قراءة في ملامح القصة الشاعرة عند الدكتورخالد فهمي

د. مصطفى محمد أبوطاحون

بلاغة الهمس وتحولات الحب

"الدقيقة الخامسة والأربعون نموذجاً"

للدكتور خالد فهمي صدرت مجموعته .. " الدقيقة الخامسة والأربعون" وفيها خمسة وأربعون نصاً ، تعمًّد مبدعها ألا ينسبها إلى نوعٍ  أدبي بعينه ، وهي بحق ليست طيِّعة التنسيب في مجملها وبإطلاق إلي القصة أو الشعر ، أو القصة الشعرية ، أو النثر الشعري ، ففيها من كل ذلك وأكثر ، إذ أكثر نصوصها : قصة ، ومنها النثر الشعري ، وفيها الفصة الشاعرة .

   والنصوص الخمسة والأربعون " وهي بعدد سِنيِّ عمر المؤلف وقت الإصدار" أكثرها من الوجهة الشكلية ينتسب إلى النثر الشعري .. ؛ إذ ليست جارية على نمط الشكل القصصي المعتاد، فليست جملاً متجاورة .. بل كلمات متتابعة أو جمل متوالية  .. تسقط الروابط بينها كثيراً .. وكثير جدأ من أسطرها يشغله دالٌّ وحيدٌ ..

     وفي النصوص دائماً ما يمثل دفقاتٍ شعوريةً ، وانسيابات وجدانية رائعةً جداً .. وفي أسلوب خالد فهمي بمجموعته .. التي يتجاور فيها القصصي والشعري .. والقصة الشاعرة ــ من نبل الرافعي وأناقة أسلوبه ، وفيها من دقة الزيات ورهافة تعبيره ،وفيها من إحكام لغة العالم المحقق ، كما أن فيها التراثي والحداثي ، بما يمثل حضوراً واضحاً للأصالة والمعاصرة معاً ، على نحو ما يتجاوران شكلاً في قوله بنصه "ضياء " :

"تذوب بشفتيها على خديه المرهقتين من أثر هدَّة العمل ؛

فَتُحِيلُهما تمرتين طريَّتين ، أو حبتيْ كريز رائعتين جداً "

   لا يغيب عن خالد فهمي في تشكيل صورته التشكيلية أن يجمع إلى مصادرِ أصالته (تمرتين طريتين) منابعَ حداثة (معلومة في بحوثه العلمية الرصينة) كما تبدو في (حبتي كريز) .

   تتجاور إذاً القصة مع الشعر والقصة الشاعرة بالاصدار ، ولكلٍّ من هاتيك الأنواع الثلاثة مظاهر حضور ، ربما تجمعت في النص الواحد ، لكن واحداً من هذه النصوص لم يخلص بكامله لأيٍّ من هذه الأنواع ، وهنا تكمن صعوبة المقاربة .. وربما لهذا السبب لم يعلن المبدع في عتبته الرئيسة لمجموعته عن نوعها الأدبي .

   أما مظاهر حضور فن القصة بالمجموعة فتمثلت في :

*السرد .

*ما يشبه السيرة الذاتية .

*العبارات المركزية .

1/1 السرد :

   فن القصة سردي بامتياز، وحينما يتجلى السرد نقترب من الفن القصصي ، وبالمجموعة من مظانِّ السرد .. المتدفق .. الشعري ما يؤكد طابع المجموعة المتوامج مع خصائص أدبية لأنواع ثلاث .. يقول سارداً في (لهفة) :

    "حين تهاتفه تتراقص صفحات المعجم طربا ،

تشتعل الأصوات من البهجة

 تندى الكلمات ،

تتنفس الأعضاء .. تتحول معشوقات

وتهيم .. تُحلِّقُ

تمطر أفكاراً أبكارا"

    والنص على قصره يمكنه أن يقرر من جديد هذا التماوج ؛ فالشعرية تطلُّ بروحها في النص بادية في تناغم الدوال كما بالسطر الأول ، وأكثر دواله منظوم على المتدارك (فاعلن) ومثله الثاني والثالث ، وإسقاط الروابط بين الجمل مسلك شعري حداثي بامتياز ، واستخدام علامات الترقيم من تقنيات الشعر الحديث .. وكذا القصة الشاعرة .

