ديوان: يا ربيع الحياة للشاعر خالد البيطار

عبد الله الطنطاوي

ديوان: يا ربيع الحياة للشاعر خالد البيطار

هذا شِعْر

 بقلم: عبد الله الطنطاوي  

    [email protected]

طبعاً شعر، وإلا ما كان ديواناً، ولا كُتب على غلافه: شعر خالد البيطار.. ثم.. مَنْ من الناس لا يميّز الشعر من النثر، حتى تقول لنا: هذا شعر؟

وأجيب: هذا شعر، مؤكّداً ومقرّراً ومميزاً، ليس بينه وبين النثر، بل بينه وبين ما يسمّونه (شعراً) في هذه الأيام، سواء الصادر عن (شعراء) الحداثة منه وهو هلوسات وأباطيل حشّاشين لا يعون ما يقولون، ولا يعي عنهم الناس ما يقولون.. وحسناً يفعلون، حين تراهم في كل وادٍ يهيمون، ولا يتبعهم إلا أمثالهم من الغاوين.. أو ما يصدر عن (الشعراء) النظامين، وإن وصفوهم بـ (الكبار) لأن شعرهم سرديّ بارد لا يثير عاطفة، ولا يحرّك عقلاً.

إننا لا نكاد نقرأ –في هذه الأيام- شعراً بديعاً كهذا، مسكوناً بالأنس، والحبّ والإخلاص، يدني إليك صاحبه، ليهمس لك بوح قلبه، يصبّه في أذني قلبك ونفسك، فتحسّ براحة يعروها قلق وحزن وألم، هي بعض نبض روح الشاعر المجيد الذي كُتب عليه أن يغرّدَ في غير سربه، وعلى غير أيكه.. إنه شاعر الحسن والجمال، وشاعر الزهر والربيع، وشاعر العطر والعبير، وكان شاعر فوح الأشذاء الإنسانية، فغدا شاعر الحزن النبيل، تطالعه في أشعاره الأسيانة، كما في نظراته الساهمة الحالمة، وصوته الخفيض، وشمائله الرقيقة، وقد حباها الله ما حباها من عطر وجمال ونبل وشرف:

كنتُ في الأسحار أروي  خافقي     من رحيق النور، أنعمْ بالرحيقْ

أعبد الرحمـن ربّـي خاشـعاً     أقرأ الآيـات، والـقلبُ شفيـقْ

أسمع الأطيار تشـدو لحـنـها     فأناجـيها إلى وقت  الشـروقْ

وإن أردت البرهان، فاقرأ قصيدته: "رثاء.. وأمل" فهي تسكب في رياض قلبك، ذلك الحزن الجليل الذي يجدّد الأمل ولا يقتله، ويصبّر على بطء النصر، ويدعو إلى الإعداد والاستعداد:

أيها الطـير إن صـبرك فـوزٌ    فابنِ بيت الأشبال واشددْ قبابَهْ

وأعدْ لحنك الأصيل إلى الروض    وسلسـلْ في أذنـه تسـكابهْ

هذا لأن الشاعر صاحب رسالة، وهو جادٌّ في توظيف شعره وعقله وجهده فيما يخدم دعوته ورسالته.. حياته خالية من أيّ لهو أو عبث، نشأ في أسرة متطهّرة، وتحبُّ المتطهرين، وليس في سيرته ما يخدش رجولة الرجال الأبرار.

وقد استقى ثقافته وأخلاقه من بيئته البيتية، والدعوية، ولهذا جاءت أفكاره وصوره وأخيلته نظيفة طاهرة مطهِّرة ومطهَّرة، لا عوج فيها ولا التياث، لأنها من ينابيع الطهارة تنبع، وفي جداولها تسير، وفي بحيرتها تصبّ، وكلها طهر في طهر.

ما نتحدّث عنه هو الديوان الثالث لشاعرنا، ظهر في حلّته القشيبة بعد أخويه: "أشواق وأحلام" و "أجل سيأتي الربيع" يشدّها الأمل، ويحدوها الرجاء والعمل، فالربيع رمز "الأمل الذي نحسّ به في كلّ فجر يشرق، وفي كلّ غصن يورق، ونلمسه في كلّ نبتة تنمو، وفي كل شجرة تسمو" على حدّ تعبير شاعرنا.

