تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 81

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 81

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " أَسْرارُ الْبَلاغَةِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

لَيْسَ إِذا كانَ الْبَياضُ فِي الْبازيِّ آنَقَ فِي الْعَيْنِ وَأَخْلَقَ بِالْحُسْنِ مِنَ السَّوادِ فِي الْغُرابِ ، وَجَبَ لِذلِكَ أَلّا يُذَمَّ الشَّيْبُ وَلا تَنْفِرُ مِنْهُ طِباعُ ذَوِي الْأَلْبابِ ( في قول البحتري :

وبياض البازي أصدق حسنا إن تأملت من سواد الغراب )

- لِأَنَّه لَيْسَ الذَّنْبُ كُلُّه لِتَحَوُّلِ الصِّبْغِ وَتَبَدُّلِ اللَّوْنِ (...) ؛ فَما أَنْكَرْنَ ابْيِضاضَ شَعَرِ الْفَتى لِنَفْسِ اللَّوْنِ وَذاتِه ، بَلْ لِذَهابِ بَهَجاتِه ، وَإِدْبارِه في حَياتِه !

ذاكرت أستاذنا في تخطيء رفع " تَنْفِرُ " وتصويب نصبه ؛ فأبى قائلا : " لم يعطف تَنْفِرُ على يُذَمَّ " ! ولن يخرج عندئذ عن الاستئناف ، وفيه انفصاله عن أجزاء ما قبله - أو العطف على " وَجَبَ " ، وفيه صرف " لا " ، إلى الماضي - أو العطف على محل المصدر المؤول كله " أَلّا يُذَمَّ الشَّيْبُ " ، وفيه قلة عطف الجمل على المفردات ولا سيما غير الصفات ، وقهر الجزء على الانفصال مما اشتد اتصاله !

ثم اعجب لمثل سيدنا يقول : " لِنَفْسِ اللَّوْنِ وَذاتِه " ، فماذا يقول الدهماء !

قالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ :

ما تَرى نِعْمَةَ السَّماءِ عَلَى الْأَرْضِ وَشُكْرَ الرِّياضِ لِلْأَمْطار

ذكر نعمة السماء على الأرض بإرسال الأمطار ، وشكر الأرض للسماء بإزهار الرياض ؛ فإن من شكر النعمة أن يرى أثرها ، ولا أثر أكبر من ازديان الأرض بالنبات ، وقديما قالت العرب في نبتة سريعة الظهور غِبَّ المطر : " أَشْكَرُ مِنْ بَرْوَقَةٍ " !

مِنَ الْغَريبِ في ذلِكَ ( التخييل ) مَعْنى بَيْتٍ فارِسيٍّ تَرْجَمَتُه :

لَوْ لَمْ تَكُنْ نيَّةُ الْجَوْزاءِ خِدْمَتَه لَما رَأَيْتَ عَلَيْها عِقْدَ مُنْتَطِق

فَهذا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ ما مَضى ، أَعْني ما أَصْلُهُ التَّشْبيهُ ، ثُمَّ أُريدَ التَّناهي فِي الْمُبالَغَةِ وَالْإِغْراقُ وَالْإِغْرابُ .

كما دَلَّ سيدنا من قبل على علمه بمسائل الفلسفة ( تراث الكلام في الجزء الذي لا يتجزأ ) ؛ فلم أشأ أن أفسد عليه مقام الشكوى - يدُلُّ هنا على علمه بالفارسية ، ويُدِلُّ بقدرته على الشعر ! ولو لم يدل على علم العالم نطقه وصمته كلاهما عن ثقة لا عن كبر ، لم يؤخذ عنه ، ولم يرجع إليه !

أَحْسَنُ مِنْ هذا وَأَحْكَمُ صَنْعَةً ، قَوْلُه ( ابن نباتة ) في قِطْعَةٍ أُخْرى :

فَكَأَنَّما لَطَمَ الصَّباحُ جَبينَه فَاقْتَصَّ مِنْهُ وَخاضَ في أَحْشائِه

وَأَوَّلُ الْقِطْعَةِ :

قَدْ جاءَنَا الطِّرْفُ الَّذي أَهْدَيْتَه هاديهِ يَعْقِدُ أَرْضَه بِسَمائِه (...)

وَكَأَنَّما لَطَمَ الصَّباحُ جَبينَه فَاقْتَصَّ مِنْهُ وَخاضَ في أَحْشائِه (...)

عجبا للفاء في أول البيت يتيما ، تتحول واوًا مع أبيات القطعة !

ثم قد سمى سيدنا هذه الأبيات قطعة ، وهي عنده هنا ثمانية ، ثم هي في شعره عشرة - وربما خُصَّتِ القطعة بالأربعة إلى الستة - وكأنما رأى في القصيدة ما رأينا من قبل ، أنها البنيان المكتمل ، وإن كان أقل مما حَدّوا ؛ فلم ير الأبيات كذلك ؛ فجعلها قطعة ، وإن كانت أكثر مما حَدّوا !

