرة وهمومها وأحزانها التي نرجعها بلا شكٍّ إلى المرأة التي يبدو أنها قد عزمت أمرها على الرحيل والفراق ، ومن ثمة كان هذا العتاب الذي بدا شفيفًا رفيقًا رقيقًا عندما استخدم الشاعر أسلوب النداء بالهمزة الدالة على قرب المنادَى من قلبه ، ولم يقنع بهذا ودلالته على المودة التي يكنها للمرأة ، وإنما راح يرخم النداء ترخيمًا بحذف تاء التأنيث من فاطمة تليينًا للكلام وتدليلاً للمرأة لعلها تتراجع عن عزيمتها المفارقة كأمنية خفية يكنها القلب المكلوم ، ولكنه لم يبح بها وإنما أردف النداء بطلب الإمتاع ، والمتاع هنا وداعها إياه وتسليمها عليه ([5]) أو إمتاعها إياه بحديث أو بوعد ، وفي سياق اللين وعدم القسوة في الخطاب يُعلمها أن رفضها طلبه متجسد في فراقها : أن تبيني 0
ويرفع نبرة الخطاب المعاتب في أسلوب النهي الذي يبدأ به بيته الثاني عندما ينهاها عن أن تعده بالوعود الكاذبة ، تلك الوعود الشبيهة برياح الصيف التي لا تأتي بخير ، وإنما عادة ما تصحبها الأتربة وأن الخير يقل فيها ويكثر غبارها ولا تجلب مطرًا ([6]) وكأن وعودها الموصوفة بالكذب لم تجن عليه إلا كل شرٍّ ، فهي تذهب أدراج الرياح ولا خير فيها ، ولذلك ترتفع نبرة العتاب وترتفع حتى الذروة التي تبين في المعاملة بالمثل ، تظهر في الصرامة والحزم الذي يكون عليه الشاعر عندما يؤكد صرامته في قطع يده الشمال إذا لم تطاوعه وخالفته مثلما خالفته صاحبته ؛ لأنه يكره من يكرهه ـ كذلك أجتوي من يجتويني ـ ويختم أبيات هذه الفكرة مؤكدًا على اعتزازه بنفسه وأنفته وعدم رضائه بالذل والخضوع لمحبوبة مفارقة ، بأنه يقطع حبلها مثلما قطعته ـ صرمت الحبل مني ـ وتصحبه نفسه في هذا القطع وتطاوعه ولا تخالفه 0
وما دام الحزن والهم وما يصحبهما من قلق الذات الشاعرة بسبب هجران الحبيبة المحتوم فذاك ما ينقلنا إلى الفكرة الثانية وهي رغبة الشاعر في تسلية همومه ، ونسيانها بالالتجاء إلى الناقة وهي أشهر وسيلة شعرية عرفها الشعراء العرب لتسلية الهموم وتمضيتها ، لارتباط الناقة الوثيق بحياة العربي القديم ؛ لأهميتها في ضرورات حياتهم ، أو لأنها الرفيق الذي لا يعرف الملل والكلال في رحلاتهم ، وقد أعطوها هالة من القداسة المرتبطة بالأصل الديني حيث ناقة صالح عليه السلام وقصتها التي كانت معروفة في الكتب الدينية القديمة ، فضلاً عن ذكرها في القرآن الكريم ، وقد تجسد اهتمامهم بالناقة في كونها صارت مضرب بعض الأمثال ، فكانوا يقولون : أشأم من أحمر عاد أو أشأم من ناقة البسوس أو أشأم من ورقاء ([7]) بل كانوا يتشاءمون من الشهر الذي تتلقح فيه الناقة وهو شهر شوال ، ويكرهون تزويج أولادهم وبناتهم فيه ، بل وأكثر من ذلك فقد قيل في الأساطير العربية القديمة إن الناقة هي ربة الحرب ، وبلغ من تلك الأساطير أن بعض العرب كان عند موته يطلب من أهله أن يدفنوا معه راحلته ليُحشَر عليها 0
ولكننا مع قصيدة المثقب العبدي نبحث عن كيفية تسلية الشاعر همومه بهذه الناقة ، وقد كانت التسلية تتم بإحدى طريقتين أو صورتين : الأولى بالرحلة في الصحراء وتأمل الكون وما يضطرب فيه ، والتماس العزاء مما يرى والتسرية عن النفس ، والثانية باتخاذ الناقة قناعًا أو معادلاً شعريًّا له يلقي عليه كثيرًا مما في نفسه فيتخفف من وطأة مشاعره ([8]) وكلتا الطريقتين وجدناهما في لوحة الناقة من النص :
