التحولات الدلالية في الشعر 1

التحولات الدلالية في الشعر

د. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

الجزء الأول

كشفت الدراسات الأدبية الحديثة عن رؤية متنوعة في ما يخص البحث عن الخصوصيات ذات الطابع المتعمق. محاولات كهذه أبرزت جملة من  التحولات سواء على مستوى اللغة باعتبارها الركيزة الأولى التي تبني النص، أم على صعيد الدلالة ( المعنى) الذي يصبغ اللغة بمرادفات لامتناهية وتشكيلات لغوية متعددة تحول دون الوضوح والجلاء.

هذه التحولات الدلالية جعلت الدارسين يلجؤون إلى استكناه المضامين انطلاقا من مناهج وآليات أغلبها ذو طابع لغوي، لماذا؟

إذا كان فرديناند دوسوسير F. SAUSSURE يعتبر اللغة مجموعة من العلامات التي تؤدي إلى معنى [1]، فإن هذا المعنى لا يمكنه أن يستقر على حاله إذا ما دعت ضرورة‘ المتكلم إخفاءَ القصد عن المتلقي، لا بإبعاد المعنى نهائيا عن الذهن، فيصبح الكلام مبهما، بعيدا عن الأذهان؛ لكن بقدر ما يتحول الدال، يتشكل في صورة دلالية ثانية؛ لا يرفع لبسها إلا بالتسلح بمجموعة من المعاول التي بدونها لا يمكن الوصول إلى الحقيقة.

 قد يبدو الكلام هنا ضبابياً، لكنه بالعكس لا يحمل أكثر من دلالة واحدة، وهو محمول قضية البحث والتنقيب الذي تحفل هذه الأطروحة بتتبعه.

إن الإبداع الأدبي في كليته يحمل مجموعة من الهموم والأفكار التي تشغل بال المؤلِّـف، هذه الهموم لا تجعله أحيانا راضيا عنها، أو بالأحرى الإفصاح

عنها، إما رهبة، أو رغبة في التشكيل الجمالي، أو احتفاء بالقول الإبداعي الداعي إلى ترك الفرصة للمتلقي لخلق  الدلالة وإنتاجها وتحقيق أفق التوقعات كما حددها أصحاب نظرية التلقي وعلى رأسهم "ياوس " إذ:" يمضي  في صياغة نموذجه عن طريق تطويره لمصطلح الأفق الذي لم يكن جديداً؛ فقد أصبح ما سماه ( أفق التوقعات) يمثل ركيزة أساسية في تشكيل نظريته، من حيث هو( نظام من العلاقات)، أو" جهاز عقلي يستطيع فرد افتراضي أن يواجه به أي نص." [2]

من هذا المنطلق النظري يمكن أن نواجه كافة الاحتمالات التي يطرحها النص الأدبي؛ وما دمنا نشتغل في إطار النص الشعري المعاصر، لابد من الإشارة إلى بعض القضايا التي شغلت بال العديد من المفكرين والنقاد العرب والغربيين على السواء.

إن الحديث عن أشكال ومظاهر التحول الدلالي في الشعر يفتح أمامنا آفاقا متعددة، وللإلمام بالموضوع باعتباره لبنة أولى للبحث الأكاديمي المتعمق؛ ينبغي أن نأخذ الأمور من منابعها الأولى، ولعل المصدر الأول الذي أثار الجدال هو قضية التعدد الدلالي أو تعدد المعنى انطلاقا من لفظة واحدة هو القرآن الكريم، ومنه إلى التفسير الذي حاول أن ينبش في هذه المتغيرات.

إذا عدنا إلى الآية الكريمة [3] :( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آياتمحكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله، وما يعلم تاويله إلا الله) [4] يمكننا أن نضع أيدينا على بعض الأسس النظرية التي تفيد بحثنا.

