أيها القادمون الخضر... سلاماً
أيها القادمون الخضر... سلاماً
بقلم: محمد الحسناوي
ليس بالمستغرب أن تشغل التجربة الذاتية في الفن عامة وفي الشعر خاصة.. حيزاً واسعاً، لأن كلاً من الفن والشعر- خلافاً للعلم- يعتمد على التجارب الإنسانية، لكن الظاهرة التي تسترعي الانتباه، أن تطغى التجربة الذاتية، أو الضمير المتكلم على ثلاثة الأرباع من ديوان شعر إسلامي حديث، يتوسم فيه الالتزام الجماعي، والانطلاق من تجربة جماعية.
خطرت ببالي هذه المعاني وأنا أطالع المجموعة الشعرية الأولى للصديق سليم عبد القادر، كما خطر ببالي أيضاً أول مرة تعرفت فيها إلى هذا الصديق العزيز، أوائل السبعينات، يوم كان طالباُ عندي في الصف الأول الثانوي بحلب.
ثم قلت لنفسي: لكي تزول الغرابة في هذه المعادلة (بين الذاتية والجماعية) لا بد أن تكون التجربة الفردية الذاتية للشاعر متطابقة مع التجربة الجماعية، أو مشتقة منها، ولعل هذا هو الخيط الأساسي الذي يربط بين عنوان الديوان الجماعي (القادمون الخضر) وبين أناشيده المغرقة في التوحد والانعزال:
غـريب تهز الحياة حنـيني وتتركني غـارقاً في شجوني
فأصرخ في وجهـها مغضباً: إذا كـنت أمي فـلا تهمليني
تـبسمت الأم فـي رقــة وقالت بصوت شجي الرنين :
هو الدرب درب الهداة الأباة مـليء بشوك الأسى والأنين
على أن كلمتي (التطابق) و(الاشتقاق) لا توضحان كل معميات هذه المعادلة المستغربة، بل ربما أسهمتا في زيادة اللبس والغموض، ما لم تظلا في حدود التسهيل والتمثيل لا التحديد والتدقيق. ذلك لأن التعامل مع النصوص الأدبية الرفيعة - كالشعر- محفوف بالمخاطر، فالشعر الإسلامي لا يتطابق في كل العصور الأدبية، بل لن نتوقع التطابق بين شعراء العصر الواحد. وسوف نرى أن لكل قصيدة من قصائد هذه المجموعة شخصيتها المستقلة، ونكهتها الخاصة بها، على الرغم من أنها من نتاج شاعر واحد، يجمع بينها ألوان من التطابق في الأغراض، ثم الاشتقاق من تجربة الشاعر الكبرى أو رؤياه الشاملة. فبقدر ما هو شاعر مسلم هو كذلك عربي سوري حلبي وفلان ابن فلان، متوسط الطول، نحيل الجسم، حنطي اللون، أسود العينين، وهو أكثر من ذلك قد قضى فترة من حياته وأشعاره في أحد سجون الرأي (آب 1979- مايس 1980) وفترة أخرى في أحد بلاد الهجرة (حزيران 1980- كانون الأول 1980) وفترة ثالثة في بلد ثانٍ من بلاد الهجرة حتى يومنا هذا:
منذ أعـوام، وحتى هذه اللحظة، تمضي كل ساعاتي اغترابا
يـوم ودعـت بلادي، هارباً، أنـشد بالـهجرة أمـناً وثواباً
يا إلهي هل غدت غاباً بقاعُ الأرض؟ أم أني أرى العالمَ غابا؟
ونحن هل نرى في هذه الصرخات صدى للحديث الشريف: "إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء"؟ ثم هل فسر الشاعر هذا الحديث على طريقة الشراح الأسلوبيين أم على طريقة صاحب "الظلال": "إن المسألة في إدراك مدلولات هذا القرآن وإيحاءاته - ليست هي فهم ألفاظه وعباراته، ليست هي (تفسير) القرآن - كما اعتدنا أن نقول. المسألة ليست هذه. إنما هي استعداد النفس برصيد المشاعر والمدركات والتجارب، تشابه المشاعر والمدركات والتجارب التي صاحبت نزوله، وصاحبت حياة الجماعة المسلمة، وهي تتلقاه في خضم المعترك.. معترك الجهاد.. جهاد النفس وجهاد الناس.. جو مكة.. ثم جو المدينة" (خصائص التصور الإسلامي ومقوماته – ص: 5 – 6).