في البيت الأول من اللوحة نجد الشاعر يفيئ إلى ناقته ليقوم بها برحلة بعيدة في محاولة للابتعاد عن موطن الهموم والأحزان ، فيقول :
فَسَلِّ الْهَمَّ عَنْكَ بِذَاتِ لَوْثٍ |
عُذَافِرَةٍ كَمِطْرَقَةِ الْقُيُونِ |
واصفًا ناقته بثلاثة أوصاف تئول جميعها إلى الوصف بالقوة والجلد ، فهي ذات لوث : أي شدة وقوة وضخامة ، وهي عذافرة : صلبة عظيمة شديدة وثيقة الظهر ، ثم أكد هذين الوصفين بتشبيهها بمطرقة القيون وهو الحداد ، ولا تكون مطرقته إلا من الحديد ، ومن ثمة ندرك قيمة التشبيه في التأكيد على أهمية توفر هذا الأوصاف في الناقة التي سوف يجوب بها الصحراء لتسلية همومه وأحزانه ، بيد أنه قد أرهقها من طول السفر والترحال ، حتى بدت الناقة مهمومة محزونة تشكوه إليه في ثلاثة أبيات هي من أبدع ما قيل في وصف الناقة وقد أرهقها طول السفر :
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ |
تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ |
تَقُولُ إِذَا دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي |
أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي |
أَكُلَّ الدَّهْرِ حَلٌّ وَارْتِحَالٌ
|
أَمَا يُبْقِي عَلَيَّ وَمَا يَقِينِي |
إن أول ما يلفت في هذه الأبيات الثلاثة هو أنسنة الناقة وتشخيصها في تأوُّهها بآهة الرجل الحزين الذي يستدعي من محلل النص الطريقة الثانية لتسلية الهموم بالناقة التي تُتخذ معادلاً شعريّا للشاعر يُضفي عليها صفاته وحالته النفسية ، " ولا شك أن تأوّه آهة كلمات فيها عمق انفعالي ينسجم مع حالة الشاعر ، وليس غريبًا أن يكون الرجل الحزين هنا هو الشاعر نفسه الذي يتأوّه لهجران المحبوبة أو للجفوة مع الصديق ـ في الأبيات الأخيرة ـ ، وترجيحنا التوحد الوجداني بين الشاعر وناقته المعادل الشعري له مبنيٌّ على أن حديث الشاعر إلى الناقة وحديثها إليها يكاد يكون نادرًا في الشعر القديم ، لأن إبداع الشعراء قد كان منصبًّا على الوصف الجسدي للناقة ([9]) وهو ما لم يهمله المثقب في قصيدته 0
وتتحول آهتها إلى الكلام عندما درأ لها الوضين ـ حزام الرحل ـ فالفعل درأ تتراوح دلالاته بين : أزلته ونحيته ومددته وشددت به رحلها ، وبين دفعته وقدمته ، وعندما تتكلم بالشكاية تتوجه بالشكاية إلى النفس ؛ لأنها لم توجه الكلام إليه بضمير يعود عليه ، وإنما هو الذي سمعها ، وكأنه قد كان يشعر بحالتها النفسية ، فحكى عنها ما تريد أن تقول لو كانت تستطيع الكلام ، ولكن ما الذي تقوله الناقة ؟ يجيء الجواب في الاستفهام التعجبي التقريعي الذي يحمله عجز البيت الثاني : أهذا دينه ـ عادته أو دأبه وديدنه ـ وديني ـ عادتي وحالتي معه ـ والاستفهام في البيت الثالث : هل الدهر أو الزمن تقضيه وإياه في حَلٍّ وارتحال ؟ وتزيد في تعجبها وتقريعها عندما تأتي بالاستفهام في العجز : ألا يبقي عليها ؟! ألا يقيها من الهلاك ؟! 0
ونجد للنحاة دورًا في توجيه الدلالة في البيت الأخير من لوحة الناقة ، فقد نصبوا كلمة كلَّ على الظرفية ، والتقدير : هل نقضي الدهر كله في حل وارتحال ؟ وتكون الدلالة من ثَمّ مرتبطة بالظرفية الزمانية التي تأخذ قيمتها من تقديمها على الفاعل حلٌّ المكتسب للفاعلية لاعتماده على الهمزة الاستفهامية ، أو أنها تأخذ قيمتها من خلال تقديمها على المبتدأ باعتبارها وما بعدها شبه جملة مقدمًا على المبتدأ حلٌّ المرفوع بالابتداء في القول الآخر ، والمقدم في اللفظ مقدم في الدلالة عند البلاغيين وعند علماء النفس كذلك 0