  ومن ملامح الشعر هنا التجانس التجاوري الصوتي .. الصرفي معا كما في "أفكاراً أبكارا" .

    ومن أهم ملامح السرد بالنص (وبالمجموعة كذلك) الحضور الطاغي للفعل لا الأشخاص .. ؟! وهو ما يناسب إبداعاً صاحَبَ ثورةً ولمس نوعاً إبداعياً جديداً ينسبه البعض إلى ثورة 25 يناير ، أعنى به القصة الشاعرة .

   فالفعل بالنص يتكرر( 9 مرات ) في مقابل عشر مرات للاسم ، وأربع مرات للضمير واحدة ظاهراً ، وثلاث مستترا ً مع ثلاثة الأفعال الأخيرة .. هذا الحضور العالي للفعل والمتعادل مع الاسم يتكرر كثيراً مُعززاً للجانب السردي بالمجموعة .. ومُسْهِمًا في تشكيل الصورة .. على نحو إبداعي مائز كما في (وحشة) وفيها :

يعاوده الحنين إذ همَّتْ بالمُضِيّ ..

تنهار كلُّ المحامد

تنزوي البركات

ويزداد الظلام

يستوحش من كل الدنيا

   الفعل هنا كاشف عن الضياع وعن التحولات .. والفقد ، بحيث بدت الأفعال .. فاعلة .. في تشكيل مفارقة كبرى ، تتحول معها طبيعة الأشياء في علاقتها بالأشياء الأخرى ..! كالثورة !! .

   فالفعلان تنزوي ويزداد متخالفان بل متضادان على نحو من الأنحاء ،  يؤولان لطبيعة الحدث (الفقد والحرمان) في ضميمتهما إلى فاعليهما ، وإسنادهما إليهما إلى تعبيرين مترادفين متآلفين ، يجسدان السلبية لا الإيجابية هكذا :

تنزوي                  البركات

سلبي                  إيجابي في ذاته            تعبيرٌ سلبيٌّ إجمالاً في دلالته

يزداد                    الظلام

إيجابي               سلبي في ذاته                    تعبير سلبيٌّ دلالياً

ومثلهما الفعل الأول تنهار (مع فاعله) .

      هذه المفارقة الدلالية في رباعية الأفعال المضارعية ، تتصل برباعية أفعال مضارعية أخرى تابعة ، ترد في مختتم النص موازية لها ، مفارقة لها كذلك ، على نحو إبداعي عبقري مُلهَم .. يقول مُجسداً لحالة مخالفة للسابقة : هي حالة تحقق الأمنيات والتحصل على الآمال :

   "ثم تعود ، يُزهرُ كلُّ الكون ..  

تلتئم الأعضاء

تتغنَّى كلُّ الأطيار ،

تبتهج الأطفال

تنتحر الوحشة"

   فهي .. الحبيبة ؛ الوطن أو المرأة .. معها له حالٌ ، وبغيابها يتحول الحال جداً إلى النقيض : وعلى سهولة إبراز تفارق الأفعال بين المجموعتين ، كما هو قائم بين : تنهار ، تلتئم – وكذلك بين يستوحش من كل الدنيا ، تنتحر الوحشة ! فالمقطعان إجمالا متضادان يجسدان حالتي الفقد ، والحرمان ، أو عبودية الفقد وحرية الامتلاك ! .

   وفي نصه (إيمان) يبرز مجدداً دور الفعل الحاضر المضارع في تشكيل السرد وتدفقه ،

نعم قد تؤدي بعض التقنيات الأسلوبية كالتكرار للأدوات  في سرعة تدفق السرد ، لكن الفعل .. من الوجهة الصرفية وربما في الواقع كذلك يبقى الفاعلَ الرئيس في تحريك الأحداث .. يقول :

    "يعود يقارب خطواً نحو النجم ، نحو جمال نادر ، نحو الروح تدب نشاطاً من طلَّتِها ، من همسة عشق تتلوها ، من نظرة كفٍّ دافئة .