ومن عجب أن تتحول التجربة الذاتية – بعقمها وصدقها – إلى تجربة إنسانية عامة: شاعر يستشهد أخوه، فكيف يكون وقع الحدث على حسه ومشاعره، وكيف يكون انعكاس تلك التجربة على حس القراء ومشاعرهم:
سأبكيك طول العمر - يا جنة العمرِ بـقلب سخي الدمع أحمر كالجمرِ
خليلي، وحِبي، وابن أمي، وبهجتي وأكبر من سلوى، وأكبر من صبرِ
ألم تصبح مراثي الخنساء في أخيها صخر من كنوز الشعر الإنساني الخالد:
فلو كـان للخنساء مثلك راحلٌ لما بكت الخنساء يوماً على صخرِ
ثم هل نحن بحاجة للرد على من يعيب على الرجال والشعراء البكاء بحجة القدرة على الاعتصام بالصبر والتجلد، وعدم الاستسلام للضعف استسلام النساء في المحن؟ إن شاعرنا لا يضعف:
أعيش وثأر الله ثأري، وموعدي وأقضي، ولا أنساكَ بالموت، يا فخري
وأقل عجباً أن تتحول تجربة شاعر مسلم إلى تجربة جماعية إسلامية أو مجتمع مسلم، فالشاعر له إخوة شهداء، إخوة عقيدة، غير أخيه الشهيد ابن أمه؛ وشعوره تجاههم صدى لمشاعر الجماعة المسلمة التي يوالونها وتواليهم:
وأنـا في الـحياة جرحٌ كبيرٌ غـارق في دموعه الهتّانة
ما جرى دمعُه من الهول لكنْ فقد اليوم - يا أخي- خلانه
ذبحوهم والشمس تشهد والكو نُ سـميع، ومُغمض أجفانه
وهو يسير في طريق جماعي ولو تكلم بضمير المفرد:
في طريق الهداة أمضي وقوراً لا أبالي بالموت أو بالحياة
أصدقائي الأبرار حولي صقورٌ وعـبير مُعطر كالصلاة
وإلـهي، رب الوجود، تجلى لي بـنور مُسدِّداً خـطواتي
وهو درب حافل:
وعثارٍ في دربـهم وانطلاق وسـراب يلوح خـلف سرابِ
هو ذا دربهم، طويل ومفرو ش.. بجمر الأسى وصم الكعابِ
من غير ما تمحلٍ واعتساف سوف نرى طريق الشاعر - الجماعة محفوفاً بالمكاره، مخضباً بالدماء، على الرغم من أن طبيعة الدروب - والطويلة منها- أن تكون متعرجة،أو متفاوتة الارتفاع الانخفاض، مختلفة في الإيناس والوحشة، متلونة في الخضرة واليباس؛ لكن طريق الشاعر مستقيم لا يعرف إلا الأشواك، أشواك السجن والمنفى والغربة. نعم هناك أُنسٌ بالله تعالى، وهناك إيلاف بالسائرين في اليقظة والأحلام، وهناك صحبة الليل أو زيارة الذكريات. لنسمع هذا (الابتهال) على الطريق:
ربِّ فـاحفظني، وثبت في طـريقي قدمّيا
وارعَ قلبي، وأنرْ لي مهجتي ما دمتُ حيّا
علني ألقاكَ - يا مولاي - مرضياً، رضيّا
حاملاً جرحي، وشـوقي غـنوةً في شفتيّا
إن كلمتي (الجراح) و (الطريق) نجمتان متألقتان في سماء الدعاء المخبت الفردي المغرق في الذاتية والتوحد، لكن ما سبب (الجرح)، وهل هذا الطريق طريق زهد وانعزال محض:
إلـهي إذا كنتَ ترضـى بأسري ومـا يـعتريـني، فـلا فُكّ أسري
فـكم مـحنةٍ ذقـتُها في هـواك وما ضاق صدري، ولا عيل صبري
إنه طريق المحبة الخالصة لله تعالى، وإن مرّ هذا الطريق بالسجن أو المحنة.
