السلسة والغفران
الدعوة إلى التوبة وإلى فضائل الأعمال
في مسرحية (السلسلة والغفران)
عبد الحكيم الزبيدي
كتب علي أحمد باكثير هذه المسرحية عام 1949م وفازت بجائزة وزارة المعارف في مصر لنفس العام. وقد عدها أحد النقاد نموذجاً للأمثولة المسرحية (Allegorical Play)في الأدب العربي، وعرف الأمثولة بأنها "تعني أن المسرحية تحمل وراء مبنى القصة الظاهر معنىً ثانياً بقصد التعليم أو الوعظ"([1])
قدم باكثير لهذه المسرحية –كعادته في كل أعماله الأدبية– بآيات من القرآن الكريم هي قوله تعالى "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين * والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون"([2]) وفي ظل هذه الآيات الكريمة نستطيع أن نضع يدنا على المعنى الذي يهدف إليه الكاتب من هذه المسرحية: إنه الدعوة للمسارعة إلى التوبة وعدم الإصرار على المعصية ودعوة إلى فضائل الأخلاق المتمثلة في الإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس والإحسان إليهم.
وإذا تتبعنا هذه المعاني الأخلاقية الفاضلة سنجد أنها ماثلة في المسرحية في شخصية بطلها عبدالتواب بن صالح المقدادي. وقبل أن نشير إلى هذه الفضائل في المسرحية نود أن نقدم ملخصاً سريعاً لأحداث المسرحية.
ملخص لأحداث المسرحية:
تدور أحداث المسرحية في مصر زمن أحمد بن طولون. قسم المؤلف مسرحيته إلى ثلاثة فصول تنقسم إلى سبعة مشاهد. في الفصل الأول نرى عبدالتواب بن صالح المقدادي الثري الذي يحسن إلى أخته الأرملة وبناتها حتى يزوجهن كلهن ويحسن إلى أخيه عبدالجواد الشحيح البخيل الذي لا يفتأ يطالب أخاه عبدالتواب بالإحسان إلى أولاده أسوة ببنات أختهم ورغم أنه يعمل ويكسب الكثير من المال إلا أنه مستمر في طلباته من أخيه الثري عبدالتواب الذي لم يكن يقصر في تلبية طلباته والإفضال عليه.
ونعلم من سير الأحداث أن عبدالتواب قد وقع في المعصية وذلك بارتكاب جريمة الزناء مع زوجة صديقه قاسم المغربي الذي أفلس وزج به في السجن ولجأت أم زوجته (أم مستور) إلى عبدالتواب صديقه للمساعدة في إخراج قاسم من السجن بإرضاء دائنيه حتى يفرج عنه. وفي أثناء ذلك تعرف عبدالتواب إلى زوجة صديقه قاسم (غيداء) وارتكب معها الفاحشة فحملت منه سفاحاً وحتى لا ينكشف أمرها سقتها أمها بعض الأدوية لإجهاض الجنين فماتت أثناء الإجهاض. وبوفاتها استيقظ ضمير عبدالتواب وندم أشد الندم على ما اقترف من جرم وتاب إلى الله توبة نصوحاً وبذل ماله لإرضاء خصوم قاسم المغربي حتى أفرج عنه وظل يحسن إلى أم مستور. وحين خرج قاسم من السجن أعطاه عبدالتواب حلي أخته ليبيعها ويبدأ بقيمتها مشروعاً تجارياً يكون عبدالتواب شريكاً فيه ليبدأ حياة جديدة ويتمكن من سداد ديون عبدالتواب وسافر قاسم إلى الشام ليبدأ تجارته الجديدة هناك.
وفي المشهد الثالث من نفس الفصل يتزوج عبدالتواب من كوثر وهي فتاة حديثة السن أفسدها دلال أبيها فكانت لا تقدر لزوجها حقه تقضي يومها إما في النوم أو في زيارة أبيها ولم تمكن زوجها حتى من حقوقه الزوجية التي أحلها الله له. ولكن عبدالتواب كان يصبر عليها أملاً في ان تتبدل أحوالها إلى الأحسن يوماً ما. وفي نهاية الفصل يسافر عبدالتواب إلى الشام بناء على طلب شريكه وصديقه قاسم الذي توسعت تجارته في الشام ونمت فاحتاج إلى معونة صديقه عبدالتواب الذي كانت تجارته في مصر في كساد فسافر إلى الشام.
