مائدة حلوى الماء

دعوة للدكتور محمد عبد الله القواسمة للحوار على

 مائدة حلوى الماء ( مجموعة قصصية للكاتبة انتصار عباس )

د. عمر عبد الهادي عتيق

falasteen5000@hotmail.com

مشرف أكاديمي في جامعة القدس المفتوحة

فلسطين جنين

قرأت  قبل شهور مجموعة قصصية موسومة بـ ( حلوى الماء ) للكاتبة انتصار عباس ، وقد حفزتني عتبة العنوان للسياحة في المعمار الفني لقصص حلوى الماء ، وأفضت تأملاتي في هندسة النص السردي لتلك المجموعة إلى حزمة من المثيرات الأسلوبية شكلت دراسة بعنوان ( إشراقات أسلوبية في مجموعة حلوى الماء )  ، إذ رصدت الفضاء المكاني والفضاء الإنساني،  وستنشر في مجلة ثقافية أردنية مرموقة قريبا .

وقرأت قبل أيام مقالا في جريدة الرأي الإلكترونية بعنوان ( حلوى الماء لانتصار عباس: قصص أثقلها تصوير الواقع .. بقلم : د. محمد عبد الله القواسمة ) . وقد أثارني الجزء الثاني من عنوان المقال ( ... قصص أثقلها تصوير الواقع ) ، الذي يشير إلى  أن الزميل الناقد يبحر في الاتجاه الآخر ، و تؤكد بوصلة العنوان أن الناقد سخّر العنوان لحمل حكم نقدي مسبق لم يألفه الدرس النقدي ، ولا يخفى على الزميل الناقد أن استراتيجية العنوان في الخطاب النقدي توصي بأن يكون العنوان إشهاريا ، وليس تشهيريا ! ، فالبناء الإشهاري للعنوان مهارة تهدف إلى تسويق النص النقدي والنص المدروس بوساطة  لغة تنتمي إلى منهج نقدي أو رؤية نقدية مؤسسة على أبجديات نقدية ، أما الخطاب التشهيري للعنوان فهو موقف ذاتي من النص المدروس يتخلى عن لغة تنتمي إلى منهج نقدي ، كما أن الخطاب التشهيري هو خطاب تحريضي يهدف إلى دفع القارئ إلى اتخاذ موقف سلبي من النص المدروس . ولا أظن أن الزميل الناقد يتعمد التشهير بالنص المنقود أو دفع القارئ إلى اتخاذ موقف سلبي مسبق ، واستئناسا بما تقدم ينبغي إسقاط الجزء الثاني من عنوان المقال أو إعادة صياغته ليتصالح مع مقتضيات الدرس النقدي ولنفي صفة التشهير عن العنوان .

ولا نكاد نغادر عتبة عنوان المقال حتى يفاجئنا الزميل الناقد بقوله : ((لكن الفن إذا ما اقترب من الواقع، وزاد التصاقه بحرفيته وقوانينه فإنه يفقد كثيراً من جماليته؛ من هذه الرؤية للعلاقة بين الفن والواقع يمكن مقاربة قصص مجموعة حلوى الماء )) ، وليسمح لي الزميل الناقد بطرح حزمة من التساؤلات : ما المدى المسموح به لاقتراب الفن من الواقع ؟ وما هي معايير الالتصاق والحرفية والقوانين التي تفضلت بها ؟ وكيف يمكن أن يفضي تماهي الواقع والفن إلى فقدان جمال النص السردي ؟  لا يخفى عليك عزيزي الناقد أن جينات النص السردي تتخلق في رحم الواقع بكل دقائقه وتفاصيله ، وأن أي نص سردي يولد خارج رحم الواقع هو ابن غير شرعي للقصة بأشكالها كافة . وتأسيسا على هذه العلاقة الجدلية بين الفن والواقع ظهرت المدرسة الواقعية بمختلف مشاربها الثقافية ( النقدية والتسجيلية والاشتراكية ) التي تنتمي إليها أجيال من الروائيين ، وظهرت مناهج نقدية وبخاصة المنهج الاجتماعي  لرصد علاقة النص السردي بالواقع ، وكلي يقين أن الزميل الناقد يعلم أن شيخ الروائيين الفرنسيين ( بلزاك ) كان يقول : إن المجتمع الفرنسي سيكون هو المؤرخ أما أنا فلست إلا سكرتيرا له ... وبلزاك هذا هو الذي هدى رائد الرواية العربية محمود تيمور إلى مذهب الريالزم ( الحقائق ) الذي ينص على تصوير الحياة كما هي ... ، ولا أسوق الأدلة على العلاقة الانصهارية بين الواقع والقصة لأحتمي بعباءة بلزاك أو لألوذ بفناء تيمور ، ولكن أحرص على الرأي الموضوعي بعيدا عن الهوى الذاتي . واستئناسا بما تقدم فإن التصاق قصص حلوى الماء بالواقع يصبح إنجازا سرديا يستقطب الإعجاب بامتياز .