إذا كان واقع المسلمين في هذا العصر واقعاً مأزوماً بين المطرقة والسندان، فليس عجيباً أن يكون واقع الجماعة المسلمة التي تتصدى لتغيير هذا الواقع أشد حلكة وانسحاقاً، ومثل ذلك واقع الفرد المسلم الملتزم بهذا التغيير؛ فكيف إذا كان هذا الفرد شاعراً مرهفاً، أو رقماً مستفرداً مستضعفاً؟ إليك نتفاً من ريش هذا (الموءود):
تـمر اللـيالي ببطءٍ عليه ومـا زال في قبره ثاويا
يقلب في صمتها الذكريات حـزيناً، وآونـة بـاكيا
تـواطأ أهلُ الزمان عليه وألـقوه فـي سجنه نائيا
يـظل يفكر حتى الصباح لـيرجع من فكره خاويا
هـنالك لـم يلق إلا الإله يكون له المؤنس الآسيا
هذه التجربة المرة لم يتجرعها الشاعر في أعماق السجن، بل إن أسنانه تصطك من غصصها بعد ستة أعوام من فراره الأسطوري من السجن، هل تحب سماع تجربة السجن:
السجن جـنات ونارُ
وأنا المغامر والغمارُ
أنا والـدجى والذكريات مـريرة، والاصطبارُ
طلع النهار على الدُّنا ، وعلي ما طـلع النهارُ
روحي طليق في السما، والجسمُ يحكمه الإسارُ
ألا ترى معي أن لوعة (الموءود) أشد مرارة من لوعة السجين، بل اسمعه في ختام هذه القصيدة (محنة) يقول:
تمضي الحياة بمجرمين، لهم من الأخرى الخسار
وبـمؤمـنين لـهم جنان الـخلد مـنسرحُ ودارُ
لا يستوون. أتـستوي خضرُ الحـدائق والقفارُ؟
هكذا كان وقْع السجن، سجن الرأي، على حس الشاعر ومشاعره، لكن حس الغربة عن الأهل والوطن، وحس المطاردة والعزلة والتضييق في بلاد الغربة لا تقل عن تجربة السجن إن لم تكن أشد منها. وهنا يلحّ سؤال: لماذا كانت تجربة الغربة أشد من تجربة السجن؟ هل لأن بعض إخوان الشاعر ما زالوا أسرى وهو طليق:
القهر يجري سعيراً في أضلعي ودمائي
يشوي كياني بـنارٍ مشـبوبةٍ سـوداءِ
لـهيـبها زفـراتٌ مضرجات الرجاءِ
تندّ في كـل حـينٍ عن إخوتي السجناءِ
أم لأن الشاعر يعاني من مرارات تشرّد مستمر:
هارب، يرهبني الناس، ودربي مثل قلبي ، صار مفروشاً حرابا
لـم أجـد باباً يـدقّ الحرّ لا، لم ألقَ حـتى الآن للـنخوة بابا
فبات يشعر بالحصار:
هذا الحصار الرهيب المتعب القاسي حتامَ يضرب في جنبيّ كالفاسِ
الغدر والفـقر والتشـريد أعـرفها ولست للقهر والأغلال بالناسي
و بـ (إدمان) الناس للعيوب:
هذا الظلام الكئيبُ هذا الضياع الرهيبُ
قد صار شيئاً أليفاً تعوّدتـه القـلوب
أكاد أضحك قهراً فليس يشفي النحيب
حنى تحولوا إلى عبيد لا ترى ولا تسمع ولا تحس:
مُرّوا على المذابح الحمر، بلا عيونْ
مرّوا عليها كالعبيد الخرس مطرقين
مرّوا كما شئتم، فما مروركم يكون؟
وحتى تحول الطاغية (نمرود) إلى ظاهرة عامة:
ما عاد (ذاتاً) ولكن عاد (موضوعا) على المناكب و الأقلام مرفوعـا
وعاد لا يحـمل الأصنام في يـده ألم يصر صنماً بالغدر مصنوعا؟
فيحاول الشاعر توعية العبيد:
إن الذي اتخذتموه ربـّا مـن العبيد رهبـةً أو حُبّا
قد كان يوماً نطفة فطفلا فرجلاً، فكيف يسبي اللبـّا
ومثلكم يفعل كـل يـومٍ ما يتبع الأكل ويتلو الشربا
لكن صرخات الشاعر لا تلقى آذاناً مصغية:
العـمر ضـاع مـعاناةً وتـبريحا وعافني في كـهوف الـهم مطروحا
فتصرخ النفس من ضعف ومن ألم: بي، وهي تلقى نجيع القلب مسفوحا:
أنفقت عمرك فـي حُـلْمٍ تمـجده بأن تروض السعالى والتماسيـحـا
ومع ذلك هل ييأس صاحبنا:
يا نفس ثوبي، وكفي عن مهاترتـي فلم يـزل خافقي للنور مـشروحا
ترثين ما ضاع، ما ضيّعتُ لائمتي إلا مـتاعاً لشرّ الـناس ممنوحـا
تشكين!؟ ويحكِ هل ترجين من أذن تـصغي، فتمنح للمقهور ترويحا!