   يرتد سريعا جداً ، لا يقوى ، لا يحتمل ، حلو اللمس ، شهد الجس ، بريق النور من الخدين .

يرسل جفنيه بطيئاً

يخشى يخدش صورة ملك زار عيونه

ينزل من عينـــــيه النور على قلبه

يردد : حقاً ،

يلهج بالحمد وبالتسبيح ، يقول بكل لغات تحيا أو ماتت

أنا بالحب قدر عرفت الله" .

   ثمانية عشر فعلاً تتردد بالنص ، ليس منها إلا ثلاثة أفعال ماضية ، وجميع الباقي مضارعة .

   إن نص (إيمان) يكشف عن إيمان المبدع بالفعل لا بالذات ومع أن الفعل لا يكون إلا بذات ، فالاعتماد عليه على النحو الوارد في ضوء زمنيتيه المضارعية الغالبة والماضوية المتقزمة ــ يكشف عن أهمية الفعل ، وعن حضوره الشعري السردي معاً ؛ إذ يجاور الفعل فعلاً في مرتين (يعود يقارب ، يخشى يخدش ) وفي الثانية مع ما بها من تجانس عفوي مستملح ، إسقاط لأن المصدرية بما يقترب باللغة من روح الشعر .

    إن كثافة تردد الفعل وأكثره مضارع تعني عند المبدع خالد فهمي الحدثية الفوَّارة والفاعلية الدائبة والحراك والحركة .. تعني التحول والتغيير .. وعدم الثبات على حال .. تعني كذلك التوتر والاضطراب .. وتعني الاحتمالية  والمفاجئة ! تعني كل ما يعاكس الركون .. والموت .. والتيه .. والضياع ، إنها الحياة . يقول مكرراً الفعل ثلاثين مرة متتالية في مفتتحات أسطره في (عهد) : وربما جاء الفعل منفرداً وحده بالسطر :

يأخد يدها ،

يصعد معها ، يرقى درجاً

يهبط مملوءا حذراً وطمأنينة نفس

يرجو أن يمتد الممشى

تتفادى شخصا ، يتمنى لو لم تجتنبه ، وتزاحم من تهوى عمداً

يتصل القلبان ،

ويزيد الخفقان،

تتمايل طربا،

يبتهج الشارع،

تتلألأ بالأضواء،

تزدان الأعمدة المتراصة – يميناً ويساراً ، تنشر عطراً مخزوناً من أجلهما من أيام الفاتح عمرو ،

تتواطأ حباً لهما الشرفات

يتهامس بالتسليم بلاطُ الطُرُقات

تأخد يده ، تدورُ الصحن ،

تدلف متثاقلة من باب صلاح الدين

تمرُّ ..

تجوز المحراب

تضبط ميقات الهاتف ، تسرع تصطف إلى جانبه ،

تلتقط الصورة تلو الصورة ،

تضحك

تمرح

تتفاخر كحمامات آمنة جدا

تتعب من لهو اليوم

تغيب الشمس فتجلس فوق فراش الأروقة المنتشرة ، فوق الدكة ،

تهتز من فرح ساكن ،

ترسل تنهيدات ناطقة بالمتعة ، يخشع فيها الخاطر،

تتعهد أن تبقى بجواره

تتعهد أن تمتع أيامه

تتعهد أن يحيا ! "

  الفعل هو البنية  المهيمنة شكلاً وموضوعاً بالنص إذ يتكرر فاتحاً النص ثلاثين مرة كاملة ، بخلاف تردده خمس عشرة مرة بحشو السطر ، دائراً في أكثر المرات بفلك الفعل الأول المهيمن ، وكأن الفعل استهلالي افتتاحي ، وربما كانت القدرة عليه إبتداءً علامة اقتدار وصلاح .

    والفعل يتردد متجاوراً في مسلك شعري في (تسرع تصطف) .

   وبالنهاية يتكرر الترتيب : (تتعهد أن + مضارع "ثلاثاً على نحو إيقاعي بديع فيه  من أمارات الشعر ما لا يخفى من طرب وانسجام .. يأتيانه من تكرر الفاتح ، ومن تناغم النهايتين الأوليـــــين ، ويبقى كسر النمط التكريري بالسطر الأخير حينما يغيب الاسم

( منصوباً ومجروراً) أذان بالخروج .. والصمت .

