محبرة الخليقة (42)
تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"
ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً .
إنّه هذا التفكير المستمر بهذه الهاوية السحيقة التي اسمها الموت الموصل إلى الدوار العقلي فالغثيان ؛ هذا التفكير هو الذي يجعل الشاعر قرفاً من كل شيء حتى من روحه وجسده . وحقّاً فإن الموت هوّة سحيقة لا يجني المرءُ من وراء التحديق فيها سوى الشعور بدوار عقلي عنيف ، ولكن الإنسان – خصوصا الشاعر وهذا امتياز آخر له – قد يجد أحياناً ضرباً من اللذة العقلية في أن يستسلم لإعصارات المشاكل الميتافيزيقية المضنية ، مثله كمثل الطفل الصغير الذي قد يحلو له أن يدور حول نفسه حتى يقع مغشيّاً عليه . وهكذا قد يحاول الإنسان أن يجد للموت تفسيراً ، ولكنه سرعان ما يتحقّق ، كحال الشاعر الآن ، من أن الموت هو ذلك الحدث المجهول الذي يضعنا وجهاً لوجه أمام "الآخر" الذي لا تفسير له سوى أنه لا يُفسّر . فيرتدّ هذا التجمّد العاجز إلى الذات في صورة تبكيت ضمير وتبخيس قيمةِ جسدٍ مسكين ، كالطفل الذي ينتف شعره ويمزّق ملابسه حين يعجز عن تشغيل لعبة تعطّلت بعد أن تعّلق بها بقوّة ، واللعبة التي لا يعرف الشاعر سرّ تعطّلها بل فنائها النهائي ليست لعبة طفولة يستبدلها بيسر ، وقطع غيارها متوفّرة ، إنها اللقية التي لا تأتي سوى مرّة واحدة ، إنها حياته :
( بي قرفٌ
من جسدي (...)
من تفكيري ، عشقي ، من
صلواتي ، من كفري ،
من ان أرضى ،
من أن اغضبْ .
ما هذي الدائرةُ المرسومةُ لي ؟!
أولدُ
أحيا ،
وأموتُ :
وأولدُ ،
أحيا ،
وأموتُ . وما معنى أنّي أولدُ ؟ ما معنى أنّي
أحيا ؟ وإلى أينَ أخيراً
أذهبْ ؟ - ص 1090 -1095) .
وقد يعتقد بعض السادة القرّاء بأن في تكرار ضرب الشاعر ، السئِم والقرِف ، على أوتار الموت السود تكراراً لتناول تجربة مقرّرة وثابتة في الخبرة البشرية هي الفناء . لكن ، لا .. لا . لم يبق لنا في مواجهة حقيقة فنائنا المؤكدة والمقدّرة سوى الشاعر الذي – من بين أهم افضاله علينا – هو من يحوّل الموت من تجربة "عامّة" نُساق فيها كالقطعان بعصا ملك الموت ، إلى تجربة "فردية" بملء معنى الكلمة ، تتضمن الشك والرفض والمداورة والدوار والعصيان والإقرار بيقين متردّد . وهذه من ناحية نفسية وصفة علاجية كبرى لنفوسنا الرعديدة . الموت تجربة لا يستطيع أي إنسان أن يعيشها ، حيث لا تستطيع أبداً القول "لقد متُّ" إلّا إذا متّ فعلاً ، وعندها يحصل ختام التجربة التي لن تستطيع نقلها لنا لنعرف أنك عشتها . الشاعر ، فقط ، هو الذي يستطيع الإعلان بأنه "ماتَ" ، ويستطيع تصوير أشكال "متنوّعة" لتجربة الموت نفسه ، مثلما بمقدوره أن يرسم تجارب وصوراً ومشاهد لما بعد الموت ، يمرّ بها ثم يعود منها سالماً . أمّا نفوسنا الجبانة فإنها لا تقوى على ذلك .. أما عقولنا المهادنة فهي مستسلمة لما يقرره بعض الفلاسفة ورجال الدين "التافهين" من احتضار ولفظ روح ودفن وانتظار لعقاب وثواب . إنّ الشاعر هو رافع الراية الحمراء في مسيرة الجموع اليائسة نحو الموت ، يشحنها بأن ترفض – مثل الدور العظيم لجلجامش – وبأن تتساءل لماذا قدرتْ الآلهة لنفسها الخلود ، وقدّرت للإنسان الفناء ؟ وفي طريقها أيضاً - ولو كان من يقودها ويقوم بذلك غير جوزف حرب لأسقطها في براثن مصيدة الإلحاد المظلمة – عليها أن تدع الشاعر يواجه أخّاذ الأرواح بطرقه المبدعة .