أما تأثير حرفية الواقع على جماليات القصة فإني أدعو الزميل الناقد إلى إعادة النظر في التقنيات السردية التي تجلت في مجموعة حلوى الماء من حيث البناء اللغوي المؤسس على بنية استعارية عميقة في غير موضع من المجموعة ، والمونولوج والحبكة والصراع الداخلي وغيرها من العناصر الفنية التي سجلت حضورا لافتا يستبعد أي احتمال لخسارة جمالية بسبب التصاق القصة بالواقع .

وليسمح لي الزميل الناقد باقتباس قوله : ((هكذا يعرض الواقع في صور حقيقية لا تندمج في صراع داخلي أو خارجي، ويبقى المتلقي أسيراً لوصف الواقع بجمل قصيرة اسمية وفعلية، وينتهي المشهدان إلى الخواء.))  هكذا انتهى تقييم الناقد لأبرز المشاهد القصصية التي تحوي صراعا داخليا عنيفا ، إذ كيف يمكن نفي الصراع الداخلي عن ذلك الرجل المستلقي على السرير ولا يملك من حطام الدنيا إلا رغبات لا تتحقق إلا في أحلام اليقظة فوق سرير يعلوه سقف مليء بالعطب ، فتتحول بقع العطب إلى كوكبة من النساء في ليلة حمراء و يشكل من عطب السقف أجسادا تفيض أنوثة ونشوة ...  وبعد أن يملأ جوف حرمانه وهما ... يغرق في النوم ،  أليس هذا صراعا داخليا مزلزلا ؟!!! وعلى هذا يصلح القياس .... ،ويمكن أن نختلف في الإيحاءات الدلالية للصراع ، ولكن لا ينبغي أن نختلف على وجود الصراع . ثم أين الخلل الفني في الجمل القصيرة ؟ ألا تعتمد القصة القصيرة على الجمل القصيرة المكثفة الموحية ؟ فالسادر لا يملك مساحة سياقية ليسترخي في سرده ، لذلك يتوسل بالكثافة الدلالية للجمل القصيرة التي تختزل مساحات دلالية شاسعة إذا أحسن المتلقي تفكيكها . ثم دعني أهمس لك أيها الزميل العزيز : ألا ترى أن كلمة ( خواء ) في قولك : ((وينتهي المشهدان إلى الخواء )) تحوي حكما نقديا عنيفا جارحا ؟! لا أظن أن ( سانت بييف ) الناقد الفرنسي المعروف بصراحته النقدية كان يملك هذه الجسارة في الأحكام النقدية ... ولا بد أنك تملك قائمة من البدائل اللغوية أكثر انسجاما من وقع الخواء .