ومن هنا ما نشمُّ في الديوان من عطر، وما نسمع من نغم، يحملان على أجنحتهما الشفيفة الرفيفة، أنبل المعاني، وأشرف الأفكار، وهو يعانق الطبيعة الحيّة الناطقة في صمت أبلغ من الكلام، وهو يتذكّر الأحبّة الذين فارقهم، أو قضى الموت بفراقهم.. في سبحات روح تجوب فضاء هذا الكون: الكتاب المفتوح المقروء من كل ذي فكر ونظر، ولبّ وعاطفة وعقل، يتأمله في ربيعه وشتائه، وفي خريفه وصيفه:

كونٌ رحيبٌ يشدّ الناظرين إلى    أن يشهدوا أنه من صنع مقتدر

تشمُّ فيه عطر العقيدة.. عطر الأحباب.. عطر الأخوّة في الله.. عطر الذكريات الحبيسة الحبيبة.. حتى لتحسُّ صاحبها روحاً.. طيفاً.. ظلاً.. إنساناً لا تحسّ له بثقل المادة، ولا كثافة الماديّين، لا في شعره، ولا في حياته المنمنمة بأفواف الأزاهير، وعطور الإنسانية المؤمنة الحادبة:

أنـا جـزء من الوجـود ولكـن     ميّزتني روحـي عن الأنداد

ويقول:

تسرح الروح بين روضي وجسمي     هـي فيه كالهائم الجـوّاب

والحالة النفسية هي التي تنطقه الشعر، فشعره ليس من شعر المناسبات، ولم يكن يوماًُ (شاعراً تحت الطلب) يكتب لمن يشاء ما يشاء، وإنما هو شعور فيّاض، تفيض به نفسه، ولا يقوى على مغالبته، فينبثق ينبوعاً صافياً، وينضمّ إلى مجموعة الينابيع الصافية الأخرى.. إنه شاعر جادّ ملتزم يسير على الجادة التي ارتضاها له ربّه، لا يصرفه عنها صارفٌ من رغب أو رهب:

لا ينثني، وهو يمشـي نحو غايـته   ولـيس يعرف إلا الجدّ والدأبـا

يمضي على الدرب لا تغريه أفرُعه    ولـو تبدّت له حصباؤها ذهـبا

يمضي ، ولا تعرف الإعياءَ همَّتُـه    يـطاول النجم، يسمو فوقه رتبا

والشاعر يحمل همَّ دعوته مذ فتح عينيه عليها، ثم أغمض جفونه عليها، خوفاً وحرصاً وحماية:

ما زلتُ أمضي على دربي يرافقني    همٌّ حبيسٌ ثوى في القلب مذ نشبا

إنه همُّ افتراق إخوته، وانقسام أمّته، وغربة جسمه وروحه عن وطنه المكبّل، وأرضه العطشى بعد أن جفاها الربيع، وغربته عن صحبه، وحذره من غدر بعضهم..

اسمعه وهو يناجي (قمره) الذي لا يطيب له إلا السُّرى في جوف الليل:

تمشي وحيداً، ولا تبغي الرفيق، ألا     تخشى الضياع؟ ألا تشكو من الضّجر؟

أم علّمتك  الليالي السـير منـفرداً     وأن تكون من الأصحـاب في حـذر؟

فسرتَ  وحدك في الآفاق محتـملاً     قسـاوة  الدّرب كي تنجو من الكـدر؟

تُرى.. ماذا لقي شاعرنا من (الأصحاب) حتى أُلهم هذا المعنى الجديد الحزين؟

ولهذا فإن أكثر موضوعات الشاعر وجدانية، تتوزّع بين الهيام بالجمال، والحزن، والإيمان، والثورة على الأوضاع المتردية، والواقع المعيش، ولكنّ تيار الحزن طاغٍ على الديوان، ولكنه حزن المسلم المؤمن بقضاء الله وقدره، المستسلم لتدبيره، الواثق برحمته، الموقن بنصره..

