علي الوردي 25
علي الوردي:
(25) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مبدأٌ ثوريّ
د. حسين سرمك حسن
التبس على الكثيرين من رجال الدين موقف الوردي من البعض منهم من الذين أسماهم بـ " وعاظ السلاطين " في كتابه الذي يحمل الإسم نفسه فأهدروا دمه – كما بينا - في الوقت الذي كان فيه متجرّدا تماما عن أي إساءة للدين ورجاله . وقد كان سوء الفهم الأول قد ارتبط بالتأويل السيّء لدعوة الوردي إلى التفريق بين علماء الدين ، والتسمية الصحيحة التي اجترحها ، وهي " عقلاء الدين " ، منطلقا من فرضية صحيحة ترى أن الإيمان ضد العلم ، وذلك لأن العلم - حسب رأي الوردي - يتأسّس على الشك في الوقت الذي يقوم فيه الإيمان على القناعة المطلقة والتسليم بالتعاليم الدينية . والعلم ينمو من خلال التساؤلات والتجربة البَعْديّة ، في حين أن الإيمان يترعرع وسط النتائج المحققة السَبْقِية التي تُعادي التأويل ويعاديها . وليس في هذا أي منقصة لكلّ من الطرفين . يقول الوردي :
" من الأخطاء الشائعة عندنا هو أننا نطلق على رجال الدين اسم " العلماء " ، وهذا خطأ انفردنا به من بين جميع الأمم . يصحّ أن نسمّيهم " عقلاء " ولكننا لا يجوز أن نسمّيهم " علماء " ، إنهم أصحاب عقائد ثابتة لا يحبّون أن يتحوّلوا عنها ، وهم يعدّونها من الضرورات العقلية التي لا يتجادل في صحتها اثنان . ونحن لا ننقدهم من هذه الناحية ، ولعلهم يقومون فيها بما هو واجب عليهم تجاه دينهم ، إنما ننقدهم من حيث أنهم يسيئون إلى دينهم أحيانا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا . لقد اعتاد رجل الدين أن يتلقى مألوفات طائفته وتقاليدها كأنها حقائق مطلقة لا يتطرق إليها الشك ، وقد تكون تلك التقاليد بعيدة كل البعد عن روح الدين ، إنما هو لا يبالي بذلك :
(( دأبه أن يجمع الأدلة العقلية والنقلية لتأييدها ، وهو واثق أن طائفته هي " الفرقة الناجية " من بين الخلق أجمعين )) (178).
إن الوردي ومن خلال مؤلفاته كلّها ، كان يظهر احتراما هائلا لرموزنا الدينية الجليلة وفي مقدمتها طبعاً النبي محمد ( ص ) وأصحابه الأطهار الميامين . لكنه كان يفترق عن العقول التقليدية في فهم الكيفية التي تُستثمر فيها تعاليم الإسلام وتوجيهاته وفروضه في تحريك طاقات الأمة وبعث إرادتها من أجل مقاومة الطغاة والجلاوزة الذين يتلاعبون بمقدراتها وإرادتها وتزييف أوامر نبيّه الداعية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو مبدأ ثوري ، لو جاهر به كل مسلم ، ولم يضمره حانقا أو متواطئا . والوردي يرى أن هذا الواجب الإسلامي المتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يفرض على الناس أن يجابهوا الظالم بالاعتراض والانتقاد ، وأن يقولوا له في وجهه : " إنك ظالم " . ومن يدرس نفسية الظالمين يجد أنهم لا يستسيغون مثل هذه المجابهة اللاذعة ، وكثيرا ما يأمرون بقتل من ينتقدهم أو يعرّض بهم . يقول الوردي الثائر :
( يقول النبي محمد ( إذا رأيتُ أمّتي تهاب الظالم أن تقول له : إنك ظالم ، فقد تُودّع منها ) . ويبدو أن النبي كان يعتبر مثل هذه المجابهة جهادا في سبيل الله ، فهو يقول : ( ما من مسلمٍ يُظلَم مظلمةً فيقاتل فيُقتَل إلا قُتِل شهيدا ) . وبهذا أمسى الجهاد في الإسلام على نوعين : جهاد العدو الكافر ، وجهاد الظالم المسلم . وهنا نجد المسلمين قد انقسموا طائفتين : طائفة تؤكد على جهاد العدو الكافر وتنسى جهاد المسلم الظالم ، وطائفة أخرى ترى نقيض هذا الرأي فتؤكد على مكافحة الظالمين وتغفل أمر الأعداء الأجانب . ولعل هذا كان من الأسباب التي جعلت الطائفة الأولى تتهم الطائفة الثانية بكونها صنيعة الأجانب . جاء الوعّاظ إلى واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي فرضه نبي الإسلام ، فأوّلوه لكي يلائم فلسفتهم في الخضوع للسلاطين ) (179) .
