عن اللغة الشعرية
محمد فريد الرياحي
يريد الشاعر امتلاك اللحظة الشعورية التي تتجه في وجودها الشاعري اتجاها حلزونيا، تتولد عن دوراته طاقات انفعالية حبلى بإمكانات الفاعلية والتأثير. وهو في سبيل تحقيق وعيه الشعري بالحقائق النفسية، والعوالم الذاتية، يعتمد اللغة الشعرية التي تملك القدرة على ضبط الشعور، واحتواء الإحساس، وتوليد الرؤى والصور من التجربة الحياتية التي تؤرقه، وتزرع القلق في عالمه الداخلي. والتجربة الحياتية حسب وعيه الفني، تتخذ أشكالا مختلفة، وتتلبس بمظاهر متعددة، في امتدادها الأفقي والعمودي، فهي تبدأ باعتبارها إحساسا يولد في الزمان وفي المكان عن طريق الاصطدام بالواقع، وينمو في جو من القلق والترقب، ليمتد أخيرا في كل الاتجاهات، ويكتسح كل المساحات، وهي تستقر في دائرتها عندما تحقق رحلتها الأولى في الواقع المنفتح، غير أنها في استقرارها المؤقت تريد اكتشاف دوائر أخرى تمارس فيها وجودها. وهكذا يبحث الوجود الشاعري عن لحظات الكشف ليحقق في أجوائها ذاته.
إن الشعر لا يرضى بأن يعيش في مساحات ضيقة من الشعور، لأن حقيقته الذاتية أكبر من أن يحتويها الوجود المادي المحدود. ومن هنا كانت تطلعاته الوجدانية في لحظات العشق إلى هتك حجب الغيب، من أجل التوحد بالجميل والفناء في الأجمل. العشق مركز الكون منه تصدر حقائق الحياة، وإليه ترتد أسرار الذات، ولهذا يقبل عليه الشاعر بكل ذرة من ذرات كيانه، يعانقه ويعتنقه، يغنى به وفيه، ليحيا بطريقة شاعرة في الخضم الوجودي. هذا الإقبال على العشق حتى الجنون أي إلى الحد الذي تتحد فيه آفاق المعقول بأجواء اللامعقول، هو الذي يعطي الشاعر هويته، ويمكنه من حريته، في عالم يطبق فيه الثقل المادي على الإنسان، فيمنعه من الانطلاق في الآفاق. ولهذا كان الشاعر قادرا في كل لحظة من لحظات وجوده، على تجاوز العادي إلى الشاعري، من أجل إعادة صياغة التوازن الحياتي بشكل فاعل. إن القصيدة هي الرؤيا الشاعرة لولادة الإنسان والحياة في لحظة البعث الوجودي. ومن هنا كانت لغتها لغة غير عادية، وأداؤها أداء متفردا بخصوصيته. اللغة عموما لا يمكن فصلها عن شحنات الفكر والانفعال التي تحبل بها، وتحملها وتؤديها بشكل أو بآخر، والإنسان يبدع لغته انطلاقا من مواقفه وممارساته داخل اللحظات الوجودية. ومن هنا كانت اللغة مموقفة، تحمل مواقف شعورية وانفعالية وفكرية، ويظهر هذا الموقف اللغوي جليا في القصيدة التي هي إبداع يمشي فوق الزمان والمكان. والشاعر لا يتعامل مع اللغة تعاملا مباشرا أي أنه لا يستعملها من أجل خدمة أغراض آنية ونفعية، ولكنه يعشقها، يعريها، يكشف عن مكنوناتها وخباياها، يعلن عن عطاءاتها وخفاياها، يستمد منها القدرة على التمكن والتمكين. وعلى الرغم من أن تعامله معها يتجاوز مهمة التعبير عما هوعادي و آني ونفعي إلى إبداع ما هو جميل وجليل، فإن إمكاناتها لا تنتهي، ذلك بأنها في هذه الحال لا تمثل موضوعا غريبا عن الشاعر، بعيدا عن مواقفه الشعورية، منافيا لتطلعاته، وأحلامه ورؤاه، ولكنها تمتد في كيانه، وتختلط بشعوره في لحظات الكتابة الشعرية. ولهذا تصبح اللغة الشعرية قادرة على التأثير والفاعلية، وقدرتها جزء من قدرة الشاعر الذي لا ينظر إليها على أنها وسيلة تعبيرية وبس، ولكن يعتبرها عالما زاخرا بالمواقف والمشاعر والرؤى والأحلام. التعبير عبور من ضفة إلى أخرى، والشاعر الذي يرضى بأن تكون لغته قنطرة يعبر عليها إلى الآخرين، يبتعد عن جوهر العملية الشعرية، لأن القضية في مجال الإبداع الشعري ليست قضية توصيل، ولكنها قضية محو المسافات بحيث تصبح القصيدة هي محور التقاء البداية والنهاية التقاء لا انفصام له. التوصيل نقل لشيء، أو إخبار عن شيء، أما الفاعلية الشعرية فعالم تتبدد فيه المساحات والمقاييس، وتتوارى فيه الحدود والسدود، لتتوحد في أجوائه حقائق الذات بحقائق الحياة، وهذا التوحد هو السر في خلود القصيدة وامتدادها، عبر الزمان والمكان. وهو الذي تبلوره اللغة الشعرية بطريقة فاعلة. وإذا كانت اللغة هي الفكر، فإن اللغة الشعرية هي التفاعل الكامل بين التشكيلات التعبيرية، والإمكانات التصويرية، وبين التجربة الشعورية التي هي انفعال الذات الشاعرة بما حولها من عوالم الرؤى، والأحلام ، والصور، والأحاسيس، وغير ذلك مما له صلة قريبة بمركز الدائرة الشعرية التي تستقطب أدق دقائق الحياة.