وقد تَعجبُ من إغفاله ذكر المرأة في هذا الديوان، مع أن أكثر الشعراء يقيمون شعرهم على المرأة، وبعضهم جعل المرأة محور شعره وتفكيره، عاشقة ومعشوقة، وحاشا شاعرنا أن يلوّث شعره بمجون أو نزق أو هبوط، إنه ليس من الغاوين، ولا يريد للغاوين أن يتبعوه أو يسيروا في ركابه.. إنه من الراشدين، ويحبّ أهل الرشد، تندغم (أناه) بهم، فهو منهم ولهم، ولا يجد نفسه إلا بهم ومعهم، فيما (الآخرون) من الشعراء يلهثون خلف الشهوات والملذات في ضياع (وجودي) لا يرتضيه صاحب رسالة.

إنه شاعر العطر والجمال، مَقْدَمُ الربيع يهزّ كيانه بما فيه من جمال يوقظ الروح، ويبث الحياة في النفوس الميتة كما في الأرض والشجر، لتتغنّى الأطيار بأعذب الألحان، ولننصتْ –كما يأمر الشاعر-:

أنصتْ لتسمع أعذب الألحان    من بلبل غرِدٍ على الأغصان

واهدأ ليكمل لحنه  ونشـيده     ويبثّ ما في نفسـه  بأمـان

واتركه لا تقطع عليه غناءه     في ساعة النجوى والاطمئنان

وحنين الشاعر إلى وطنه الذي غادره قسراً شديد.. وشعر الغربة والاغتراب عميق، يمتح من عمق أعماقه، وقد احتلّ حيّزاً كبيراً من شعر الشاعر، ومن شعر إخوانه الشعراء الأحرار، لما لقوه ويلقونه من ألوان الأذى والمطاردة من قبل الأشرار، فتفرّقوا في بلاد الله الواسعة، تاركين مراتع الصِّبا والوطن الذي فتحوا عيونهم على جماله وجلاله، وعبّروا عن آمالهم وآلامهم في ديار الغربة، بعيدين عن الأب الحاني، والأم الرؤوم:

غبتُ عن موطني وعن أحبابي    وغـدا خافقي أسـيـر اغترابي

أنا جسمي هنا، وروحي شرود    دائـماً بيـن جيئـة وذهـاب

وأُناجي ربّي الرحيم  وأرجـو    منه فضلاً: أن لا يطول غيابي

وحين يأتي الربيع –والشاعر من عشاقه- بزهوه وبهائه، متهادياً بجماله الفتّان، تتمايل الأشجار، وتتنفّس الأزهار، ويسري النسيم الحاني، وتتفتّح البراعم، وتتعطّر، وتنمو غصون، وتكسوها الأزاهير، في نظام ربّاني بديع رائع، وتتبدّى الأوراق بين الأزهار، لترسم لوحة إيمانية من كتاب الكون المفتوح:

روحٌ سرت في الأرض بعد ذبولها    فتماوجت بالرّوح والرَّيحان

هذه الروح الربيعية قد فعلت في الطبيعة المغناج ما فعلت، ولكن ربيع قلب الشاعر غائب، لم يزره منذ عشر من السنين العجاف، وهذا ما دعاه إلى هذا الغناء الحزين:

كلُّ البساتين ازدهت وتضوّعـت    وبدت محاسنها سوى بستـاني

كلُّ العصـافير التـي ربّيـتـُها    صمتت ولم تنطق ببنت  لسان

من طول ما عانت ، ومّما كابدت    من غـربة الأرواح والأبـدان

في كلّ أرض قد غرستُ  فسائلي    فنمتْ، ولم تُثْمر سوى الزيوان

ونشرت بين الناس فخر بضاعتي    فرأيتُ أزهدهم بـها إخوانـي

وبرغم هذه القسوة القاسية التي جوزي بها الشاعر من الأبعداء الأعداء، كما من الإخوان الأقرباء، وبرغم ما يعاني من غربتي الروح والجسد، وما نجم عنهما من أحزان نبيلة، نراه في حال الفارس المسكون بالعشق، يلقى الألاقي، فيضطر إلى الرحيل.. هكذا يبدو لمن له بصر وليس له بصيرة، أمّا شاعرنا، فهيهات هيهات.. ولنعبَّ وننهل من هذا المنهل الذي لا تراه عند سواه:

أنا يا ربيـع هـناك في أرضـي   مقيم لم أغادر سـاحة المـيدان

متربِّـصٌ، متحفِّـزٌ، مستشـرفٌ    للنصر، رغـم الجور والطغيان

فإذا رجعـتَ رأيتَني  في سهلـها    في نجدها، في تربها الظمـآن

مهما عتتْ ريحُ الخطوبِ وهدّمتْ     ما كنتُ قد شـيّدتُ من بُنـيان

لن أستكـيـن  ولن أفـارق ذرّة     من رملها نُـثرت  بأيّ مكـان

ولئن نأى بعضي وفارق أرضـه     فإلى معاد ٍ، والعيـونُ روانـي

ولئن رمى فصلُ الخريف بعصفه     ورقي وأزهاري مـن الأفنـان

وتناثرتْ ، وتطايرتْ ، وتفتـّتتْ     وتدحرجتْ تمشي مـع القطعان

فالأصل باقٍ ، والجـذور  تمـدّه     بالنّسغ ، والأغصانُ في خفقان

ومعذرة لطول هذا الشاهد، بل احمدوا لي هذا، فأنتم لن تقرؤوه في غير هذا الديوان.. إنه متفائل، وواعٍ لدبيب اليأس إلى النفوس المؤمنة التي ما ينبغي لها أن تيأس من نصر الله، وتأرز إلى أوكار الأبالسة الذين يغرونها بالعداوة والفرقة –وهذه من مواجعه الكبيرة- :

لكننا رغم الهـداية لم نـزل    في فرقةٍ ، وتخاصمٍ  وشـتات

وبلادنا منكوبة، وحصونـنا     مفتوحة الأبـواب والشُّـرُفات

ورياضنا  ما زال يرتع فوقها   سربُ الجراد ، وهائم الحشرات

وجرح الأحبّة هو الذي يدميه، وليس جرح الأعداء.. جرح الأحبّة يصوّح آماله، ويغتال أحلامه، ويقتل البسمة في قلبه، ويدفع به إلى الزوايا الميتة، معتزلاً الحياة والأحياء معاً:

ويسألني الأصحاب عن ســرّ عزلتي   وعن تركي الشعر الذي يبعث البشرى

وليس  بخـاف عن عـيون أحبـّـتي   دواهٍ أصابتنا ، وقـد أقبـلتْ تتـرى

فها هـي آمـالي تسـيـر مهيضـة     فلا ريشُـها ينمو ، ولا جرحـها يبرا

وها هو روضي في شحوب، ولم يكن    من الخطب في يوم ، ليـذبل أو يعرى

ولكنّـها البـلوى أتـت وتطـاولـت    وهاجت إلى أن أوشكت تقلع الجـذرا

ولو أنها كانت من  الخصـم لم أكـن    أبالي، ولو لاقـيتُ من هولـها مُـرّا

ولـكنّـهـا مـن إخـوة، وأحـبّـة    مشينا على الدرب الطويل معاً عُمـْرا

أحزان الشاعر عميقة، ولكنها نبيلة، حتى لتراه –وهو يتملّى جمال الربيع، وينتشي بما وهب قلبه الصادي من آمال- يتمثّل له وطنه المحروم منه:

غير أني مـا زلت ألمـح أرضـي    من وراء الحدود في الأصفاد

لم تزل في الصّقيع، في ظلمة الليـ     ـل، وأسمالُها ثياب الحـِداد

ويتساءل في مرارة:

كـيف تشـدو طيـورها وتغنّـي     والعدوُّ الـلدود بالمرصـاد ؟

كيف تنمـو زهـورها في رباهـا    ورباها تجوس فيها الأعادي ؟

كـيف تخضـرُّ نبتـةٌ في ثـراها    وثـراها  مراتـع للجـراد ؟

ثم يهتف في حرقة:

يا ربيع الحـيـاة إنـي مشـوق     أن أرى النور في روابي بلادي

ويبقى متفائلاً –أبداً- بالعودة الكريمة إلى الوطن الحبيب:

إنّ قلبي لا يعرف اليـأس مهـما    طال عهد الجفاف، عهدُ السَّواد

وسـيأتي الـيوم الذي أرتجـيـه   دون ريب. إني على ميـعـاد

ولعل من أجمل ما نقرأ للشاعر، حنينه إلى مسجده الذي تعلّق به، واستوطن:

أأرجـع يومـاً إلى مسـجـدي     ويغمرني نوره العسجدي ؟

وأحمل راية ديني الـقويم فـَيُـ     ـشْرق يومي، ويحبو غدي

إنه لا ينفكّ يحلم بالعودة، ويشمّ رائحة بشرياتها:

تلوح لي، رغم آلامي، بشائرها    وكلُّ فجر ولـيد فيه تمهـيد

كيف لا.. وهو –كما يقول- :

أنا مذ فارقتُ روضي قلـقٌ    أمضغ  الشكوى وأحيا في ألمْ

لم أجد في الأرض عنه بدلاً    كيف ألقى بـدلاً عن قلب أمّْ؟

وشاعرنا الحسّاس، يؤلمه ما لا يؤلم غيره من الناس، ويحسّ بما لا يحسّون به، فهو إذا افتقد طيور الحرم المكّيّ التي هجرت الحرم وسوحه، بعد أن كانت تملؤه حبّاً وجمالاً، ثارت الأحزان في نفسه الملتاعة، على الفجّار الذين يلاحقون الأخيار والأطيار والأزهار، ثم ما يلبث أن يستمسك في شموخ الأحرار الأبرار، ويخاطب ذلك الطير، حمامةً كان أم بشراً سويّاً من عباد الله الأسوياء:

لا تحزنْ ، أنت عزيز القوم ، ومن قتلوك الأُجراء

لا تحزنْ، أنت الحرُّ ، ومن ساموك عذاباً دخـلاء

لا تيأس ، إنك منصور ، والنصر من الله عطـاء

وكم تختلط لديّ المشاعر، فأقف مذهولاً أمام بعض الأبيات، وهي تهزّني هزّاً، وأحاول التعبير عنها، فأقف حائراً، لا القلم يطيعني، ولا العواطف الجامحة ترأف بي، فتستقرّ لحظات، لأفضي بما في نفسي تجاه تلك المعاني الجليلة التي وردت في تضاعيف الأبيات، وقد انبثقت من قلب القلب الشاعر بجلال الموت، وسرابية الحياة، وغثائية ما فيها، مما يقتتل حوله الناس، ثم لا يلبثون أن يتركوا كل ما اصطخبوا حوله، واندسُّوا في تلك الحُفَر، ليلقوا جزاء ما قدّموا.. فها هو ذا يخاطب نفسه التي تستشرف الآتي الحقّ، وتدير ظهرها لباطل الدنيا:

يا نفس إن رمت الخـلود فأنتِ لـن   تجدي هنا ما تطلبين ، ولن تَرَيْ

إن الإقامة والخلود هناك في الأخرى    فأيَّ الـدار تخـتاريـن.. أيّْ ؟

ما هذه القافية؟ وما بال حرف الرّويّ هذا يصرخ.. هل يريد تنبيه الغافلين الذين يستحلّون كلَّ ما يخرم المروءة والدين من أجل الحُطام؟

مثل هذا الموقف، نطالعه في شعره الذي يرثي فيه نفسه ومن معه.. في رثائه صديقه أبا علي، وفي (رثاء.. وأمل) وفي سواهما من الشعر الضارب في عمق أعماقه.

كما تتبدّى أحزانه في هموم وطنه الإسلاميّ الكبير:

في كلّ قطر من الأقطار نازلة    تكاد من هولها تبكي الجلاميد

ولهذا لم يكن للعيد عنده من معنى سوى معاني الآلام، تثيرها في نفسه مشاهد الفرح بالعيد لدى فاقدي الإحساس بالهمّ الكبير. فالعيد عنده:

العيد يوم ترى الإسلامَ خافقـة     راياتُه وعليها النصر معقود

العيد يوم يسود العدل منتصراً      وينتهي عهد نمرودٍ ونمرود

وهو عندما يخاطب حمام الحرم، يتذكّر ما حلّ بحمامات المسجد الأموي بدمشق، وحمامات المسجد الأقصى في القدس، من هموم وغموم، فقد:

عضّهنّ الخوف والبؤس ولم    يتحرك في قـلوب الأهـل دمْ

إنه يعاتب الإخوة العرب والمسلمين في كل مكان، لأنهم لم يهبّوا لنصرة إخوانهم الأحرار في دمشق والقدس وسواهما، بل كانوا إلى جانب المعتدين عليهم.