في الفصل الثاني يعود عبدالتواب من الشام بعد عام ونصف فيجد زوجته مريضة في بيت أهلها، وحين يطلب أن تنقل إلى بيته لتمرض هناك يرفض أهلها ذلك بشدة كما يرفضون اقتراحه أن يبعث إليها طبيباً ليكشف عليها ويصف لها الدواء بحجة أن ذلك حرام. ويشك عبدالتواب في الأمر ثم أم مستور للزيارة عبدالتواب في بيته وتلمح له ثم تصرح بأن زوجته حُبلى من الزناء وأن مستوراً ابنها هو الجاني وتظهر أم مستور حقدها وتشفيها وشماتتها بعبدالتواب لما حل بزوجته. ولكن عبدالتواب يذهب إلى بيت أهل زوجته ويطلب منهم أن تنقل زوجته إلى بيته حتى تضع حملها، وأنه سيستر عليها ولن يفضحها. فيشكره أبوها وأمها وهما لا يكادان يصدقان ما يسمعان وينهالان على قدميه بالتقبيل. وفي نفس الفصل يتزوج مستور من أخت قاسم المغربي ثم يستدعى للرحيل مع الجيش الذاهب إلى حلب لأنه جندي، فيسافر بعد عرسه بأسبوعين.
في المشهد الأول من الفصل الثالث الذي تدور أحداثه بعد سبعة أعوام من أحداث الفصل الثاني نجد عبدالتواب يعيش عيشة هانئة سعيدة مع زوجته كوثر وأولادهما أسامة وشافعة ونعلم أن أسامة هو نتيجة الحمل السفاح ولكن عبدالتواب وأخته (آسية) يحبانه ولا يفرقان بينه وبين أخته في المعاملة بل لعلهما يدللانه أكثر لما يريان من تحامل أمه عليه وشدتها معه لأنه يذكرها بإثمها.
وفي هذا المشهد نعلم أن مستوراً قد قتل زوجته لأنه عاد من رحلته مع الجيش فوجدها حُبلى ويقبض عليه ويودع السجن، فيجن جنون أمه (أم مستور) وتقدم على عبدالتواب وهي ترغي وتزبد وتهدده بفضح أمره لصديقه قاسم حتى لا يهنأ بعيش بينما ابنتها في القبر وابنها في السجن. ولكن عبدالتواب يحاول تهدئتها ويطلب منها أن لا تفضح سر ابنتها وهي في القبر خاصة أن زوجها قاسم المغربي شديد الوفاء لذكراها ويبر أمها لأجلها. فتهدأ أم مستور قليلاً ولكنها تهدد بإفشاء سر زوجته كوثر وتستره عليها وتخبر عبدالجواد أخا عبدالتواب ولكن عبدالجواد يستطيع أن يقنع أم مستور بكتم الأمر بعد أن يهددها برفع أمرها للسلطان ليوقع بها حد القوادات لأن ابنها اعتدى على كوثر في بيتها وبعلم منها، كما وعدها بأن يشفع لها عند السلطان ليخفف العقوبة عن ابنها لحال أمه التي لا عائل لها سواه.
وفي المشهد الثاني نجد عبدالتواب على فراش الموت وقد أحضر أخوه عبدالجواد الشيخ بكار ليستفتيه في أمر أسامة وهل يحق له أن يرث من عبدالتواب فأفتاه الشيخ بأنه بمثابة ابنه ويحق له شرعاً أن يرث فيسر عبدالتواب لذلك. ويطلب عبدالتواب أن يرى أم مستور ويسألها أن تسامحه فتفعل بعد أن يخبرها أنه كان على علم بكل ما دبرته للانتقام منه. كما يعترف لصديقه قاسم بالجريمة التي ارتكبها مع زوجته ويطلب منه أن يسامحه فيسامحه قاسم. فيسر عبدالتواب ويموت في نهاية المسرحية قرير العين.