فهل في قول الوردي هذا ما يمكن أن نفسره كإساءة للدين ورجاله ؟
إن في قول الوردي هذا انتصار لجوهر الدعوة المحمدية الثورية التي حاول السلاطين ووعّاظهم مسخها وتحويلها عن اتجاهها الصحيح . كما أنها أشبه بالنبوءة التي تسبق وقتها بخمسين عاما . قبل نصف قرن يستشرف الوردي – بقصدية عالية – ما يجري الآن على الساحة الإسلامية أمام أعيننا خصوصا بعد احتلال العراق من قبل الخنازير الغزاة الأمريكان حيث اختلطت الأوراق الفكرية الدينية التي تحاول تأويل دوافع الموقف المقاوم للاحتلال . ليس هذا حسب ، بل نجد مثل هذا الالتباس قائما على الساحة العربية بصورة خلطت الأوراق وشوّشت وعي المواطن العربي . أضف إلى ذلك أن التفسير النظري لمقاومة المسلمين الثوار للطغاة والقامعين والجلاوزة قد تعرّض لإرباك مكثّف مصدره اللعب اللفظي والتأويلي المصلحي لارتباطات بعض الوعاظ بالسلاطين وعيشهم على عطاياهم التي ينهي عنها الرسول الكريم ( ص ) . فإذا كانت أرض البيت الحرام مقدّسة ولا يجوز أن تطأها قدم أجنبي كافر باغٍ ، فإنّ في وسع واعظٍ أن يبرّر مثل هذه الجناية المطبقة في الكفر بالقول أن من حق القوات الغازية الكافرة أن تطأ أرض القداسة بشرط أن تبعد خمسة وعشرين كيلومترا عن البيت الحرام كما حصل فعلا !!! .
يقول علي الوردي :
( جاء فقيه آخر إلى المنصور يقول له : إن الله استرعاك المسلمين وأموالهم فاستغفلتَ أمورهم ، وجعلتَ بينك وبينهم حجابا من الحصى والآجر وأبوابا من الحديد ، وحَجَبَة معهم السلاح . ثم سجنت نفسك فيها عنهم ، وبعثتَ عُمّالك في جباية الأموال وجمعها ؛ وقوّيتهم بالرجال والسلاح والكراع ، وأمرتَ بأن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان ، نفرٌ سمّيتهم ، ولم تأمرْ بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع العاري ولا الضعيف الفقير ولا أحد إلّا وله في هذا المال حق .. وصار هؤلاء القوم شركاؤك في سلطانك وأنت غافل . فإن جاءك متظلّمٌ حِيل بينه وبين دخول مدينتك . فإن أراد رفع قصّتهِ إليك وجدك قد نَهيتَ عن ذلك ، وأوقفتَ للناس رجلا ينظر في مظالمهم . فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتَك خبرُه سألوه أصحاب المظالم ألا يرفع مظلمته إليك . فإن المتظلّم منه بهم حرمة ، فجلبهم خوفا منهم . فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ، ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ويعتل عليه . فإذا أجهد وأخرج وظهرتَ صرخ بين يديك ، فضُرِب ضربا مُبْرحا ، ليكون نكالا لغيره ، وأنت تنظرْ فلا تنكرْ . فما بقاء الإسلام بعد هذا ؟ ) (180) .
قارنْ تُهم أبي يوسف التي كالها للسلطان بما كتبته مجلة " الثقافة الإسلامية " التي كانت تصدر في بغداد وقت صدور كتاب الوردي " مهزلة العقل البشري " في مقالة عنوانها " السلطان " يقتبس الوردي فقرة منها تقول :
( السلطان زمام الأمور ، ونظام الحقوق ، وفؤاد الحدود ، والقُطْب الذي عليه مدار الدنيا ، وهو حِمَى الله في بلاده ، وظله الممدود على عباده ، به يمتنع حريمهم وينتصر مظلومهم ، ويقمع ظالمهم ويأمن خائفهم ) .
ويعلق الوردي على كلمة المجلة هذه بالقول :
( وهذه المجلة تصدر في القرن العشرين واسمها "الثقافة الإسلامية". فهي لا تستحي من الإسلام الذي تدَعي الإنتساب إليه، ولا تستحي من العصر الذي تعيش فيه. إنّها تكتب اليوم كما كان وعاظ السلاطين يكتبون قبل عشرة قرون. على المسلمين أن يأخذوا دينهم من منبعه الأول وينبذوا الدين الذي يأتي به الكُهّان المأجورون ) (181) .
وحين نتأمل ما قالته هذه المجلة ونربطه بالعقليات الدينية السائدة في عقد الخمسينيات والستينيات خصوصا فسندرك بجلاء المعاناة الكبيرة التي تحمّلها الوردي في سبيل نشر أفكاره التنويرية في موضوعات حساسة جدا وبالغة الخطورة ، كان في مقدمتها دور من أسماهم بـ " وعّاظ السلاطين " في تخدير حواس الجماهير المسحوقة وتعطيل إرادتها في مقاومة الطغاة والجلاوزة من ناحية ، وفي جعل التعاليم الدينية التي أساءوا فهمها وتأويلها سلاحا في خدمة السلاطين من جهة أخرى .