ومع ذلك.. مع كلّ الآلام والأحزان والمآسي والكوارث، يبقى شاعرنا متفائلاً بالفرج والنصر في سائر أحواله.. اسمعه وهو يحمّل الحجيج تحياته إلى الرسول القائد –عليه صلوات الله- يحمّلهم أحلامه وآماله في نصر قريب، برغم تكاثف الظلام وتكاثر الظُّلام:

إني هنا، وأحبّتي، نرنو إلى     نصـرٍ مبين لا محالة  آتي

نصرٍ من الله العزيز وإنني     لأرى البشائر تملأ الساحات

إني لأبصرها يزاحم فجرُها    جيشَ الظـلام بقـوة وثبات

وفي خطابه لحمامات الحرم، وهو خطاب مترع بالآلام والأحزان، نراه يقول لها:

لا تطـيلي الفـكر فالله الذي     فجَّر الماء من الصّخر الأصمّ

سوف يحيي البلد الميْت وإن     طال ليل الظّـلم فيه وادلـهمّ

وسيغدو الروض فجراً مشرقاً     ويفيض النـور منه  بالنِّـعم

إنها الثقة بالله، ثم بالشعب، بعودة النور وانقشاع الظلام:

نعمْ سيشرق فجرٌ لا أشـكّ بـه    ينير للسالكين الدّرب والشُّعَـبا

فالليل مهما عتا أو صال منتفخاً     فليس يمكنه أن يطفئ الشُّهـبا

والتفاؤل من أجمل ما يتّسم به الأدب الإسلامي.. تراه ينهي به أكثر قصائده، برغم ما فيها من آلام وأشجان. وهذا الروح المتفائل به لا يكاد يغادرها.. تطالعه في ثنايا المواجع.. وهذه سمة قلَّ أن تراها لدى غيره من الشعراء غير الملتزمين بمذهب الإسلامية الأدبية.

وشاعرنا مصوّر ورسّام مبدع، يملك ريشة فنان، يرسم بها ويلوّن، حتى يخرج القصيدة لوحة فنيّة بارعة، كما في قصيدته (منظر) التي رسم بها مخموريْنِ تافهيْنِ، ثم علّق على حياة هؤلاء التافهين بقوله:

لكنه الإنسان إن جحد  الإله دنا وهـان

بئست حياة التافهين وبئس ذان التافهان

وفي (خمسون عاماً) صورٌ حيّة بديعة، فقد كانت مسرحاً للحياة، تعجّ بالأحياء وتضطرب، كانت المسرح، وكان الممثّل، يحياها لحظة لحظة، ويمشيها خطوة خطوة، نَفَساً نفساً، بحلوها وعلقمها.. وشتان بين صور وصور، وبين خيال وخيال.. بين خيال شاعرنا، وبين أخيلة شعراء يمتحون من المستنقعات، لأنهم يعيشونها جنساً، وسُكْراً، ومجوناً، فجاءت أخيلتهم مريضة، تنقل عدواها تلوّثاً روحياً، ونفسياً، وجسديّاً لتشكّل إيدزاً فنياً يصيب الشعر والأدب والفن بلوثات كارثية غثائية تودي بحياة كل من يراهق بها وحولها.

ولشاعرنا ديباجة صافية، يتأنّق في صوغها من مفردات متجانسات، وعبارات متساوقات، وصور متناسقات، وأخيلة متجاذبات، ومن هذه الديباجة الحافلة بالحياة والتنوع، وهي تنتقل بك من الخبر إلى الإنشاء، ومن الإنشاء إلى الخبر، في حركة لطيفة، تحرّك العقول، وتثير المشاعر، وتلهب الأحاسيس في عفوية محبّبة، تجعل صاحبها قريباً إلى قارئه، لصيقاً بسامعه.. هذه الديباجة هي التي تشكّل المعشوق الجميل الذي يهمس لك في أذن نفسك وقلبك، فيتغلغل فيهما، كما تبتلُّ العروق اليابسة بعد صيام وشدّة أوام..