المعنى الذي تهدف إليه المسرحية:
قد يبدو للقارئ من الوهلة الأولى أن المسرحية مبنية على مبدأ "كما تدين تدان"، كما فهم ذلك أحد النقاد حين قال: " وقد بنى الأستاذ مسرحيته على مبدأ "كما تدين تدان" ونص على ذلك صراحة، فجعل الجاني في كل مرة مجنياً عليه في المرة التالية، وهكذا حتى انكسرت السلسلة بفضل استغفار عبدالتواب"([3]).ثم يوضح اعتراضه على هذا المبدأ بقوله: "أما أن يحاول المؤلف أن يؤكد للقارئ أن المقادير ستفعل بالجاني مثل ما فعل، وستتولى هي أن تجعل المعتدي معتدى عليه لا مناص له من ذلك ولا منجاة، فقد أراح القارئ وسره وأفرحه، وأخلاه من كل مسؤولية عن مفاسد هذه الحياة"([4])
والذي يظهر لي من خلال قراءتي للمسرحية أكثر من مرة هو خلاف ذلك. إن السلسلة التي عناها باكثير في هذه المسرحية –في رأيي- هي سلسلة الخطايا التي يرتكبها البشر دون أن تقطعها المغفرة. بمعنى أن الإنسان إذا ارتكب معصية –وهو ببشريته معرض لذلك- فإن عليه أن يسارع إلى التوبة، عملاً بالآية الكريمة التي صدر بها باكثير مسرحيته وهي قوله تعالى }والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون|، وفي حالة التوبة الصادقة يحصل الإنسان على المغفرة التي تقطع سلسلة الخطيئة فلا تتواصل حلقاتها.
وإذا كان للخطيئة طرف آخر –كما هو الحال في جريمة الزناء موضوع المسرحية- فلابد كي يفوز المرء بالمغفرة من استرضاء وعفو الطرف الآخر. وإذا لم يحصل هذا العفو فإن السلسلة ستستمر. كيف؟ إذا لم يعفُ الطرف الآخر فإنه سيسعى للانتقام، تماماً كما سعت أم مستور للانتقام من عبدالتواب في زوجته (كوثر) فأغرت ابنها مستوراً بالفجور بها. فما حدث لكوثر هو انتقام أم مستور وليس انتقام الله –حاشاه عز وجل- وإن كانت أم مستور أرادت أن توهم عبدالتواب أن ذلك هو الانتقام الإلهي حين قالت له وهي تزف له خبر حمل زوجته من الزناء بكل حقدٍ وتشفٍٍ: "حبلى في شهرها السابع! الحمد لله إذ أحياني حتى رأيت الانتقام الإلهي قد حل بك وحق عليك! الآن استراح قلبي واشتفى غليلي!"([5])
أما ما حدث لمستور مع زوجته، فإن المسرحية لا تجزم أنه فعلاً وجدها حبلى من الزناء، بل لقد قال قاسم لعبدالتواب حين عاتبه على تخليه عن رعاية أم مستور بعد جريمة ابنها، قال قاسم: "نعم ... ما عدت أطيق رؤيتها بعد الذي كان من ابنها يا عبدالتواب. إنه فضح أختي ولوث سمعتي بدون بينة."[6] فهذا نص صريح أن مستوراً قتل زوجته دون بينة، بمجرد الشك، والشك منشأه أن مستوراً نفسه فجر بامرأةٍ وزوجها مسافر، فظل الشك يساوره في كل امرأة يغيب عنها زوجها، فكان أن شك في امرأته حين عاد من سفر طويل ثم تعجل فقتلها قبل أن يثبت صدق شكه من عدمه. ولو أن مستوراً تاب إلى الله بعد فجوره بكوثر واستسمح من الطرف الآخر، لاطمأن قلبه ولما ارتكب جريمته تلك حتى لو صح أن زوجته فجرت فعلاً في غيابه.