ولا يوجد نص لجوزف حرب في السأم من الموت ، أو في "مديحه" ، كحقيقة وحيدة ونهائية ومطلقة ، لا يأتي الإقرار بها من دون المرور بإعلان غضبه على الإنسان ، ونقمته عليه لأنه الكائن الذي أنهى اسطورة الفردوس على الأرض ، وهتك سرّ الرحم الأم ، وشوّهه ومسخه . خذ مثلاً نصّ "الدائرة" الذي توقفنا عنده قبل قليل ، والذي ينهيه بالدعوة الأخيرة لجسده للتهيّؤ للرحيل ، بعد أن ينفض يديه من كل شيء ، وهو لا يدري بأن في دعوته هذه إعلان لضرورة الجسد ، وانعدام القدرة على الخلاص منه مهما كان مقرفاً .. إن الجسد المبارك هو وعاء أرواحنا :
( يا
جسدي ، نادانا الموتُ ، افتحْ شمسيّتكَ
السوداءَ ، مخافةَ أن نتبلّلَ من مطر الأيّامِ ، افتحها الآنَ ،
اجعلها أوسع ، أقوى ،
أقربْ ،
ولنذهبْ . – ص 1098) .
قبل النداء الأخير هذا ، يتم الختام والتسليم عن طريق إدانة الإنسان :
( بي قرفٌ من هذا الإنسانِ . فلم ياتِ
الأرضَ سوى من خدع الأرضَ ، ومن ضيّعها .
أو من راوغَ ، أو منْ كذّبْ – ص 1097) .
وهذا ما يفعله ايضاً الآن – كمثال آخر – في النص التالي "أتوا ومضوا" ، الذي يرثي – ظاهراً – في مقطعه الأول هذه الجموع البشرية التي تأتي وتمضي من دون أن تترك حتى صورة في ذاكرة الزمان نستطيع اعتمادها كدليل للقول بأنهم جاءوا ! أتوا ومضوا .. وما أكثرهم عليهم اللعنة ! كانوا أرضيين خاضعين لحيوانية أجسادهم وضغط غرائزهم الطافح - وخصوصا غريزة عدوانهم ووحشيتهم - فلم تبق منهم صورة أو ذكرى سوى صورة خناجرهم المسمومة التي سالت على حدّيها "ضمائرهم" .. وحتى في رحيلهم النهائي لم يستطيعوا مغادرة طبعهم اللصوصي ، فسرقوا من الأرض بعضاً من ممتلكاتها .. البشر لصوص ، وفي كل زيارة يقومون بها إلى بيت الأرض الأم ينقص شيء من ممتلكاتها ، إلى أن يعرّوها بالتأكيد بتكرار زياراتهم اللعينة التي تشعل الحروب وتسفك الدماء . كنّا نفتخر على الحيوانات بأننا جنس يقدّر الموت ، في الوقت الذي لا تعترف به الوحوش ، وأنها تحتقر الحيوان المحتضر في حين نشفق عليه ، وأن الإنسان هو الوحيد الذي لديه ظاهرة احترام الموتى وتقديس الموت . هكذا كنا نفتخر ونتعالى . فانظر ما الذي يفعله هؤلاء الذين "يأتون ويمضون" ، ولا تبقى سوى ذكرى خناجرهم :
( أتوا مثل الزيارةِ ، غير أنّ الأرضَ
بعدَ رحيلِ واحدهمْ رات نقصاً بمنزلها ،
واخبرتِ المرايا أنّ لصّاً كان
زائرهمْ .
ومنذُ البدءِ
حتى الآنَ ،
خثطبتهمْ جنازتهمْ . وهذا النعشُ فوقَ
أكفِّ من في الموتِ شيّعهمْ
منابرهمْ .
بنوا
لم يسكنوا . وُلدوا وما عاشوا .