مِنْ هذَا الْجِنْسِ ( التعليل التخييلي والتأول في الصفة ) قَوْلُ ابْنِ الْمُعْتَزِّ فِي السَّيْفِ ، في أَبْياتٍ قالَها فِي الْمُوَفَّقِ ، وَهِيَ :

وَفارِسٍ أَغْمَدَ في جُنَّةٍ تُقَطِّعُ السَّيْفَ إِذا ما وَرَدْ

كَأَنَّها ماءٌ عَلَيْه جَرى حَتّى إِذا ما غابَ فيهِ جَمَدْ

في كَفِّه عَضْبٌ إِذا هَزَّه حَسِبْتَه مِنْ خَوْفِه يَرْتَعِدْ

فَقَدْ أَرادَ أَنْ يَخْتَرِعَ لِهِزَّةِ السَّيْفِ عِلَّةً ؛ فَجَعَلَها رِعْدَةً تَنالُه مِنْ خَوْفِ الْمَمْدوحِ وَهَيْبَتِه . وَيُشْبِهُ أَنْ يَكونَ ابْنُ بابَكَ نَظَرَ إِلى هذَا الْبَيْتِ وَعَلَّقَ مِنْهُ الرِّعْدَةَ في قَوْلِه :

فَإِنْ عَجَمَتْني نُيوبُ الْخُطوبِ وَأَوْهَى الزَّمانُ قُوى مُنَّتي

فَمَا اضْطَرَبَ السَّيْفُ مِِنْ خيفَةٍ وَلا أُرْعِدَ الرُّمْحُ مِنْ قِرَّة

إِلّا أَنَّه ذَهَبَ بِها في أُسْلوبٍ آخَرَ .

ربما كان أصل التعبير " يُشْبِهُ ابْنُ بابَكَ أَنْ يَكونَ (...) " ، ولكنه الآن ينبغي أن يؤول على حذف المفعول به ، بتقدير " يُشْبِهُ الصَّوابَ أَنْ يكونَ ابْنُ بابَكَ (...) " .

ثم ما زال المصريون يستعملون " عَلَّقَ مِنْهُ " ، هذا ، بمعنى " سَرَقَ مِنْهُ " ، كما استعملها سيدنا بمعنى الْتَقَطَ ، والحصيلة فيهما واحدة !

مِمّا حَقُّه أَنْ يَكونَ طِرازًا في هذَا النَّوْعِ ( التعليل التخييلي والتأول في الصفة ) قَوْلُ الْبُحْتُريِّ :

يَتَعَثَّرْنَ فِي النُّحورِ وَفِي الْأَوْجُهِ سُكْرًا لَمّا شَرِبْنَ الدِّماء

جَعَلَ فِعْلَ الطّاعِنِ بِالرِّماحِ تَعَثُّرًا مِنْها ، كَما جَعَلَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ تَحْريكَه لِلسَّيْفِ وَهَزَّه لَهُ ارْتِعادًا ، ثُمَّ طَلَبَ لِلتَّعَثُّرِ عِلَّةً كَما طَلَبَ هُوَ لِلِارْتِعادِ ، فَاعْرِفْهُ !

أنت هنا - أبا عبادة - تلميذ أبي تمام صَليبةً !

وَكَأَنَّ السَّماءَ صاهَرَتِ الْأَرْضَ فَصارَ النِّثارُ مِنْ كافور

ما أسرقك ! ألم تنظر إلى قولي مِنْ " حُبٌّ " :

" جاءَهُ الْغَيْثُ هَطولًا وَإِلَى الْجَذْرِ رَسَبْ

شاءَ أَنْ يَبْنِيَ حِلْفًا وَكَذَا الطّينُ أَحَبْ

طَلَبَ الْغَيْثُ يَدَ الطّينَةِ لِلنَّبْتِ خَطَبْ

نَفَذَ النَّبْتُ إِلَى النّورِ عَلَى الْأَرْضِ انْتَصَبْ

مارِدًا يَخْتَرِقُ الْجَوَّ إِلَى الشَّمْسِ ذَهَبْ

وَبِحِقْدٍ قَلَبَ الصَّخْرَةَ رَأْسًا لِعَقِبْ " !

ثُمَّ من لطائف ذكرى هذه القصيدة ، أنني تركتها للنشر بمجلة سياسية ؛ فغَيَّرَ ناشرها " بِحِقْدٍ " ، إلى " بِرِفْقٍ " ، وكأنني أنظم معانيهم السياسية الرشيدة !

الْإِفْراطُ فِي التَّعَمُّقِ رُبَّما أَخَلَّ بِالْمَعْنى مِنْ حَيْثُ يُرادُ تَأْكيدُه بِه .