وحين شمتت أم كوثر (ميمونة) لما حل بمستور قائلة لابنتها:
(بصوت خافض) افرحي يا كوثر ها قد انتقم الله لك من الجاني الأثيم.. جزاء عادل وانتقام بالغ يشفي الغليل. |
ميمونة: |
(متأففة) أقصري يا أماه فما هذا بموضع للشماتة |
كوثر: |
لم لا يا بنتي؟ لقد سقاه الله كاساً سقانا بمثلها من قبل |
ميمونة: |
إن جاز لنا أن نشمت بالجاني فماذا جنت فوز علينا وماذا جنى أخوها قاسم المغربي فيستحقا منا الشماتة؟ |
كوثر:
|
كل امرئ ذنبه في جنبه |
ميمونة: |
هذا قضاء الله يا أماه.. لعل المسكينة استدرجت فزلت. اتقي الله في الناس واسأليه دوام الستر"([7]) |
كوثر: |
إن هذا النص –في رأيي- يقطع بأن المؤلف لم يكن يقصد أن ما حدث لكوثر كان انتقاماً إلهياً لمعصية زوجها، كما أن ما حدث لفوز لم يكن انتقاماً إلهياً لما ارتكبه زوجها مستور من جرم. وإلا فماذا جنت فوز؟ كما ورد على لسان كوثر، إن الله أعدل من أن يعاقب شخصاً لذنب جناه غيره. وكوثر حين كانت ترثي لحال فوز وتقول عنها: "لعل المسكينة استدرجت فزلت"..إنما كانت تتحدث عن نفسها وتستعيد ما حدث معها هي.
إن السلسلة التي ترمز إليها المسرحية – في رأيي- هي سلسلة الخطايا والبعد عن الله، فلو سارع الناس إلى التوبة والاستغفار بعد كل معصية لوسعتهم رحمة الله ولتراحموا فيما بينهم فانقطعت سلسلة الخطايا عن رقابهم. يؤكد ذلك قول عبدالتواب لأم مستور حين علم بأن ابنها قتل زوجته: ".. سامحيني يا أم مستور. هذا قضاء الله المكتوب.. هذه سلسلة الخطيئة انتظمتنا جميعاً ولا يقطعها إلا الغفران.. اغفري لي يا أم مستور كيما تنقطع السلسلة."([8]) وقول عبدالتواب لقاسم بعد أن اعترف له عبدالتواب بما كان منه وسامحه قاسم: "ها قد انقطعت يا قاسم! قد سقطت من عنقي! هنئني يا قاسم هنئني.. أنا الآن حر طليق!"([9])
الدعوة إلى فضائل الأخلاق
ذكرنا في مستهل المقال أن الفضائل الأخلاقية التي تدعو إليها الآيات الكريمة التي صدر بها باكثير مسرحيته متمثلة في شخصية عبدالتواب بطل المسرحية. كان عبدالتواب ينفق في السراء والضراء، فقد كفل أخته الأرملة وبناتها حتى زوجهن كلهن، وحين زوج صغراهن (الرباب) كان في ضائقة مالية بسبب كساد تجارته ولكنه لم يقصر بها عما فعل لأخواتها من تجهيز وأهداها جاريته الخاصة لأنه لم يكن يملك أن يشتري لها جارية جديدة أسوة بأخواتها حتى أن أخته لامته في ذلك فقال لها: "كلا والله لا أقصر بالرباب عن أخواتها من قبل"([10]) كذلك فإنه –لضيق ذات يده- أعطى قاسماً حلي أخته ليبيعها ويبدأ بقيمتها تجارة جديدة له بعد خروجه من السجن.
أما كظمه لغيظه وعفوه وإحسانه فهناك العديد من الأمثلة عليها في المسرحية. فأخوه عبدالجواد كثيراً ما كان يثير غضبه بلومه على الإنفاق على بنات أختهما أو (بنات الغريب) كما يدعوهن بينما لا يفعل نفس الشئ مع أولاد أخيه، إلا أن عبدالتواب يصبر على شدته ويكظم غيظه ويعطيه ما يسأله حتى وهو في حالة من ضيق ذات اليد. ويستمر عبدالجواد في جشعه وطمعه طول أحداث المسرحية فهو تارة يطالب عبدالتواب بالتبرئ من أسامة لأنه ليس من صلبه، حتى لا يدخل في نسبه من ليس من صلبه، بينما هو في حقيقة الأمر يخشى أن يحجبه الغلام من أن يرث عبدالتواب، ولما حضرت عبدالتواب الوفاة أحضر عبدالجواد القاضي بكار –دون أن يطلب منه عبدالتواب ذلك- ليستفتيه في أمر أسامة وهو يظن أن القاضي سيفتي بعدم جواز أن يرث، فلما خيب القاضي ظنه، خشي عبدالجواد أن ينقض عبدالتواب وصيته التي أوصى له فيها بعشر ثروته، فيخبره عبدالتواب أنه لن ينقض الوصية. كل هذا التسامح والعفو والإحسان يصدر من عبدالتواب في حق أخيه.