مضوا للحربِ فاقتتلوا ، تماحوا .
سوّسوا .
صدِئوا .
وقد فسقوا
بريشتهم ، وخانتهم
محابرهم .
أتوا
ومضوا .
أناسٌ ، ما تبقّى
بعدهمْ حتى
مقابرهمْ . – ص 1099 – 1103) .
"ما يبقى يؤسسه الشعراء .." . هذا ما كان يقوله "هولدرلن" منطلقاً من حقيقة مفزعة هي أن "الإنسان يسود على الطبيعة ويسخرها لخدمة أغراضه . إنّه يُلقي عليها نظرة نفعيّة ويقدّرها من زاوبة الإنتاج والتجارة . إنه يعكس نفسه على محيطه الخارجي . وهذا يشوّه عليه الرؤية الموضوعية للعالم . التربة ، المناخ ، المخلوقات البشرية ذاتها مهدّدة بأن تصبح مواداً أوّلية في ظل سيادة الآلة وطغيان المادّة . الشيئية تفرض سلطانها على الإنسان وتطرده من كل ملجأ ، تخنقه وسط ركام الأدوات المصنوعة ، وتسد في وجهه الآفاق المفتوحة . وهكذا بدل أن يكون سيّدا على الطبيعة يصبح عبدا لها . ليست القنبلة الذرية وحدها هي التي تهدد الإنسان بالموت ، بل هذا الإنتاج الآلي المتضخم الذي هو عامل انفصال والذي يطمس جوهرنا وماهيتنا الإنسانية بالذات ، لكن الخلاص لا يأتينا إلّا من الذي يكون معرّضا للخطر أكثر منّا ، الذي يختبر تجربة الفناء بعمق ، ويبلغ قعر الهاوية . فمراتب الوجود يمكن تعيينها بنسبة علاقتها بالخطر . إن من يغامرون أكثر من الجميع ، أي الشعراء ، يكتشفون في غياب كل أمل أن الكائن مقذوف به في الكون دون أي ملجأ ، وينقلون إلى البشر الفانين آثار الآلهة الممحية في ليل العالم الدامس . الشاعر يسبر غور الألم ، وبهذا يهدينا إلى طريق الخلاص . لكنه لا يفعل ذلك بغية تحقيق أية غاية نفعية أو مصلحة خاصة ، ولا طمعا في أي امتياز شخصي ، ولا إشباعا لأي غرور أو طموح . إنه يعلمنا أن نستوطن داخل كياننا ، الذي ينتمي إلى الغياب أكثر منه إلى الحضور ، لذلك علينا أن نغوص إلى الأعماق المظلمة . إنه ينبهنا إلى أنه لا يوجد أمان إلا في التجرّد كلّية من أثقال هذه الأرض ، من قانون المحافظة على البقاء ، ومن السعي وراء منافعنا ومآربنا الضيقة ، لذلك علينا أن نترجم في داخل قلبنا مسافة العالم الخارجية إلى صور لا مرئية حميمة تنحني على ما هو محبوب : الأجداد والأطفال ، من ماتوا ، ومن لم يولدوا بعد . فمظهر الأشياء يمنعنا من الإنفتاح على العالم اللانهائي اللامادي ، على العالم الداخلي المتحرّر من حدود الزمان والمكان ، الذي نصل إليه في لحظات الحب الأولى مثلاً ، وفي الإندفاع نحو الله" (80).
ولكن الشاعر ، مع هذا ، وفوقه ، وملتحماً به ، هو "بائع أوهام" ، لكنها الأوهام الضرورية - من زاوية نظر غير التي ينظر إليها جوزف في النص الختامي من هذا القسم - التي من دونها ستصبح حياتنا جحيماً مبكراً على الأرض ، لأننا سنحيا حينها حياة مفتوحة على اليأس ، لأنها حياة بلا أمل :
( منذُ
الأزلْ
للآنَ ، لا وهمٌ بهذي
الأرضِ
إلّا الأملْ – ص 1104) (نصّ "وهم") .
صحيح أنّ الإنسان قد خرّب آمال الشاعر به وأجهضها ، ولكنه يبقى برغم كلّ شيء "حيوان ذو أمل" .. وهذه ميزته الكبرى .
وسوم: العدد 628