لا تشتكي. إن في الشكوى لمهزلـةً يـعافها الحر محزوناً و مجروحا
إني رضيت بما الرحمن قـدّر لـي ولـست أطلب بعد الذِكر توضيحا
لولا اصطباري على المكروه مبتسماً ما كـنتُ مرتـقباً جـناتِه الفيحا
و العمْرُ إن لم يكـن لله كان سـدىً لـو سخّر الجنّ للإنسان والريحا
هكذا يختم الشاعر قصيدته (معاناة) المؤلفة من أربعة عشر بيتاً بخاتمة راضية متفائلة، استغرقت نصف أبيات القصيدة للدلالة غير المباشرة على عمق الأمل الذي لا يقل عن عمق المأساة أو (المعاناة) التي استغرقت نصف القصيدة الأول. فالقصيدة (أسود وأبيض) متوازنان ولو من الناحية الشكلية.
إن الخاتمة في قصائد هذه المجموعة تستحق وقفة خاصة. فقد تكون بيتاً أو بيتين، أو تكون نصف القصيدة، كما رأينا في قصيدة (معاناة). وبناء هذه القصيدة ليس نموذجاً وحيداً، بل تكاد تكون القصيدة المبنية على شكل صورتين متقابلتين (سوداء وبيضاء) من أبرز النماذج، تليها القصيدة المختومة ببيت أو بيتين قويين، مؤشراً واضحاً على غلبة البناء المسطح، كما تقرر السيدة نازك الملائكة، ويلحق بهذا النموذج من حيث الظاهر قصيدة (محنة) التي بنيت على شكل الموشحات (عدة مقاطع، كل مقطع مؤلف من قافيتين: إحداهما متغيرة والأخرى ثابتة متكررة)، لكن الأَولى أن تضم هذه القصيدة –من حيث البناء- إلى النوع الهرمي القائم على الصراع الصاعد أو الخط (الدرامي) الذي نجد له نموذجين آخرين.
قصيدة (محنة) من قصائد هذه المجموعة البارزة، فيها النجوى والحوار وتتابع الأحداث والمشاهد والخاتمة فالتعليق على الحدث كله، وهي واحدة من قصائد الشاعر التي تحولت إلى أنشودة، يتداولها الناس على أشرطة (الكاسيت)، ويستمتعون بها.
أما القصيدتان الأخريان اللتان قام بناؤهما على الشكل القصصي فهما (زائر) و (مرثية) أما قصيدة (زائر) فتحكي قصة الشاعر مع الإسلام، وأما قصيدة (مرثية) فتحكي قصته مع الليل، بل قصة شهداء تدمر على وجه الدقة، وهي فصل من فصول قصة الشاعر وأمثاله مع الإسلام. ومن الطريف أن تتألف كل من هاتين القصيدتين القصصيتين من أربعة وعشرين بيتاً بالضبط!
في قصيدة (زائر) يجرد الشاعر من الإسلام شخصاً يزوره، ويدعوه إلى السير معه عبر البيد والنجود، بخطى حمر، على طريق منير، وهما سعيدان ينثران الأزهار الغضة الجميلة في دروب الأنام:
قال لي: سرْ، وراح يعدو أمامي في دروب من السنا والظلامِ
ونعيش الحياة أغـلى من الكـو ن و أحلى من شائق الأحلامِ
ولما بلغا منطقة خطرة:
قال: مهلاً، وانظرْ هناك فأبصـر تُ بعيداً حقلاً من الألغامِ
قال: إن شئتَ أن تعود وإن شئـــتَ غزوتَ الصعاب بالإقدامِ
قلتُ: ماذا من بعد خوض الرزايا قال: ما تشتهي من الإكرامِ
فيتقدم الشاعر صوب جنان الخلود عبر بوابات العذاب والسم والموت، وحين تجرع الشاعر الكأس الأخيرة جاءت الخاتمة:
ثم ولّى عن ناظريَّ ضحوكا راضيَ القلب، ساحر الأنغامِ
و تلاشى كأنـما كان حلْـماً قصّ لي قصتي مع الإسلامِ
إنها أقصوصة شعرية: شخصيتان وحوار، ثم بداية ونهاية متكاملتان، وأسلوب لا أسهل ولا أعذب.