أما تسامح عبدالتواب مع الآخرين فخير ما يمثله إحسانه إلى أم مستور رغم علمه أنها هي التي أغرت مستوراً أن يفجر بزوجته، وهي التي أوعزت إلى الداية التي أحضرها أهل كوثر لتسقط الجنين أن لا تسقطه، وأنها ظلت تحرض عبدالجواد حتى يحمل أخاه على نفي نسب أسامة، ولكن عبدالتواب رغم كل ذلك يظل يحسن إليها ويبرها، ويعوضها عن صلة قاسم التي قطعها بعد جريمة مستور. وأكبر كظم للغيظ وعفو هو صبر عبدالتواب على خطيئة زوجته وستره عليها، وعفوه عنها، وتربيته لابنها وإلحاقه بنسبه وتوريثه. حتى أن بعض النقاد قد أخذ ذلك على باكثير، حيث قال: "الحق أن الأستاذ علي باكثير قد وضع عبدالتواب في موضع لا يتفق لإنسانٍ كائناً من كان أن يقفه، وجعله في درجة لا تكون إلا للملائكة الأبرار"([11])
والذي أراه أن عبدالتواب إنما يمثل البشر المؤمن المتسامي بأخلاقه حتى يكاد يصل إلى درجة الملائكة. لقد وضح المؤلف الصراع الذي عاناه عبدالتواب حين علم بحمل زوجته سفاحاً، وحتى قبل أن يعلم يقيناً فقد شك في الأمر حين عاد من سفره فوجدها مريضة في بيت أهلها وخاصة عندما رفض أهلها الطبيب الذي أحضره، ورفضوا نقلها إلى بيته، ومنعوه حتى من لمسها إذا زارها. يتبين ذلك من حواره مع جاريته صالحة التي ذكرت –دون أت تقصد أي معنى آخر- لفظ "حبلى" أمامه، فيغضب عبدالتواب، وحين تعتذر له إذا كانت جاوزت حدها معه، يزداد غضبه فيقول: "مم تعتذرين؟ أفصحي لي يا جارية إن كنت تعلمين شيئاً لا أعلمه؟"([12]) وحين يقول له أخوه عبدالجواد أنها ليست مريضة، يراع عبدالتواب، ولكنه يهدأ حين يوضح له عبدالجواد قصده أنها تتعلل بالمرض لأنها لا تريده، وحين تنفي أخته (آسية) ذلك الزعم قائلة أنها وأمها كن يكثرن من السؤال عنه في غيبته ويسألن عن موعد عودته، يقول عبدالتواب في شبه ذهول: "أوكانتا تكثران السؤال عن موعد أوبتي يا آسية؟"([13]) وهكذا حين يحاول قاسم التخفيف عن همه من مرض زوجته ويقول له أن أمه قد أصيبت بعرق النسا وهي حبلى فلما وضعت زال عنها، يتمعر وجه عبدالتواب ويظن أن قاسماً يشمت به، ويقول له: "أأنت أيضاً شامت بي يا قاسم ؟"([14]) وحين يذهب إلى بيت زوجته ويتيقن من أنها حبلى، تخور قواه ويتهاوى على المقعد.