هذا الذي حمله على كلمته اللاحقة هنا ، في أبي تمام وأشباهه ، وهو مثل ما أقول لتلامذتي أحيانا : يكفي هذا ؛ فربما أغمضت المرادَ كثرةُ الشرح !

لَفْظُ " زَنَتْ " ( في قول ابن المعتز :

(...) إن زنت عينه بغيرك فاضربها بطول السهاد والدمع حدا )

وَإِنْ كانَ ما يَتْلوها مِنْ أَحْكامِ الصَّنْعَةِ يُحَسِّنُها ، وَوُرودُها فِي الْخَبَرِ " الْعَيْنُ تَزْني " ، يُؤْنِسُ بِها - فَلَيْسَتْ تَدَعُ ما هُوَ في حُكْمِها مِنْ إِدْخالِ نَفْرَةٍ عَلَى النَّفْسِ !

هذا الطبع السليم والذوق العالي ؛ فإن الزاني نفسه إذا سمي له عمله هذا باسمه لم يقر له عليه قرار !

مِنْ هذِهِ الْجِهَةِ يَلْحَقُ الضَّيْمُ كَثيرًا مَنْ شَأْنُه وَطَريقُه طَريقُ أَبي تَمّامٍ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَطْبوعينَ .

أراد أن حرص أصحاب هذه الطريقة ، على إحكام بعض اصور ، يغريهم أحيانا بما ينفر منه ، إن لم يحجزهم عنه طبع سليم وذوق عال !

غَرَضُه بِهذا كُلِّه ( ابن طباطبا في قوله :

لا تعجبوا من بلى غلالته قد زر أزراره على القمر )

أَنْ يُعْلِمَ أَلّا شَكَّ وَلا مِرْيَةَ في أَنَّ الْمُعامَلَةَ مَعَ الْقَمَرِ نَفْسِه ، وَأَنَّ الْحَديثَ عَنْهُ بِعَيْنِه ، وَلَيْسَ فِي الْبَيْنِ شَيْءٌ غَيْرُه ، وَأَنَّ التَّشْبيهَ قَدْ نُسِيَ وَأُنْسِيَ ، وَصارَ كَما يَقولُ الشَّيْخُ أَبو عَليٍّ فيما يَتَعَلَّقُ بِهِ الظَّرْفُ : " إِنَّه شَريعَةٌ مَنْسوخَةٌ " ! وَهذا مَوْضِعٌ في غايَةِ اللُّطْفِ ، لا يَبينُ إِلّا إِذا كانَ الْمُتَصَفِّحُ لِلْكَلامِ حَسّاسًا ، يَعْرِفُ وَحْيَ طَبْعِ الشِّعْرِ ، وَخَفيَّ حَرَكَتِهِ الَّتي هِيَ كَالْخَلْسِ ، وَكَمَسْرَى النَّفَسِ فِي النَّفْسِ !

أما ترى كيف يختص النحويون الكبار ، بالتعبير المجازي ، ثم كيف يؤثِّر في أمثالهم من المتلقين أكثر من غيره :

" لا تُقَيِّدْ عَلَيَّ لَفْظي فَإِنّي مِثْلُ غَيْري تَكَلُّمي بِالْمَجاز

تُنْسَبُ الشُّهْبُ مِنْ يَمانٍ وَشاميٍّ وَيُلْغَى انْتِسابُها بِالْحِجاز " !

صدق أبو العلاء المعري !

فَقُلْتُ لِأَصْحابي هِيَ الشَّمْسُ ضَوْءُها قَريبٌ وَلكِنْ في تَناوُلِها بُعْد

ذاكرت أستاذنا في تخطيء رَسْم " ضَوْءُها " ، وتصويب رَسْم " ضَوْؤُها " ، فأبى ، وآثر ما رَسَمَ !

أَمَلي لا تَأْتِ في قَمَرٍ بِحَديثٍ وَاتَّقِ الدُّرَعا

وَتَوَقَّ الطّيبَ لَيْلَتَنا إِنَّه واشٍ إِذا سَطَعا

بيتان مجزوءان من بحر المديد :

أَمَلي لا/ تَأْتِ في/ قَمَرٍ/ بِحَديثٍ/ وَاتَّقِ الد/ دُرَعا/

فعلاتن/ فاعلن/ فعلا/ فعلاتن/ فاعلن/ فعلا/

وَتَوَقَّ الط/ طيبَ لَيْ/ لَتَنا/ إِنَّه وا/ شٍ إِذا/ سَطَعا/

فعلاتن/ فاعلن/ فعلا/ فاعلاتن/ فاعلن/ فعلا/

جعلهما أستاذنا من بحر الرمل ؛ فذاكرته في تخطيء ذلك ، فرضيه ، رضي الله عنه !