  1/ 2   بالمجموع من ملامح القصة أيضا ، أنها تأتي في بعض المواضع وكأنها سيرة ذاتية للمبدع الدكتور خالد فهمي الأستاذ بكلية الآداب ، والمتمرِّس بعلم المخطوطات الذي يستثمر من مفردات العلم صوراً شعرية طريفة لا يُؤتاها إلا أمثاله .. يقول في "رعشة الميلاد" :

   " بدت مصافحته لي كأنها مخطوطة نفيسة مذهبة ، خطَّها من أنفس الخطوط"

    وفي المجموع ما يتصل بالمبدع وحياته وشخصه وطباعه .. بحيث يلتفت إليها بسهولة من يعرفه أو يرافقه ، فخالد فهمي شخصٌ نبيلٌ ، وقورٌ ، يؤثر الصمت كثيراً ، تبدو طلعته أسنُّ من عمره ، يؤثر التراث ويعشقه ، غير منفصل عن أحدث صيحات علم اللغة الحديث ، وكثيراً ما عالج معشوقه التراثي بهذه المناهج الحديثة الناجعة .. يقول في "شهوة" :

   "كانت عادته أن يلتف بالصمت ،

يركن إلى حزنه النبيل ، الذي يحيله شيخاً وقوراً ، لا يمكن لأحد أن يتكهن بحقيقة عمره الذي انقضى ،

كان يمتعه الغوص بعيداً بين سطور الكتب القديمة ،

صور المخطوطات التي يهواها .

عنوانات الأبواب المكتوبة بالمداد الأحمر القاني العتيق ، الذي زاده تقادم الزمان عراقة ،

رسوم الحروف الممشوقة كعروس عذراء لم تحمل لحماً بسبب من حمل وزواج"

    والمشبه به "كعروس .. وزواج" شعري ينضبط إيقاعياً على المتدارك .

    وخالد فهمي .. كما يبدو في مجموعه ، وفي واقعه ، كذلك عالِمٌ مُدقِّقٌ ، يعتزُّ بذاته في غير ما تعالٍ أو غرور ، يرفعه بل قل يقر له الآخر بمكانته ، فيتبوؤها مكانته عن جدارة واستحقاق ، إذ هو في (تعليقة) :

" يشعر باكتفاء عجيب ، لا عن غرور ، ولكن عن زهادة في الزمان يسافر من كتاب لكتاب .

يهوى الأسطر ،

يتفنَّنُ في لمح فروق المعنى ،

يتأنَّقُ في استجماع الحجة ، يطيل الفرز ،

يتأنَّى في السَّبْر ،

يراجع نقلاً مأخوذا

يتفحَّصُ أصله ،

يتأمل نُسَخَه ،

يصنع أشجار النسب ،

يُرتب ،

 يحذف ،

يستبقي ،

يلاحظ ما علَّقه الناسخ حين يكون خبيراً "

   ومن يعرف المبدع الأكاديمي خالد فهمي ، يراه قاصداً نفسه ، ولا يتحدث عن غيره ، في (وجع) إذ هو منزعج دائماً من "خوف الفوت" كما أنه

    " يتغير بعد كل مراجعة  لطبيب العيون ، يغشاه نوعٌ ثقيلٌ من كآبة ، واستيحاش للطريق ،

يهاجمه شعورٌ حزينٌ جداً : ثَمَّةَ تراجعٌ متعلق في قدرته على الإبصار ،

رؤية ما يهواه ؛ وجهها الملائكي المنبئ عن دلال ونعومة عيش"

  

    وانزعاج المبدع خالد فهمي من "خوف الفوت" جعله من أعظم من يهتمون بالوقت وقيمته ، وربما كان ذلك سبباً في ذهاب معدل إنجازه العلمي إلى بعيد!