أما قصيدة (مرثية)، فتتألف من ثلاثة مقاطع وبيت خاتمة، في المقطع الأول يشخص الشاعر الليل مخلوقاً مسهداً حزيناً، أفرغ كل ما في كؤوسه وجراره من خمور، ثم راح يقطع جنبات الوجود وحيداً:
وهو يشدو همومه، ثم يبكي وينادي أنّـى سرى أخدانَـهْ
علَّ قلباً يُصغي إليه ، ولكنْ أيّ قلب يسقي الظلامَ حنانَهْ!؟
فلا يتوقف الليل عند السُّكارى والمغنيات في القصور، ولا عند العشاق المغرمين في الحقول:
لم يَرقْه في الأرض شيءٌ سوى طيفٍ ... شجيٍّ، مقدّسٍ أشجانَهْ
إنه شاعرٌ، فسـالمْه يا لـيل وإن شـئتَ فاستَبـحْ بستانـهْ
وهكذا يتوقف الليل عند شاعرنا الحزين:
أيّ قلب خلا من الحزن؟! بل أيـ ة روحٍ لمّا تعدْ أسيانةْ ؟
كـل ذرات هذه الأرض أمسـتْ للمآسي عشيقةً ولهانةْ
لماذا كان الحزن يغمر الكون، ولماذا كان الشاعر أكبر حزين يصطفيه الليل من دون العالمين؟ إنه الحزن على شهداء تدمر:
ذبحوهم في سجن تدـمر غـدراً وانتقامـاً من صحـبهم و خيانهْ
ذبحوهم والشمس تشـهد والكـو ن سميـعٌ ، ومغمـض أجفانـهْ
كل وجه كفلْقة الصـبح إن يشـ رقْ.. يُضيءْ كونَه ويُسعدْ زمانهْ
لا يبالي بالسجن، بالموت، فالدهر امتحان، والحرّ يَرضى امتحانـهْ
هم مـلوكٌ ، ملائكٌ ، صـلواتٌ أغنـياتٌ ، حـدائـقٌ جُذلانـةْ
هذا إذاً سبب حزن الشاعر، فماذا صنع الليل بعد سماعه شكوى الشاعر:
لـملمَ الـليلُ حـزنَه، ثـم ولّى قـبل أن يـطويَ الفتى أحزانهْ
هل انصرف الليل لأن حزن الشاعر أخجله وغطّى على أحزانه؟ أم لأن حكاية أحزان الشاعر طويلة لا يمكن استيفاؤها، وقد حان وقت الرحيل بالنسبة إلى الليل فانصرف؟ على كل حال ليست هذه هي المرة الوحيدة التي يهرب فيها الليل في آخر القصيدة، بل نجد مثل هذه الخاتمة يتكرر في عدد من قصائد هذه المجموعة. أما الخاتمة الأثيرة لدى الشاعر، فهي التي تنطوي على اعتصامه بحبل الله المتين، واللجوء إليه، أو الاستعانة أو الاستعلاء به. في ختام قصيدة (حصار) يقول:
لا أزدهي بثباتي إنني رجلٌ قربي من الله أغناني عن الناسِ
ويقول في نهاية القصيدة (مجاهد):
والناس تصرخ: احجمْ. والـوغى نشبتْ والله يـهتف بـي : أقـدمْ ولا تَخَفِ
ماضٍ، فلو كنتُ وحدي والدنى صرخت بي: قفْ. لَسِرتُ فلم أُبطيءْ ولم أقفِ
إن قوة الخاتمة أو المقاطع الأخيرة من هذه القصائد لا تعني وحدة التجربة في كل قصيدة ولا قوة التماسك في بنائها وحسب! بل ربما تعني في التحليل النفسي أن القصيدة الواحد ترمز إلى حياة الشاعر من أولها إلى آخرها، وبمعنى أدق، تقع الخاتمة –بخاصة- موقع المعادل الموضوعي لنهاية حياة الشاعر نفسها.
مثل هذا التحليل المغري ندعه لغيرنا، كما ندع النماذج المتفرقة من مقطعات شعرية تضمنت أنواعاً من السخرية أو الحكم، كلها تمتح من معين السجن والتشرد والغربة والوحدة، ونتمنى أن (يستمتع) هواة الشعر وقراؤه – وما أقلهم - بهذه الأناشيد التي ضجت بالنداءات والاستغاثات ولا سميع إلا الله! إنها – في الظاهر- وحيدة الطرف، فهل تظل كذلك؟ ما أظن!