 إن هذا التمييز الذي ينبِّـه إليه القرآن يحيلنا حتما إلى التحول الدلالي أو كما سماه المتشابه ، لأنه يجمع :" آيات محكمات هن أم الكتاب أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتــباه في الدلالة على كثـير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس، ولهذا قال تعالى: ( هن أم الكتاب) أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه، (وأخر متشابهات) أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ و التركيب لا من حيث المراد" [5]

بديهي أن ننطلق من هذا التقديم النظري حول إشكالية اللفظ/ المعنى كما حدده التفسير السابق للآية؛ وهذا التحديد يحيلنا إلى بعض التجارب النقدية العربية أولاً، ثم بعض النظريات الغربية التي حاولت أن تجد الصيغة الملائمة لمفهومي اللفظ والمعنى وعلاقاتهما.

 -1 اللفظ و المعنى: بحث في الإشكال والتطور

لعل أول ما يتبادر إلى الذهن في المجال المتعلق بقضية اللفظ والمعنى، ما عبر عنه عبد القاهر الجرجاني من خلال نظريته المعروفة ( نظرية النظم)، إذ يبرز بعض الجوانب الثابتة في قضيتنا الخاصة بالتحولات الدلالية، ويقف عند أهم القضايا اللغوية المرتبطة بالتحديد العام الخاص بنظرية النظم عنده ، كما أنه نبه إلى تنوع الكلام  بانقسامه إلى ضربين:" ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلاً بالخروج على الحقيقة… وضرب أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المــعنى دِلالــة ثانيــة تصل بها إلى الغــرض، ومدار هذا الأمــر على "الكنــاية" و"الاستعارة" والمجاز" [6]

قد يصادفنا هذا القول أحيانا حين نكون أمام مسألة تتعلق بالسياق العام للكلام، لكن الأمر الذي يهمنا هنا انطلاقا من هذه النظرية التي استوحيناها من كلام الجرجاني،  تتعدى السياق الكلامي إلى القول الشعري. إن الإبداع بصفة عامة لا يسترعي الانتباه إلا إذا كان ذا جمالية،  والجمالية- طبعا- لا تتحقق من القول المباشر بل توازي بين الخطاب المصرح به والخطاب الموحى به. لذلك فالجرجاني يؤكد ضرورة البحث في المعنى الثاني المحتمل. والجمالية أيضا لا تتحقق إلا إذا انعقد التشابك والتشارك - غير المقصود- بين المبدع / الشاعر ، والمتلقي المنتج للدلالة الثانية، أو لنقل فك الألغاز التي يوحى بها في النص.

إن الأمر هنا لا يشكل الأهمية إلا تحدثنا عنه من جانب المتخصص في بحر الدلالة أو ما يتولد عنها، أو يتعدد معناها. لذلك فلا غرو أن نجد الاهتمام تحمس لهذه النظرية العربية الأولى، وجعل بعض الدارسين منها ركيزة مثلى، ولعل محمد غنيمي هلال لم يكن بعيدا عن إعطاء (النظم) بعدا تركيبيا ببعده اللساني. يقول في هذا الصدد:" عني عبد القاهر الجرجاني بشرح دلالات الألفاظ واختلافاتها باختلاف مواقعها في الجمل. فيما سماه النظم، وقد قام في هذا الباب بجهد عظيم الخطر. فهو يقصد بالنظم ما يطلق عليه الغربيون علم التراكيب Syntaxe."[7]

نحن لن نناقش طويلا هذا الرأي على أساس صحته أو عدمه، بقدر ما نوافقه في الطرح الدال على اهتمام الجرجاني بالسياق العام للجملة للبحث عن الدلالات المختلفة والمتحولة . ولعله أول من أدرك هذا التحول في المعنى والذي اصطبغ عليه في ما بعد التحول الدلالي، وهذا الإدراك في حقيقته هو الذي أجرأ ثنائية اللفظ/ المعنى، لا من حيث العلاقة المفردة المجردة، ولكن من جانب التساوق القائم على حيثية السياق.

لقد عُد في الغالب هذا الإجراء المتضمن لهذه الثنائية من القضايا الشائكة في القراءة الأدبية للنصوص قديمها وحديثها، وتاريخ النقد العربي شكل محطة بارزة في تحريك مفعول الدراسات الأدبية من مستواها اللغوي الصرف [8] إلى المستوى السياقي الذي يحافظ على الدلالة سواء من حيث المعاني القريبة أ م من حيث التحولات التي تفرضها طبيعة العمل الإبداعي المتمثَّل.