وقد فطن القدامى إلى الفارق الموجود بين اللغة باعتبارها أداة تواصلية تقرب بين الناس في المجال العملي، أوالعلمي، النحوي أو المنطقي، وبين اللغة الشعرية التي تتميز بخصائص فنية تبدأ بقضية الطبع، وتنتهي بقضية الصنعة. اللغة الشعرية تقتضي من الشاعر جهدا فنيا وخياليا تتطلبه التجربة الشعورية التي يعانيها. والتجربة الشعورية هي التي تحدد اللغة الشعرية، ومن هنا يرتبط المضمون بالشكل ارتباطا كليا وفنيا ، والذين يحاولون الفصل بينهما في محاولة حاسمة، إنما يفهمون النص الشعري أو القصيدة فهما مقلوبا ومخطئا، فهم ينظرون إلى المضمون على أنه حقيقة مجردة عن أبعادها الشعورية واللغوية والفنية، ثم يحكمون على الشكل الفني في غياب التوحد بالمضمون. وهكذا تضيع الحقيقة الشعرية التي لا تتحقق فاعليتها إلا عن طريق علاقة التفاعل والانفعال الموجودة في القصيدة. وتستطيع اللغة الشعرية بما تملكه من إشعاع فني أن تؤكد هذه العلاقة. إن القضية في نقد القصيدة ليست قضية بحث عما قاله الشاعر، ولكنها معرفة فنية تنصب إشعاعاتها على ما ورائية النص وطريقة القول الممتدة أصلا في هذه الماورائية. ولا يتمكن الناقد من هذه المعرفة إلا إذا وعى المساحة الأدبية التي تمتد فيها اللغة الشعرية في تحقيقها لذاتها، وتملكها لوجودها،. ومن هنا فلا بد له من أن يبتعد عن العقلية النقدية التي تنظر إلى القصيدة باعتبارها نصا مسطحا ذا بعد واحد، فتشرحه، وتحل ما انعقد من ألغازه، وتفك ما غمض من معانيه، وتعتقد في النهاية أنها استوفت شروط النقد الأدبي، وهي عقلية سادت في مراحل التقنين والتحديد للمعارف والمدارك، وإخضاع الفكر الحر لقيود التقعيد، وما زالت تعلن عن نفسها، وتكشف عن روحها، في المجالات الأدبية التي تفهم فيها القصيدة فهما تقليديا لا يخرج عن التعريف الشكلي الذي وضعه قدامة بن جعفر. إن النقد الشكلي يغفل عالم القصيدة الداخلي، ويلغي من حسابه الأبعاد الشعرية التي تمتد في الاتجاهات اللغوية المتعددة. ومن هنا يصبح الشرح تكرارا يفرض نفسه في كل لحظة، ويتقبله أصحاب الفهم الشعري المحدود تقبلا غبيا. من قبيل هذا الشرح المكرور ما يعلنه أساطين النقد الشكلي في فهمهم للبيت الأول من معلقة امرئ القيس مثلا. إن النقد الشكلي لا يفيد في دراسة القصيدة، ومعرفة أبعادها، واتجاهاتها، وإدراك حقائقها، ودقائقها، واستجلاء غوامضها، وأسرارها، ولكنه يغتال جوهرها عن طريق طمس لغتها. ومن هنا فالنقد الحقيقي للقصيدة يعتمد أساسا على التمكن من اللغة الشعرية التي تزخر بالدلالات، وتمور بالحقائق، وتتحرك في اتجاهات مختلفة. وقدرة الناقد على السير في هذه الاتجاهات، وكفايته في مجال ضبطها هو ما يميزه عن غيره من الشراح الذين يحبون السهولة، ويرغبون في اليسر والسلامة. ويجب أن نشير في هذا المقام إلى أن الساحة العلمية والفكرية تمتلئ بهؤلاء الشراح السطحيين الذين يجنون على النصوص الشعرية باسم الأكاديمية والمدرسية، فيدخلون جو النقد الأدبي، ومبلغهم من العلم نحو وإعراب وشرح مسطح، وعندما يواجهون بالإبداع النقدي، يولون مدبرين قانعين من الغنيمة بالإياب، وفي الوقت الذي يخلو لهم فيه الجو، يبيضون وينقرون، ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها بهرائهم ، ويعلنون أمام الملأ أنهم ظفروا بالحقيقة العلمية بشكل موضوعي. ومشكلة هؤلاء، هي أنهم يفهمون اللغة الشعرية فهما أفقيا، فهي عندهم وسيلة توصيلية تؤدي المعنى بطريقة لا ينفع معها التحليل والتأويل واستشراف الآفاق، وضبط الأبعاد، فإذا قال امرؤ القيس قفا نبك فمعنى هذا بعربية قريش أنه يطلب من صاحبيه أن يقفا وقوفا حقيقيا من أجل البكاء على الأطلال بكاء حقيقيا أيضا. ويستمر هذا الفهم عندهم