رسائل النور والأدب الإيماني (2)

إحسان قاسم الصالحي

رسائل النور والأدب الإيماني

(2)

إحسان قاسم الصالحي

مركز رسائل النور ـ استانبول

لعل من أعظم العوامل التي تفتح آفاق المعرفة الإيمانية أمام قارئ الرسائل  وتجعله  يعيش في أجوائها الرحبة وهو يكدح في خضم حياته اليومية هو:

1- تمزيق أستار الإلفة والعادة:

يقول الأستاذ النورسي بأسلوبه الأدبي:

"لما عجز الإنسان بنظره السطحي أن يتذوق ما في جفان الكائنات وصحونها من غذاء روحي مغطى بغطاء الإلفة، سئم من لعق الجفان ولَحْس الغطاء. ولم يفده سوى عدم القناعة، والتلهف إلى خوارق العادات والرغبة في الخيالات، مما ولّد لديه الرغبة في المبالغة للتجدد أو الترويج.." [1].

إلاّ أن الإلفة - التي هي أخت الجهل المركب وأم النظر السطحي - هي التي عصبت عيون المبالغين.

ولا يفتح تلك العيون المعصوبة إلاّ أمر القرآن الكريم بالتدبر والتأمل في الآفاق والأنفس المألوفتين.

نعم! إن نجوم القرآن الثاقبة هي التي تفتح الأبصار وترفع ظلام الجهل وظلمات النظرة العابرة. إذ تمزق الآيات البينات بيدها البيضاء حجاب الإلفة والنظر السطحي.." [2].

فـ" القرآن الكريم، ببيناته القوية النافذة، إنما يمزّق غطاء الإلفة وستار العادة الملقى على موجودات الكون قاطبة، والتي لا تُذكر إلاّ أنها عادية مألوفة مع أنها خوارق قدرةٍ بديعة ومعجزاتها العظيمة. فيكشف القرآن بتمزيقه ذلك الغطاء حقائق عجيبة لذوي الشعور، ويُلفت أنظارهم إلى ما فيها من دروس بليغة للاعتبار والعظة، فاتحاً كنزاً لا يفنى للعلوم أمام العقول"[3].

ورسائل النور تقتفي أثر القرآن العظيم في تمزيقه لغطاء العادة والمألوف ، إذ ما أن يطالع المرء رسائل النور ويداوم على قراءتها حتى يشاهد أن الأستار المانعة لرؤية الحقائق وحُجُبَها الملقاة على الموجودات والأحداث تتمزق أمامه وتتلاشى، فيرى معجزات القدرة الإلهية وخوارق العادات في عين العاديات من الأمور و الأشياء التي أصبحت  شفافة تشف عما تحتها ووراءها، فيرى من خلال حجب الأسباب الظاهرية للأحداث والوقائع، الأسبابَ الحقيقية للقدر الإلهي والحكمة الربانية. فلا يضطرب تجاه الحوادث ولا يقلق أمام المصائب والنوائب.

وهكذا بتحرره من النظر السطحي العابر، وبزوال ركام الشبهات والحواجز ، ينفتح أمامه باب واسع جداً وهو :

2- التعامل مع معاني الأسماء الحسنى:

إن من يداوم على قراءة الرسائل ينظر إلى الموجودات نظرة يراها  كالحروف التي تفتقر إلى معنى في ذاتها . فتحتاج لمعرفة ماهيتها إلى إسم من الأسماء الحسنى؛ حتى تصبح هذه النظرة القرآنية لديه مَلَكة. فيشعر أنه يزاول تعاملاً ذوقياً وقلبياً وروحياً وفكرياً مع معاني الأسماء الحسنى، لا تعاملا نظريا ، بل استكشافياً، فيشاهد أنوار تجليات تلك الأسماء فيما حوله من موجودات، وفي الحوادث اليومية، وذلك لكثرة ما تضع الرسائل بين يديه من ضرب الأمثال الحياتية الواقعية، فيحيا بتلك المعاني الجميلة بعقله وقلبه وروحه بل بجميع لطائفه وأحاسيسه ومشاعره.

وبهذه الروح المتفاعلة مع الموجودات تصبح الموجودات والحوادث لقارئ الرسائل  مرايا لتجليات الأسماء الحسنى، ومكاتيب ربانية مفتوحة يفهم منها معانيها الحقيقية وحكمة وجودها ، حتى لا يبقى مجال للغفلة عن المولى الكريم، بل يكتسب القارئ بهذه النظرة القرآنية بالتأمل فيها مرتبة من الاطمئنان والانشراح القلبي، وتفتح أمامه عبودية دائمة وواسعة  سعة الكون.. وعندها تتحول أنواع العلوم التي يقرؤها من خلال مناهج دراسية وأشكال الثقافة التي يتلقاها عبر قنوات ثقافية وإعلامية المسموعة والمرئية إلى أدوات لمعرفة الله ونوافذ تطل على التوحيد. وكلما عاود القراءة، ظهرت له من  معاني الأسماء الحسنى أكثر، وأتته حقائقها تترى في تجاربه اليومية وفي معاملاته الحياتية. وكلما انسكبت  أنوار من تلك المعرفة الإلهية بأسلوب أدبي آسر إلى روح القارئ ونفذت إلى قلبه انعكست في سلوكياته وتصرفاته، حتى تطفح على محياه.

وحينها يصدق عليه قول الشاعر محمد إقبال رحمه الله تعالى:

إنما الكافرُ حيرانٌ لـه الآفاقُ تيـه

وأرى المؤمنَ كوناً تاهت الآفاقُ فيه

وختاما، رحم الله أستاذنا النورسي رحمة واسعة، وأجزل مثوبته، ورفع مقامه، وألحقه بموكب الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقاً.

والله نسأل أن يوفقنا إلى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

وصل اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.


[1]   بديع الزمان سعيد النورسي، صيقل الإسلام محاكمات عقلية ص 64 ترحمة وتحقبق إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر ط 1 سنة 1992

[2]   صيقل الإسلام محاكمات عقلية ص 63

[3]  بديع الزمان سعيد النورسي ،الكلمات ص 150، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر ط 1 سنة 1992