كل هذا يؤكد أن المؤلف لم يظهره بمظهر الملائكة بل إنه بشر يحزن ويتألم ويغضب ويحب كسائر البشر ولكنه استطاع أن يتسامى بأخلاقه حتى كاد أن يصل إلى مرتبة الملائكة. إن عبدالتواب قد لا يكون شخصية حقيقية التقطها المؤلف من واقع الحياة، ولكنه مثال لما ينبغي أن يكون عليه المسلم الحق، ومثال لما ينبغي أن يكون عليه أفراد المجتمع المسلم، حتى يصبح مجتمعاً متكافلاً متعاطفاً، يعفو بعضه عن بعضه، وإن صدرت من أي منهم معصية سارع إلى التوبة والاستغفار.
لغة المسرحية
إن المسرحية مبنية بناء محكماً من الناحية الفنية والأحداث تتصاعد فيها تصاعداً منطقياً والحوار فيها على درجة عالية من الجودة وقد ساعد في تطور الصراع والكشف عن طبيعة الشخصيات ومستوياتها الفكرية. وقد صاغ المؤلف الحوار في لغة عربية فصحى سهلة المأخذ مع تطعيمها ببعض المفردات الفصيحة ولا نقول الغريبة، فليست هي بغريبة ولكنها قد تبدو كذلك لبعضنا في الوقت الحاضر، كقول آسية –مثلاً- في بداية المشهد الثالث من الفصل الأول في معرض حديثها عن كوثر: "هذا الضحى قد متع وهي نائمة بعد"([15])، كما طعم حواره أيضاً ببعض المفردات العامية الفصيحة، كقول آسية: "لعلك نمت البارحة نومة طيبة؟" وقول كوثر: "أين صالحة؟ هل أعدت الماء السخن؟"([16])وقول ميمونة لعبدالتواب: "والله لأبوسن قدميك يا سيد الرجال"([17]) وغيرها كثير.
ثقافة باكثير الإسلامية
حرص باكثر في صياغته للمسرحية على الالتزام بتعاليم الإسلام. فقد حرص –مثلاً- على عدم التقاء الرجال والنساء معا إلا من كانت بينهم صلة رحم وكان أحدهم محرماً للآخر. فيما عدا أم مستور العجوز التي كانت تقابل عبدالتواب. من ذلك –على سبيل المثال- حين جاء عبدالتواب إلى منزل أهل زوجته لاصطحابها إلى منزله أصرت ميمونة (أم كوثر) على زوجها (إسماعيل) أن يقابله رغم أنه كان لا يريد أن يلقاه خجلاً مما جنته ابنته، ولكن حين يحضر عبدالتواب ومعه أخته آسية، تقول ميمونة لزوجها: "قد جاء بأخته آسية معه..أدخل حجرتك يا إسماعيل"([18])
وتبدو ثقافة باكثير الإسلامية في فهمه لأحكام الفقه وذلك حين أفتى –على لسان القاضي بكار- بأن إلحاق عبدالتواب أسامة بنسبه وتوريثه موافق للشرع، وأورد الدليل على ذلك من السنة المطهرة وهو قول الرسول ÷ }الولد للفراش وللعاهر الحجر|([19]). وقد حرص باكثير على إيراد ذلك لينفي عن القارئ –غير المتخصص- أية ريبة في شأن هذا الحل الذي أورده. وقد جاء ذلك منطقياً ومنسجماً مع أحداث المسرحية حيث جعل باكثير عبدالجواد أخا عبدالتواب هو الذي يحضر القاضي ليستفتيه عبدالتواب ظناً منه-لجهله بالفقه- أن القاضي سينكر على عبدالتواب، وبذلك يرث عبدالجواد من أخيه بدل أن يحجبه الغلام في حال توريثه. وهذا دليل آخر على إلمام باكثير بعلم الفرائض والمواريث في الإسلام.
دلالة الأسماء
ثمة شئ أخير لفت انتباهي في هذه المسرحية وأرى لزاماً علي أن أشير إليه، ولعله أن يكون موجوداً في أعمال باكثير الأخرى ولكنه واضح كل الوضوح في هذه المسرحية، وهو دلالة أسماء شخصيات المسرحية على كل منهم.
فإسم عبدالتواب يتناسب تماماً مع شخصية عبدالتواب الذي يظهر من أول المسرحية إلى نهايتها في صورة التائب الذي يذكر ذنبه ويستغفر الله منه ويطلب من كل من له صلة بذلك الذنب أن يعفو عنه ويسامحه.