ومنهم من رفع كلمة كل على الابتداء والألف للاستفهام ، والتقدير : هل كل الدهر حل وارتحال ؟ ومن ثمة تكون الدلالة عندئذٍ متعلقة بفكرة العلاقة الإسنادية بين المبدأ والخبر ، حيث إسناد الخبر للمبتدأ ، ولعل الدلالة الظرفية في التوجيه النحوي الأول أنسب للحالة النفسية التي بدت عليها الناقة المأزومة من كثرة الترحال 0
وأما رفع كلمة حل فإنه على الابتداء ، ويكون خبرها مقدمًا عليها وهو كل الدهر وللتقديم والتأخير دلالاته في لفت المتلقي إلى المقدم أو المؤخر ، وفي كلتا الحالتين إشارة إلى عمق حزن الناقة وشدة إرهاقها ، ويجوز أن تكون كلمة حَل مرفوعة على أنها فاعل بالظرف لاعتماده على الهمزة وتكون دلالتها مرتبطة بالتقديم والتأخير الذي أشرنا إليه 0
ونلمح في استفهام الناقة شيئًا من القلق والاضطراب المتساوق مع حالتها النفسية ، ومبعث الشعور بالقلق والاضطراب هو الحضور الواضح لأسلوب التضاد بين كل من : حل وارتحال ، يبقي علي وما يقيني ، والتضاد أو الطباق يبرز المعنى ويوضحه عند البلاغيين ، ويكشف عن حالة القلق والاضطراب عند علماء النفس 0
وعندما ننتقل إلى اللوحة الأخيرة وهي لوحة العتاب المفارق التي يبدو أنها الغرض الرئيس من النص حيث يتوجه بالعتاب إلى الملك عمرو بن هند وكانت بينهما مودة كفيلة بأن يرتحل إليه على ناقته ، وذلك ما يشير إليه البيت الواحد والأربعون من القصيدة الذي يقول فيه المثقب ([10]) :
فَرُحْتُ بِهَا تُعَارِضُ
مُسْبَطِرًّا |
عَلَى صَحْصَاحِهِ وَعَلَى الْمُتُونِ |
يقول المثقب في الأبيات الأخيرة :
إِلَى عَمْرٍو وَمِنْ عَمْرٍو أَتَتْنِيي |
أَخِي النَّجَدَاتِ وَالْحِلْمِ الرَّصِينِ |
فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَخِي بِحَقٍّ |
فَأَعْرِفَ مِنْكَ غَثِّي مِنْ سَمِينِي |
وَإِلاَّ فَاطَّرِحْنِي وَاتَّخِذْنِي |
عَدُوًّا أَتَّقِيكَ وَتَتَّقِينِي |
لقد ذهب بناقته إلى عمرو ومنه أتتْ هذه الناقة في قول التبريزي المشار إليه في الهامش ، ولعمرو هذا أفضال على الشاعر ، فهو صاحب النجدات ـ الصلات والمساعدات ـ وهو صاحب الحلم الرصين الثابت المحكم ، ويبدو أنه قد حدثت من عمرو بعض أمور أزعجت الشاعر ، فأخذ يخالف نبرة المدح في البيت الأول هنا إلى نبرة المعاتب المصر على الفراق ، فهو يخيِّرُه بين أمرين يشير إليهما البيتان الأخيران : أولهما أن يكون أخاه بحق مراعيًا حق الأخوة ، ومن ثمة يستطيع الشاعر أن يعرف أو يميز بين نصحه وغشه ، وثانيهما أن يَطَّرِحَه ـ بتشديد الطاء وفتحها ـ أي يُبعده ويتركه ؛ ليكون عدُوًّا يتقي ويتجنب كل منهما الآخر 0
ثانيًا : البنية التصويرية :
