تلقي النص الشعري عند المبرد
من خلال كتابه"الكامل"
المختار السعيدي ( تازة – المغرب )
يمكن تصنيف النص الشعري في كتاب " الكامل " إلى صنفين رئيسين قد يتداخلان في ما بينهما ، حتى يأخذ أحدهما خصائص الآخر :
الصنف الأول يكون فيه الشعر في خدمة اللغة ، إذ يقف المبرد عند كلمة غامضة أو تحتمل عدة قراءات ، و يناقشها من جوانبها اللغوية المختلفة لتحقيق ما هدف إليه من تفسير ( كلام غريب أو معنى مستغلق )1، و يأتي بشواهد شعرية غالبا ما تكون أبياتا مفردة ، لكنه في أحيان كثيرة يميل إلى الاستطراد ، بل قد يذهب به الكلام إلى إيراد المقطوعة تلو الأخرى ، ثم يورد بعض الأشخاص الذين تتضمنهم المقطوعة ـ خاصة إذا تعلق الأمر بغرضي المدح و الهجاء ـ و يأتي بأخبارهم ، و ما ارتبط بهم من أشعار و هكذا ....
و لعل هذه السمة : سمة الاستطراد ، كانت شائعة آنئذ ، حيث يقول عمر الدقاق : ( و في كتاب الكامل ما في كتب الجاحظ من غلبة الاستطراد عليه )2، و ربما كانت تلك السمة مرآة يعكس فيها المؤلف تنوع معرفته كما يقول الطاهر أحمد مكي : ( يحمل كتاب الكامل طابع العصر الذي ألف فيه فهو يميل إلى الاستطراد ، و ينتقل من قضية ،إلى أخرى لأدنى ملابسة ، و تجاوز دوره في النصوص الأدبية الجمع و الاختيار ، إلى الشرح اللغوي و التصويب النحوي ، و تتبع دلالات اللفظ الواحد في وجوهها المختلفة عند جمهرة الأدباء و الشعراء )3
أما الصنف الثاني فهو الذي يورد فيه المبرد مختارات استحسنها و رآها جيدة ، و هذا ما يثير السؤال الأساسي عن نظرة المبرد إلى الشعر الحسن ، باعتبارها المفتاح الذي يوصلنا إلى إدراك سر اختيار بعض النصوص ، فمن المؤكد أن أبا العباس لا يخرج عن أفق الانتظار الذي رسمه نقاد المرحلة في نظرتهم إلى الشعر ، كالمقاربة في التشبيه ، و إصابة الحقيقة ، إذ يقول : ( و أحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبه ، و أحسن منه ما أصاب به الحقيقة ، و نبه بفطنته على ما يخفى عن غيره ، و ساقه برصف قوي و اختصار قريب )4
فهو يركز على الوضوح و إصابة الحقيقة حيث يقول معلقا على بيت قيس بن معاذ :
( أشوقا و لما تمضي لي غير ليلة رويد الهوى حتى تغب لياليا
هذا من أحسن الكلام و أوضحه معنى )5
و هذا ما أدى به إلى أن يعقد بابا خاصا للتشبيه معطيا الأولوية للقدماء ثم المحدثين حيث يقول : ( بعض ما مر للعرب من التشبيه المصيب ، و للمحدثين بعدهم )6
و قد يطرح هذا النص موقف المبرد من أشعار الفريقين ، بحيث يظهر بعض التناقض ، فهو حينا يختار أشعار المحدثين لأنها أنسب بالعصر و بالتالي يحتاج إلى التمثل بها : ( هذه أشعار اخترناها من أشعار المولدين حكيمة ، مستحسنة ، يحتاج إليها للتمثل لأنها أشكل بالدهر . و يستعار من ألفاظها في المخاطبات و الخطب و الكتب )7
وهو حينا يلمز المحدثين بالسخف و إن أجادوا في بعض المقطوعات قائلا : ( فهذه قطعة من التشبيه غاية ، على سخف كلام المحدثين )8، ثم يتراجع في الجزء الأخير عن الحط من قيمة أشعار المحدثين و يرى أن تأخرهم الزمني ليس عيبا : ( و قال بعض المحدثين و ليس بناقصه حظه من الصواب أنه محدث )9
و في اعتقادي أن المبرد كان يتنارعه أمران في هذا الحكم غير الحاسم ؛ فمن جهة هناك التصور الشائع حول إجادة القدماء و تأخر المحدثين ، و هناك من جهة ثانية الذوق الشخصي الذي يستحسن هذه الأشعار التي تناسب العصر ، فهو كثيرا ما يعبر عن استحسانه دون تعليل كقوله: ( و من التشبيه العجيب)11وقوله : ( و مما استطرفنا من شعر المحدثين)12؛و إن علل فدون إطناب كقوله معلقا على بيت امرئ القيس :
إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح المفصل
( و قد أكثروا في الثريا ، فلم يأتوا بما يقارب هذا المعنى ، و لا بما يقارب سهولة هذه الألقاظ )13
و يبدو أن أبا العباس كان حريصا على إمتاع القارئ و تجديد نشاطه ، فهو يحرص على الأشعار التي يتمثل بها و الطريفة النادرة ؛ كما فعل عند اختياره للمراثي : ( و المراثي كثيرة كما وصفنا ، و إنما تكتب منها المختار و النادر و المتمثل به السائر)14لاسيما و أن المبرد قد وجد أمامه كما كبيرا من الأشعار في هذا الباب كما يشي بذلك قوله : ( لم يُقل في شيء قط كما قيل في هذا الباب ؛ لأن الناس لا ينفكون من المصائب ) 15
و الأمر نفسه يتكرر عند حديثه عن الخوارج ، فهو يلتزم بالطرافة و الإفادة ، سواء أتعلق الأمر بصاحب النص ، كما في قوله : ( و إنما نذكر منهم من كان ذا خبر طريف ، و اتصلت به حكم من كلام و أشعار)16أم تعلق بالنص نفسه ، كما في قوله : ( و لكنا نذكر من أمورهم ما فيه معنى و أدب أو شعر مستطرف أو كلام من خطبة معروفة مختارة )17
بل إن المبرد يصرح منذ بداية الجزء الثالث بهدفه المتمثل في إذهاب الملل عن القارئ أو المستمع ، قائلا :
( و هذا باب اشترطنا أن نخرج فيه من حزن إلى سهل ، و من جد إلى هزل ، ليستريح إليه القارئ ، و يدفع عن مستمعه الملال )18
و المبرد يحترم شعور المتلقي الذي يقدم إليه هذا الكتاب ، عندما يمسك عمدا عن ذكر بعض الأبيات ، كما في قوله :
( و في آخر هذا الشعر ذم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أمسكنا عن ذكره )19
و كثيرا ما يشير المبرد إلى من روى له الشعر : كالتوزي و السجستاني و أبي العالية ، و أحيانا يشير إلى اسم القائل ، و أحيانا يكتفي بعبارة مثل : ( قال أعرابي ) ( قال الشاعر ) ( قال آخر ) ...