1/3 وفي مجموع ( الدقيقة الخامسة والأربعون ) عباراتٌ مركزيةٌ ، محورية ، تتصل بموضوع المجموع الغالب أو بالمبدع ، من ذلك حديثه عن عمره ساعة إبداع المجموع ، إذ هو في الخامسة والأربعين من عمره ساعتها ، وقد رمز لذلك في عنوانه ، لا بالسنين بل بالدقائق ، وفي رمزه ما يؤكد إحساسه بأهمية الوقت وحسن استثماره له ؛ إذ لا يهدره كما الآخرون ....يقول في عبارة ذاتية متناغمة مع عنوان العتبة الرئيسة للديوان في( مخاوف) وهي عتبة عنوان دالة :

    "أوشك يختتم العمر ، أوشك ينهي الربع الباقي من الساعة" .

    ويقول عنها في (ندى) ، وهو عنوان عتبة دال أيضاً :   

    "كان ظهورها في حياته إشراقةَ شمس في موسم الربيع" 

    ويقول عنها "الزوجة أو الوطن" في (وجع) :

   "عزيزة جدا" ، تحتل الرقم الأول دوما في قلبه"

    والمجموع في مجملة أشبه بقصيدة غزل عذري راق فيها مصر ، المرأة التي ليست إلا زوجه .

(2)

   أما الشعر من حيث هو ، فملامحه أظهر من أن تخفى في المجموع ، وتمثلت تلك الملامح في :

2/1 الصورة الشعرية .

2/2 التناص .

2/3 تقنيات الشعر الايقاعية .

2/1

    تلقى المتلقى والناقد في المجموع صوراً شعرية نُسجت بدقة عالم لُغوي وبانسانية رومانسي حالم ، خبير بدروب اللغة وأساليب الفحول ، وهو يعتمد في تشكيل صورته على الفعل أيضاً ، لكنه الفعل الرقيق ، الرفيق ، الشفيق ، في الغالب : يفتتح نصه (نغم) معتمداً على قالب الاستعارة فيقول :

    "سكب في روحها قطعة من أدبه الذي نضح عليه بعد أن تغلغلت بداخله . كانت ترتشف رحيق ما يتلوه على مسامعها، تذوب كحبيبة داعب حبيــــبُها صفحةَ عنقها بأطراف أنامله".

2/2

    يبدأ المبدع خالد فهمي أكثر نصوصه بشعر غَيريٍّ ، أكثره تغنت به "أم كلثوم" وبعضه لفيروز أو ماجدة الرومي .. مما يكشف عن روح منفتحة .. متسامحة ليست متشددة بحال .

   وهو إذ يُنصِّصُ شعراً في مفتتح النص، يؤسس عليه فكرته فيرتبط العنوان به على نحو ما فيه (ألم) إذ يبدأ بقول الشاعر :

شيءٌ في قلبي يتحرق   إذ يمضي الوقت فنفترق

   وهو النص الذي يختمه المبدع بالشعر أيضا ؛ إذ يرد في خاتمته ما يؤكد فكرة النص المبنية على قسوة الفراق ، وجمال الحب ، يقول :

 "ونمد الأيدي يجمعها حب

                               وتُفَرِّقُها طُرْقُ "      

    وعلى النهج ذاته يستفتح نص (إيمان) ويختتمه بالشعر الغيري ، وهو هنا لشاعر واحد هو "إيليا أبو ماضي" في شعره عن الحب والتعرف إلى النفس وعلى النفس ، ففي المفتتح قوله :

"أنا بالحب عرفت نفسي "

وبالختام قول أبي ماضي أيضا " بتصرف " :

أنا بالحب قد عرفت الله

     وفي نصه (نشوة) يتستفتحه بشطر بشار؛ إذ يقول :

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة

    يتبعها مباشرة إذ أسس الشطر لفكرة " جمال صوت الحبيب" .. يقول :

"صوته المنحوت من طينة مقدسة

علوية يتجلى على الدوام بَهِيَّا"

     وفي حشوه يقول:

     "تشدو بأعذب أصوات ممكنة في الملكوت

يأتيها

يتمسَّحُ فيها"

وفي مختتمه يقول :

"تتمنى أن يبقى صوتُه ألا يتوقف أبداً

تزداد النشوة"