قلنا إن الشاعر مهموم ومحزون أو مأزوم ، وسبب أزمته النفسية تلك الجفوة التي حدثت بينه وبين صديقه عمرو بن هند بعد المودة والصفاء ، ومن ثمة بدا كل شيء في القصيدة مهمومًا أو باعثًا على الهمّ والحزن ، فالحبيبة أصرت على الفراق وأخلفت معه وعودها ، والناقة لم تسعفه على تسلية الهمِّ ، وإنما زادته حزنًا بأحزانها وشكواها ، لكل ذلك نراه قد لجأ في صوره الفنية أو البلاغية إلى التشخيص ، عله يجد الشخص الذي يجد فيه ما يعينه على همومه وأحزانه ، نلمح ذلك في قوله من البيت الثاني : مواعد كاذبات حيث الاستعارة المكنية التي يشبه فيها المواعد بإنسان وحذف المشبه به وأتى بوصف من أوصافه وهو الكذب ؛ إمعانًا في تشخيص المواعد ، وأنها لا تقلُّ خُلفًا للوعود وكذبًا من صاحبه عمرو ، ويصور الرياح بإنسان يحمل هذه المواعد الكاذبة من أمامه ، وفي البيت الثالث يصور شماله بإنسانٍ يخالفه ولا يطاوعه ، ثم تشخيصه للناقة برجلٍ يتأوَّه ، وبأنها تقول وتتكلم عندما يدفع إليها حزام الرحل : أما يبقي عليّ وما يقيني ؟! ، ويلجأ إلى الاستعارة التصريحية في البيت الخامس عندما يشبه الوصال بينه وبين محبوبته بالحبل المقطوع ، وهو تجسيد لهذا الوصال بصورة الحبل الذي رثّ وانقطع 0
ويلجأ الشاعر إلى التشبيه ليغذي به أو يعمق به جو الحزن المسيطر عليه ، فهو في البيت الثاني يشبه مخالفة شماله بمخالفة المحبوبة ، ونلحظ هنا اتفاق المشبه والمشبه به في الجذر اللغوي ، وفي ذلك دلالة على التأكيد المرجو من التشبيه ، ويرتب على هذا التشبيه قطع يده ، ويشبه إصراره على البين والفراق الذي بدأته المحبوبة بأنه يجتوي ـ يكره ـ من يجتويه ، وفي البيت السادس يشبه قوة الناقة وصلابتها بقوة وصلابة مطرقة القُيُون 0
وإذا كان ما سبق الصور الشعرية الجزئية ، فإن الشاعر قد نجح في رسم لوحتين فنيتين ، أو كليتين ، اتكأ فيهما على تكنيك الحوار الذي يستدعي حركية شعرية ، تقوم فيها كل لوحة بدورها في تعميق الجراح في الذات الشاعرة ، وإذا نظرنا إلى اللوحة الأولى ، وهي الحوارية بين الشاعر والمحبوبة فاطمة ، تلك الحوارية التي يبرز فيها الصوت ماثلاً في : النداء ـ أفاطم ـ وما يستدعيه من الجملة الندائية التي تقف فيها المرأة مستمعة منصتة بدلالة ضمير الخطاب ظاهرًا كان ـ الكاف + ياء المخاطبة أو مضمرًا ـ فلا تعدي ـ ثم يبرز في هذه اللوحة العنصر الثاني وهو عنصر الحركة التي تبرز مع البيْن اسمًا وفعلاً آنيًّا ، ثم رياح الصيف وما تحمله من العنف والشدة ، فضلا عن الدلالات التي ارتبطت بها هذه الرياح ، أما العنصر الثالث من عناصر اللوحة الكلية وهو اللون ، فربما كان مختفيًا وراء دلالات ألفاظ الصيف والرياح ، والدماء التي تستعيها حركية القطع في قوله : إذًا لقطعتها 0
أما اللوحة الثانية ، فهي لوحة الناقة ، وهي في النص أربعة أبيات اتكأت كذلك على تكنيك الحوار الذي يقسمه الشاعر قسمة عادلة بينه وبين ناقته ، إذ يستأثر هو ببيتين ، وهي بالبيتين الأخيرين مع ملاحظة أنه المتكلم على لسانها كما أشرنا من قبل ، بيد أننا هنا نقف أمام اللوحة الفنية التي يبرز في الصوت من خلال الحوار المشار إليه ، ويبرزو فيها اللون من خلال الليل بدلالته على السواد المرتبط بحالة الحزن والهمّ المسيطر على الشاعر وناقته وكذلك يبدو هذا السواد في مطرقة القيون ، التي تستدعي منظر الحداد وهو يتابع الطرق على الحديد بالحديد ، وكأن تتابع الطرق على الحديد الصلب شبيه بتتابع طرق الهموم نفس الشاعر ، ثم نصل إلى عنصر الحركة التي تبدو مع : قمت ، أرحلها ، درأت ، حَلٌّ ، ارتحال ، يبقي علي ، يقيني ، ومن تآزر هذه العناصر الثلاثة تبدو اللوحة الفنية بدلالتها على الحالة النفسية للشاعر من ناحية ، وللناقة من ناحية أخرى 0