وأدعوك أن نقف معا على شرفات ( قصة الزائرة ) التي لم ترق لك زيارتها ، فخرجت من تلك الزيارة بقولك : ((ويتحول هذا السرد إلى هذيان ينهض به الرجل بسبب الحمى، ويخبرنا عن مجيء الزوجة والأم والأب. إنه هذيان لا يعايش حدثاً، ولا يقدم أبعاد الشخصية، ولا يبعث الحياة في الموقف، وكأن هؤلاء الزوجة والأهل لا مبرر لمجيئهم أصلاً، فالحدث لا يتطور، وينتهي بنهاية القصة ))  ماذا تريد أن تكون مواصفات الحدث السردي ؟ لا يخفى عليك أن الحدث السردي ينبغي أن يكون بسيطا عفويا تلقائيا ، ولا أحد يرغب أن يكون الحدث نابعا من منظومة قيم كبرى أو مستلا من ميادين الملاحم ... ومن البدهي أن يفضي حديث الرجل المحموم إلى هذيان ... والهذيان من تجليات النفس الإنسانية ، وماذا نتوقع من رجل محموم سوى الهذيان الذي يجسد حالة إنسانية قادرة على استقطاب تعاطف القارئ ، ولا أختلف معك أن شخصيات الزوجة والأهل لا يشكلون مفصلا رئيسا في الحدث ، ولكن وجودهم ضرورة فنية ، لأنهم إطار إنساني مكمل للشخصية الرئيسة ( الرجل المحموم ) ، ولو غابوا عن المشهد لاقتضى البناء الفني حضور السارد ، إذ لا يمكن أن تخلق الشخصية ذاتها أو أن تجسد حدثا بلا شخصيات ثانوية .

وأسجل لك جرأة أخشى عليك من عواقبها من جمهور حواء  بعد أن وصفت قصة ( دفء ) بـ ( الثرثرة النسائية ) ، فالقصة تعرض لثلاث صديقات في ليلة مشبعة بالدفء والتأمل يتخللها تراشق بالكلمات ، وهل يحلو التراشق بالكلمات إلا بين الأصدقاء ، فلماذا تسميها ( ثرثرة نسائية ) ؟ . وفي ( قصة حب ) أوافقك على وصفك للقصة بـ ( التأملات ) ، ولكني لا أفهم معنى ( الشطحات الفكرية ) التي أضفتها بعد التأملات ، وأزعم أن ( الشطحات ) لا أصل لها في اللغة ، فإذا وجدت في لسان العرب أصلا لها ، فسأسجل لك شكرا موصولا .

ويبدو أن (قصة حب ) قد استوقفتك طويلا  ، وأرى أن حكمك عليها يتراوح بين الإعجاب والنفور ، فتارة تصفها بـ( الشطحات الفكرية ) وتارة تقول : ((وفي قصة حب تتحول القصة إلى تأملات فكرية وفلسفية في الطبيعة والحب والناس، وهي تأملات بسيطة )) ألا يعد هذا القول إعجابا وثناء ؟!  يا عزيزي ينبغي أن يكون التأمل الفكري والفلسفي  بسيطا في النص السردي ؛ لأن السارد ليس مفكرا ولا فيلسوفا ، فهو فنان يحول الرؤية الفكرية المركبة إلى رؤية فنية بسيطة وشائقة ... ولا أظن أنك تخالفني في هذا الرأي .

 سأتجاوز عن بعض المحطات التي وقفت عليها في مقالك  لئلا يكون طول الحوار معك خرقا للمألوف في السجال النقدي ، ولكن ليتسع صدرك إلى ملاحظة أخيرة تعقيبا على قولك : ((ويبدو الواقع المسرود ساذجاً في قصتَي بلبلة ، و رائحة )) ألا ترى أن وصف الواقع المسرود بالسذاجة هو حكم بسذاجة الشريحة الاجتماعية التي تمثل الواقع المسرود ؟ فالشخصيات لا تنسلخ عن الحدث مهما كان الحدث بسيطا وعفويا وهامشيا .