أما إن كان العمل الذي يتوخى من الدراسة يشغل الحيز اللغوي الصرف فإن المبتغى يتمدد ويتحول من الدرس الأدبي النقدي إلى المستوى اللغوي اللساني، وهذا الأمر من القضايا الشائكة التي لا نحبذ التوغل في غياهبها ، لأنها من ناحية ستكون الدليل على تشتت الموضوع، ولا تلبي الطلب المرجو من طرحنا. لذلك فمساءلتنا للدليل اللغوي إنما هو معول من معاول بحثنا عن التحولات الدلالية في الشعر من حيث السياق الذي تفرضه طبيعة العلاقة القائمة على المنطق الكلامي.

بالعودة ثانية إلى بعض أمهات الكتب العربية نجد الحديث عن بعض الأوليات التي تحكم علاقة اللفظ والمعنى. وتميل بعض المقاربات اللغوية إلى البحث عن هذه العلاقة التي تحمل (القصدية). فكل لفظ يحمل معنى في ذاته، كما أن لكل معنى لفظا خاصا. إلا أننا نجد بعض قدامى اللغويين العرب من لا يذهب هذا الاتجاه، وكأنه بذلك يختبر قدرة الدارس والقارئ على البحث في (مجهول البيان) . ومن المفيد ونحن في صدد الطرح النظري الذي يوصل – بدون شك – إلى الغرض الأولي الذي نطمح إليه؛ أن نعرج على أحد الدارسين اللغويين العرب القدامى.

يقول عبد الرحمن جلال الدين السيوطي في مؤلَّفه ( المزهر في علوم اللغة وأنواعها) استنادا إلى الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه :" لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ؛ لأن المعانيَ التي لا يمكن أن تُعقَلَ لا تتناهى، والألفاظ متناهية؛ لأنها مركبة من متناهٍ، والمتناهي لا يَضبطُ ما لا يَتَنَاهَى؛ وإلا لزم تَناهي المدلولات. قالوا: فالمعاني منها ما تكثُر الحاجة إليه، فلا يخلو من الألفاظ؛ لأن الداعيَ إلى وضع الألفاظ لها حاصل، والمانع زائل، فيجب الوضعُ؛ والتي تندُر الحاجة إليها يجوز أن يكون لها ألفاظٌ وألا يكون." [9]

لقد سبق القول بضرورة التحديد المنطقي للقول داخل الجملة، ولعل الإشارة التي جاءنا بها السيوطي- وهو من المهتمين بالجانب اللغوي والدلالي-  تفيدنا في تمثيل الدليل القوي على أوليات البحث الدلالي في الدراسات الأدبية.

إن الحديث عن هذا المجال لا يخلو من مخاطرة خاصة ونحن نتغيا التدليل على أهمية البحث في ثنائية اللفظ/ المعنى حلا للتحول الدلالي. ولغة النص الإبداعي لا يخلو من مصادمات بين الحقيقة والمجاز، الذي يعتبر بامتياز في نظرنا المولد الحقيقي للدلالة الثانية التي تعكس التحول في المعنى من جانب التميز والتخصص بالقول.

ونشير كذلك ونحن في صدد الحديث عن الدلالة أنها تنعكس في النص/الإنتاج الأدبي من خلال ثلاثة أنواع أو لنقل مستويات، نراها ذات أهمية، كما أنها تثبت لااعتباطية اللغة، وضرورة السياق الدلالي:

              

 [1] - SAUSSURE: Cours de linguistique generale, ENAG / Editions , 1990 ,p- 33.

[2] --  روبلت هولب Robelt Holub : نظرية التلقي، ترجمة عز الدين إسماعيل، كتاب النادي الأدبي الثقافي، ط- 1،1997، ص- 16.

[3] - العودة إلى الآية ينزع الإبهام الذي يكتنف الدراسات اللغوية السارية مجرى البحث عن مصدر الغموض أو الإبهام.

[4]- آل عمران:7.

[5] - ابن كثير: تفسير القرآن الكريم، مكتبة الصفاء مطابع دار الحديث الحديثة، ط- 1، 2002، 2/ ص- 4.