ثالثًا : البنية الإيقاعية :
اتخذ الشاعر من بحر الوافر إطارًا إيقاعيًّا نظم عليه تجربته الشعرية الحزينة حيث تتميز موسيقاه بالصخب المناسب لفورة الغضب المسيطرة عليه ، وهذا البحر وما فيه من تدفق مستمد من أصله وهو بحر المتقارب ، إلا أن نغمه ينبتر في آخر كل شطر ـ بحذف السبب الخفيف من آخره وتسكين ما قبله ـ وهذا الانبتار شديد المفاجأة ، وله أثر عظيم في نغمة الوافر ؛ إذ يكسبها رنة قوية ليست في المتقارب ، وهذه النغمة القوية بالطبع تسلبه مزية الإطراب الخالص الذي في المتقارب ولكنها تعوضه تعويضًا عظيمًا عن هذا النقص بأنها ترشحه للأداء العاطفي ، سواء كان ذلك في الغضب الثائر والحماسة أم في الرقة الغزلية والحنين ([11]) 0
وإلى جانب هذا الإطار الموسيقي الخارجي ، نجد من ظواهر الموسيقى الداخلية ما يعين على هذا الجو الحزين ، نلمح ذلك في التصريع الذي يلجأ إليه بين شطريْ البيت الأول ، وشطريْ البيت الرابع ، والجناس بين كلٍّ من : تعدي ، مواعد – تخالفني ، خلافك – تأوه آهة ، والتصدير أو رد الأعجاز على الصدور ([12]) حيث تقع إحدى الكلمتين المكررتين في موقع ثابت وهو العجز أو موقع القافية من البيت ، بينما تتحرك الكلمة الثانية نحو صدر البيت متخذة موقعها في المساحة المتبقية من البيت فيما قبل القافية ، والإيقاع هنا إيقاع موقعي " لأن الموقع الذي يرد فيه يحدد القيمة الصوتية والدلالية والنمط التكراري الذي ينتمي إليه " ([13]) لأن الأنماط التكرارية للتصدير عند البلاغيين العرب كانت خمسة أنماط ظهر منها في نص المثقب العبدي بصورة كبيرة النمط التالي :
ـــــــــــــ ـــ(000)ــــ(000) من ذلك قوله في البيت الرابع من النص
إِذًا لَقَطَعْتُهَا وَلَقُلْتُ بِينِي |
كَذَلِكَ أَجْتَوِي مَنْ يَجْتَوِينِي |
حيث نجده يكرر الفعل أجتوي مرة مسندًا للذات الشاعرة ، ومرة أخرى مسندًا إلى الآخر عامة والمحبوبة خاصة ، والقيمة التكرارية هنا هي التأكيد الدلالي على مجازاة الآخر من جنس عمله ومن ثمة الإصرار على تنفيذ ما اتخذه من قرار ، أما القيمة الإيقاعية ، فإنها تكمن في التكرار الصوتي لمجموعة الأصوات ، وهذه الصورة الإيقاعية للتصدير ، أو لرد الأعجاز على الصدور نجدها في قوله في البيت الثامن :
تَقُولُ إِذَا دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي |
أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي |
وقوله في البيت الثاني عشر :
وَإِلاَّ فَاطَّرِحْنِي وَاتَّخِذْنِي |
عَدُوًّا أَتَّقِيكَ وَتَتَّقِينِي |
ومع الجناس والتصدير باعتبارهما من الحسنات البديعية ، يجيء الطباق بدلالته على القلق والاضطراب الموائم لحالة الحزن ، فنجد الطباق بين : شمالي ، يميني في البيت الثالث حل ، ارتحال في البيت التاسع ، غثي ، سميني في البيت الحادي عشر 0
وإذا تركنا هذه الظواهر الدلالية المرتبطة بالدوالّ اللغوية أو الكلمات ، وألقينا نظرة على الأصوات المفردة ، فإننا سوف نلحظ تكرارًا لافتًا لمجموعات صوتية من مثل أصوات المدّ واللين الألف والواو والياء ، حيث تتكرر الألف على مستوى الأبيات جميعها ثلاثين مرة ، والياء تتكرر إحدى وأربعين مرة ، بينما تكررت الواو سبع مرات ، وهذه المجموعة الصوتية ـ المدّ واللين ـ تمثل القيمة العليا في الوضوح السمعي للأصوات ، فضلاً عن كون صوت الألف المتكرر ثلاثين مرة يستدعي إطالة الصوت في حالات الحزن والغضب ، وهو ما يتناسب وحالة الشاعر العاطفية ، وكذلك صوت الياء بتكرره الكبير هذا ، فإنه يناسب حالة الانكسار الحزين وارتباطها بالذات ؛ إذ يرتبط هذا الصوت لغويًّا ودلاليًّا بالمتكلم ـ ياء المتكلم ـ أي تخصيص التجربة 0