وأخوه عبدالجواد ذلك الشحيح البخيل الذي لا يفتأ طيلة المسرحية يطلب من أخيه المعونة تلو المعونة تارة بحجة تزويج ابنه وتارة بغيرها من الحجج رغم أنه يعمل في ديوان السلطان ويحصل على راتب وفير ولكنه يكنز ماله ولا ينفق منه إلا النزر اليسير، إنه عبد للجواد الكريم الذي يسر له هذه المنصب الرفيع الذي يحصل منه على الراتب الوفير، والذي يسر له هذا الأخ الكريم الذي يعطيه ويكرمه وأولاده بل ويوصي له بعشر تركته.
أما أختهم (آسية) فهي حقاً آسية لأحزان وهموم أخيها عبدالتواب تحزن لحزنه وتفرح لفرحه، وهي التي خطبت له العروس الجميلة التي أرادت بها أن تنسيه همه وحزنه، وتدخل السرور على قلبه. وإذا قارناها بأخيه عبدالجواد الذي لا تربطه بعبدالتواب إلا المصلحة فقط ولا يرى فيه إلا كنزاً عليه أن يحصل منه على أقصى ما يستطيع دون أن يحفل بهمومه أو يحاول أن يساعده أو يقف إلى جواره في محنة أو ضائقة، فليس له من الأخوة إلا اسمها، عكس (آسية) التي تحرص على راحته وتشاركه همومه وتواسيه.
وأم مستور، ظل سرها مستوراً عن الجميع –أبطال المسرحية- ولا يعلم به إلا عبدالتواب، فهي التي تعلم بسر عبدالتواب مع ابنتها غيداء وهي التي دبرت الانتقام من عبدالتواب في زوجته كوثر وهي التي دبرت فشل إجهاض كوثر لثمرة الخطيئة. وابنها مستور ظل مستوراً لا يظهر إلا في الخلفية حين فجر بكوثر وحين قتل زوجته.
وكوثر –والكوثر نهر في الجنة- هي التي روت ظمأ عبدالتواب وأعادت السكينة إلى نفسه بعد أن افتقدها إثر تسببه في وفاة غيداء. وقاسم المغربي هو قاسم مشترك في الأحداث كلها فهو زوج غيداء ضحية عبدالتواب وهو أخ فوز ضحية مستور، ولقد قاسم عبدالتواب وشاركه في تجارته. أما الطفل (أسامة) –والأسامة من أسماء الأسد- فقد كان كالشبل في شقاوته وشدة حركته. وأما أخته (شافعة) فقد شفعت لكوثر خطأها في أول زواجها حين تأبت على زوجها ومنعته حقه الشرعي.
هذه مجرد استنتاجات ليست بالضروة هي ما قصده المؤلف، ولكن لاشك أن للأسماء دلالة معينة قصد إليها المؤلف قصداً. قد يكون فيما ذكرته بعض منها.
[1] - د. عصام بهي: مسرح باكثير الاجتماعي – 1989- ص (21)
[2] -آل عمران، الآيات من 133 حتى 135
[3] - علي متولي صلاح: السلسلة والغفران، مجلة الرسالة، العدد (944) 6 أغسطس 1951م، ص (900)
[4] - المرجع السابق، ص (901)
[5] - علي أحمد باكثير: السلسلة والغفران، مكتبة مصر، دون تاريخ، ص (76)
[6] - المسرحية: ص (143)
[7] - المسرحية: ص ص (113-114)
[8] - المسرحية: ص (120)
[9] - المسرحية: ص (148)
[10] - المسرحية: ص (27)
[11] - علي متولي صلاح: مرجع سابق، ص (901)
[12] -المسرحية: ص (65)
[13] - المسرحية: ص (71)
[14] - المسرحية: ص (81)
[15] - المسرحية: ص (47)
[16] - المسرحية: ص (48)
[17] - المسرحية: ص (102)
[18] - المسرحية: ص (97)
[19]
- المسرحية: ص (133) والحديث في صحيح البخاري برقم
(1912)