و أحيانا يكون الاتصال مباشرا ، كما في قوله : ( قال أبو العباس : و أنشدني عمارة لنفسه...)20،كما أن المبرد قد يورد الأبيات انطلاقا من اختيارات غيره ، كالذي يجمع الرواة على حسنه : ( فأحسن ذلك ما جاء بإجماع الرواة )21 أو كالذي يتفاعل معه متلقيه : ( قال أبو العباس : قال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسد : ما أحسن ما مدحت به )22
و تحتل الأبيات المفردة الحيز الأكبر ، ثم تليها المقطوعات ، فالقصائد الطوال التي تتعدد خاصة في باب التعازي و المراثي ، مع سيطرة الأغراض التقليدية من فخر و مدح و هجاء و غزل و رثاء ، حيث يرى المبرد أن المرأة قد تقدمت في هذا الغرض الأخير ، رغم ندرة تقدم النساء في الصناعات بشكل عام ، حيث يقول : ( و كانت الخنساء و ليلى بائنتين في أشعارهما ، متقدمتين لأكثر الفحول ، و رب امرأة تتقدم في صناعة ، و قلما يكون ذلك )23
كما يتحدث صاحب الكامل عن السرقة الأدبية ، و في هذا المجال يقول الدكتور الطاهر أحمد مكي : ( يتعرض أحيانا للسرقات الأدبية ؛ دون أن يعطيها هذا الاسم ؛ يورد البيت من الشعر ، ثم يشير إلى من تناول المعنى نفسه ، و من أجاد منهم و من تخلف ، و من ابتدع المعنى أو نقله عمن سبقوه )24
و إذا كان بعض ما ذكره الدكتور الطاهر صحيحا حيث نلفي تكرر بعض العبارات كقوله : ( أخذ هذا المعنى من قول ) أو قوله : ( مأخوذ من ) فإن ما ذهب إليه من عدم ذكر المبرد مصطلح السرقة مجانب للصواب كما يشهد بهذا قول المبرد :
( و كان إسماعيل بن القاسم لا يكاد يخلي شعره مما تقدم من الأخبار و الآثار ، فينظم ذلك الكلام المشهور ، و يتناوله أقرب متناول ، و يسرقه أخفى سرقة ) 25
بقي أن أشير في ختام هذه القراءة الموجزة إلى أننا نجد في كتاب الكامل إضافات من تلميذ المبرد : أبي الحسن الأخفش إذ ( يتفق الباحثون على أن كتاب الكامل لم يؤلفه المبرد وحده ، و إنما شاركه فيه تلميذه الأخفش الذي روى عنه الكتاب )26
و هي إضافات عبارة عن شروح أو تعقيبات ، أو إيراد كلام للمبرد رآه الأخفش يناسب المقام ، كقوله : ( قال أبو الحسن الأخفش : حدثنا المبرد في غير الكامل )27
الهوامش :
1 - الكامل ½
2 – مصادر التراث العربي في اللغة و المعاجم و الأدب و التراجم - عمر الدقاق ص90
3 – دراسة في مصادر الأدب ـ الطاهر أحمد مكي ص 161
4 – الكامل 1/294
5 – نفسه 1/295
6 – نفسه 3/32
7 – نفسه 2/1
8 – نفسه 3/48
9 – نفسه 4/18 و في الجزء الأول قال " و ليس لقدم العهد يفضل القائل ، و لا لحدثان عهد يهتضم المصيب " ص29
10 – نفسه 3/33
11 – نفسه 4/94
12 – نفسه 3/35
13– نفسه 1/29
14 – نفسه 4/23
15 – نفسه 4/17
16 – نفسه 3/239
17 – نفسه 3/263
18 – نفسه 3/3
19 – نفسه 1/327
20 – نفسه 1/168
21 – نفسه 3/35
22 – نفسه 1/181
23 – نفسه 4/46
24 – دراسة في مصادر الأدب ص 168
25 – الكامل 2/11
26 – دراسة في مصادر التراث العربي – سعيد الورقي ص 48
27 – الكامل 1/138