باستمرار نزعة الشرح التي يأخذون بها، ويصدرون عنها. وهكذا تضيع الحقيقة الشعرية بين ركام الكلام المكرور، ويلقن المتلقي شرحا معادا تباركه المحافظة مرة، والأصالة مرة أخرى. والحق أن القضية، في هذه الحال، ليست قضية حفاظ على الأصل، ولكنها قضية جهل بالقول الشعري، وتجاهل لما جد في حقل النقد الأدبي من حقائق وآراء هي وليدة الدراسة المعمقة، والفهم الثاقب، والذوق السليم، والإحساس الرهيف، بالعوالم الشعرية. والغريب في أمر هؤلاء المحافظين، أنهم يجهلون الجوانب المشرقة من التراث الذي يدعون حمايته من الأيدي القذرة، فهم لا يدركون الحقائق النقدية التي جهر بها عبد القاهر الجرجاني في مجال النظم، وهم لا يعرفون أن الكلمة الشعرية لا ينظر إليها باعتبارها كلمة مفردة، ولكن بوصفها جزءا من السياقين اللغوي والشعري، وهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى ما ورائية القصيدة، لأنهم ما زالوا يقحمون عليها تقسيماتهم النحوية، وتشكيلاتهم الإعرابية، فالنحو عندهم هو دراسة الكلمة المفردة بوصفها كلمة مفردة، أما أن يدركوا أن النحو هو النظم الموجود داخل الكلام الأدبي، فذلك ما لا يستطيعون فهمه، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. لقد تنبه عبد القاهر الجرجاني إلى أن المعنى الظاهر في النص الأدبي، يحمل في طياته معنى خفيا، وعلى اللغة الفنية بصورها وإيحاءاتها، المعول في الكشف عنه. ومن هنا فلا بد للناقد الأدبي من أن يبحث عن سر الكتابة الشعرية، ويعرف منعرجاتها ومساربها، ليصل في نهاية المطاف إلى ما يسمى في مجال النقد الأدبي الحديث بمعنى المعنى.
لقد شكلت العملية النقدية التي قام بها عبد القاهر الجرجاني، ثورة في مجال الدراسة الأدبية، ذلك بأنها تجاوزت الفكر النقدي الكلاسي الذي كان يؤمن بنزعة التقعيد والتقنين والتحديد، وكان يحكم أحكاما تصدر عن مراعاة ماذا قال الشاعر، وهل وافق قوله الشعري المناسبة والمقام. ومن هنا كانت قضية عمود الشعر الذي انطلق منه بعض النقاد القدامى في تقويمهم للقصيدة، هي المقياس الحق الذي في ضوئه يجب أن يصدر الحكم على الشاعر، غير أن هذه القضية، على الرغم من وضعها الستاتيكي، استطاعت أن تحدد التقنيات اللغوية التي تعطي القصيدة نفسا شعريا. ((وكانت العرب إنما تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن، بشرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته،وتسلم السبق فيه لمن وصف فأصاب، وشبه فقارب، وبده فأغزر، ولمن كثرت سوائر أمثاله، وشوارد أبياته، ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابق، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر ونظام القريض)) هكذا قال علي بن عبد العزيز الجرجاني وهو يحدد المقياس النقدي الذي ردده ابن رشيق القيرواني والمرزوقي وغيرهما من النقاد القدامى. ولم يقف عبد القاهر الجرجاني عند هذا الحد الظاهر من الأحكام الأدبية التي تصدر جملة وتفصيلا على الأثر الشعري، ولم يرض بأن يكون امتدادا للأولين في المجال النقدي، ولكنه حاول أن يعرف اللغة الشعرية والأدبية بأن يدرك المساحة الفنية التي تمتد فيها وعليها. ومن هنا كانت فكرة النظم، أي العلاقة النحوية والأدبية الموجودة داخل السياق اللغوي، بين الكلمات والجمل. ومن هنا أيضا كانت محاولة التقرب من إشعاعات اللغة في مجال الصور والأخيلة. إن العلاقة المنطقية بين الكلمة ومدلولها لا تقوم في عالم الشعر، ولا يمكن أن تقوم ، لأن الشاعر يخضع اللغة لمفهومه الشعري، ومن هنا تأتي تشكيلاته التعبيرية ملونة موحية بأبعادها وظلالها ومسافاتها الشعورية. وهذا ما لا يدركه النقد الكلاسي الذي يقوم أساسا على الدلالة القاموسية للغة.