ومن الأصوات التي مثلتْ حضورًا في الأبيات صوت الهاء الذي تكرر إحدى عشرة مرة ، وهو من الأصوات المهموسة المكون الأساسي لبعض الدوال الانفعالية مثل : آه ، ويه ، أوّاه ، هيا ، ها ، واه ، وأصوات هذه الدوال الانفعالية " قصيرة تعبر عن التوجع أو الدهشة أو الألم أو ما إليها من الوجدانات العابرة " ([14]) ومرات التكرار نفسها ـ إحدى عشرة مرة ـ يأتي عليها صوت الفاء المهموس ، وهو صوت يتساوق وفحيح الرياح المغبرة التي أشبهت مواعد المحبوبة الكاذبة 0
وعلى هذا النحو من التآزر الإيقاعي والدلالي والتصويري والإيقاعي للأبيات أمكن للشاعر أن يرسم صورة فنية لتجربته الإبداعية التي بدت متوحدة رغم تعدد المحاور الدلالية التي ارتكزت عليها الأبيات جميعها.
[1] - ابن قتيبة الشعر والشعراء 1/395 0
[2] - نحيل القارئ الكريم على المصادر التالية : ديوان شعر المثقب العبدي – تحقيق وشرح وتعليق حسن كامل الصيرفي ص 124- 215- مع الهوامش التي وضعها المحقق – ط2/1997م- معهد المخطوطات العربية – القاهرة – شرح اختيارات المفضل للخطيب التبريزي – تحقيق د/ فخر الدين قباوة 3/1246- 1268- ط2/1987م- دار الكتب العلمية – بيروت – منهى الطلب من أشعار العرب لابن المبارك – تحقيق وشرح د/ محمد نبيل طريفي 4/13-23- ط1/1999م- دار صادر – بيروت – خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب للبغدادي تحقيق وشرح عبد السلام هارون – الأجزاء 1-2-6-7-9-11 وانظر فهارسها – ط4/1997م – مكتبة الخانجي – القاهرة – أمالي اليزيدي ص111-116- ط1/1948م – مطبعة مجلس دائر المعارف العثمانية – حيدر آباد – الحماسة البصرية – علي بن أبي الفرج بن الحسن البصري – تحقيق وشرح د/ عادل سليمان جمال 1/126-128 ، 388-389- ط1/1999م – الخانجي – القاهرة 0 إلى جانب المصادر الموجودة في تلك المراجع 0
[3] - الشمشاطي : الأنوار ومحاسن الأشعار 1/380 0
[4] - د/ وهب رومية : شعرنا القديم والنقد الجديد ص 183 0
[5] - الديوان – هامش ص 136 0
[6] - التبريزي : شرح اختيارات المفضل 3/1247 0
[7] - حمزة بن الحسن الأصبهاني : الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة 1/235 0
[8] - د/ وهب رومية : شعرنا القديم والنقد الجديد ص 183 0
[9] - د/ موسى ربابعة : الشعر الجاهلي : مقاربات نصية ص 92 0
[10] - التبريزي : شرح اختيارات المفضل 3/ 1265 ، تعارض : تباريه وتسير بإزائه – مسبكرًّا : طريقًا ممتدّأ أ و طريق مسترسل معتدل – الصحصاح : كل ما استوى من الأرض وجرِدَ – المتون : جمع متن وهو ما صلُب من الأرض وغلظ 0
[11] - د/ عبد الله الطيب : المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها 1/ 332 0
[12] - ابن رشيق القيرواني : العمدة في صناعة الشعر ونقده 2/3 0
[13] - د/ ياسر عبد الحسيب رضوان : لسانيات النص – دراسة في شعر الصنعة بين الجاهليين والمخضرمين 1/53 0
[14] - د/ حسن ظاظا : اللسان والإنسان ص 31.