هكذا يطالعك أسلوبه هيّناً ليّناً كأنه حديث عابر، لا يغامر ولا يقامر، حتى إذا خدعتك نفسك، وأردتها على مثيله، خذلك قلمك، وتلجلج لسانك، وعرفتَ أن ما عند شاعرنا فعلٌ آخر، عملٌ يعزّ مناله:

أنا لست من أهل السياسـة    أبـداً ولا هـدفي الرئاسة

فعلامَ أقتل عمري  المحدود    فـي سـوق النّخاسـة ؟

إن امتلاك شاعرنا ناصية اللغة، مكّنه من الإفصاح عمّا يعتمل في نفسه من حبّ الطبيعة، وعشق الجمال، والظمأ للوطن، باستخدام ألفاظ ملائمة لطبيعة الموضوع، فإذا كان الحديث عن الربيع (يا ربيع الحياة) طالعتك المروج الخضر، والورود البيض، والنسيم العليل (وليته وصفه بالبليل، لأن العلّة والمرض لا يتناسبان مع الجمال والتفتح للحياة) والعطر من أزهار الروابي..

وهذه كلّها تثير الرُّؤى،وتستجلب الرغبات.. وفيه نطالع الغصون منمنمات الحواشي، والفروع المدللات الحواني، وفرحة الميلاد، واللحن البديع يتغنّى بلحنه كلُّ شاد، والقلب المبرعم.. إلى آخر ما هنالك من جمال السلاسة، وعذوبة الألفاظ، كأنك تغرف بكفّي روحك من سلسبيل رقراق ينساب بين المروج أمامك، تحفّه الأطياب.. تغرف عذباً فراتاً تنتشي له روحك، ويرقّ قلبك، فيطير بجناحي سحابة من عبير، ينظر من علٍ إلى هذا الزمان المسكون بالقهر، والغدر، والجبن، والبخل، والرياء والنفاق، والكذب وسوء الأخلاق، ثم ما تلبث سحابة العبير أن تأخذ بيد قلبك إلى رياض الأمن والطمأنينة، بعطورها وأفيائها وأشذائها.

هذا هو الطابع الأصيل لشاعر العطر والجمال، والآلام والآمال، ولكنك تراه –مرة أخرى- في غير هذه الرياض.. تراه في الميدان جهير الصوت، عالي النبرة، متناسباً مع طبول الحرب، وصيحات التحدّي، ودويّ النفير:

مَـنْ هيّجَ القلبَ حتى ثار بركانـاً     وفجّر الروح إعصاراً ونيرانا ؟

نـام الخليّون وارتاحت نفوسهمـو     للذلّ ، وانتفض الشاهين عُريانا

محلّقاً فوق هام الشامخات ، ومـَنْ      يهوَ الضياء يرَ الإغضاء كفرانا

ما كانت الحرب في يوم نذير أسى     هي  البشير فسـلْ عنها سرايانا

مـا كانت الحرب  في يوم لترهبنا     نحن الأباة ، ولا نخشى منايانـا

نستـشرف القـدر المكتوب نقرؤه     ولا نرى فيه غير النصر عنوانا

لقد خرج الشاعر عما اعتدنا أن نراه في شعره، من نغم ناعم هادئ هامس، يغلب عليه الآسى، إلى هذه الموسيقا الحربية الصاخبة، بما فيها من كلمات تملأ الفم، وتثير المشاعر، فقد أضفت على النص جوّه الملائم له، بإيحاءات يتلقّاها المتلقّون بما يناسبها من انفعال يسوق إلى الوغى.. وهذا غير ما تثيره في نفسك قصيدته (تسبيح) من خشوع وخضوع، وسموّ وسموق، في مناجاة الخالق العظيم:

لك يا ربي خضوعي   لا لغيرك

ولا تعليق..