    ويستفتح نص (لهفة) بما غــــنته ماجدة الرومي :   

"كلماتك ليست كالكلمات"   

    فيؤسس لاختلاف كلمات الحبيب عن كلمات غيره ، ثم يقول بالحشو :

   "حين تهاتفه تتراقص صفْحاتُ المعجم طرباً  

تشتعل الأصوات من البهجة

تندى الكلمات

تتنفس الأعضاء .. تتحول معشوقات"

    وهو يستوحش الحياة لفراق محبوبته "مصر ، المرأة" يؤسس لهذا في "وحشة" فيستفحته بقول الشاعر :

" فما معنى الحياة إذا افترقنا"

   ثم يُتبعها قوله مباشرة :

   " تنزع منه روحه عندما يُكتبُ عليهما أن يفترقا      

تمرُّ الدقائقُ مريضة حزينة كئيبة

يتردد الدمع في مآقيها"

    وتنصيص الشعر على النحو الوارد يجعله قاطرة للمعنى ، يدور في فلكها ويتبعها .. لا يملك إلا الحركة في ركابها، ويشْبه الشعرُ حينما يُنصَّصُ بدءأ وانتهاءً القاطرةَ وعربة توليد القوى ، كلتاهما تسيطر وتمنح تقود !

    والتنصيص إذا كان من خصائص النصوص الأدبية إجمالا على تنوع مصادره ، فإنه حينما يكون شعراً ، فإنه يعزز من حضور الشعر في النوع الأدبي، وإذا ما عاونه في ذلك شعرنةُ الأسلوب .. اقترب النوع أكثر وأكثر من الشعر .

2/3

    بنصوص المجموع عديد من تقنيات الشعر الايقاعية ، أو مظاهر الأسلوب الفاعلة في تشكيل إيقاع النص ، كالسجع والجناس والتكرير ، والتوازن أو الازدواج ، وما أسميته تقفية السرد.

2/3/1

    بالمجموع يتردد السجع فاعلاً في جمالية الشكل ودقة الدلالة ، والسردُ في نص سردي بالطبيعة جميل ؛ إذ يعمل على تشكيل ما يشبه محطات التنفيذ بين المعاني الجزئية، كما يعمل على تناغم الفقرة الضامة من طريق توحُّدُ النهايات .. والوظيفتان كأنهما متعارضتان ..وليستا ؛ إذ هما إيجابيتان في كلٍّ دلالياً ونصياً .. يقول في (نشوة) :

    "زاده طريقة اختياره للكلمات العريقة الموفقة شيئاً ضافياً من بهاء

                                                 ونفث فيها من حسن الأداء

وقوفه ، تنغيماته ، ضغطاته المتنوعة، حركات البدن المصاحبة ــ شيئا من سحر ورواء "

    فبالفقرة ما يشبه الروي الهمزي المردف بالألف ، ومثله قوله في (ندى) :  

"كانت نوراً نُوَارا

عبيراً وأزهارا

ماءً ووضوءا

طهراً ونماءً "

    وبالنص جناسٌ تردد مثله في مواضع أخرى من المجموع ، كما في (لهفة) إذ يقول :  

   " يوم التقيا ، تجلت كالنفحة العلوية تتسلَّلُ إلى داخله المهدوم المهزوم ، تجلت لتحييه بالبهجة في عقله بالأنس الخالد في قلبه ، بالنور الساطع في العينين ، بالموهبة القدسية في الكفين "

   والجناس في النص بين المشتــــــقَيْن :    "المهدوم والمهزوم " المؤكد لدلالة الضياع والتيه يرفده توازنٌ تعبيريٌّ ثلاثيُّ المراحل ، يدور في فلك الفعل (تجلت) الثاني ، يعتمد على تكرير :

     الجار (الباء) + معرفة + نعت معرفة ، ثم الجار (في) + مجرور معرفة ( هو في الأولى معرف بالإضافة لضمير ، وفي الآخرين مثنى معرف بالألف )

    وقد نتج عن هذا التوازن إيقاع واضح .  

     وقد بدت بعض مواضع السرد مُقفاةً ، أشبه بأبيات شعر أصيل ، يُلتزم به الروي على نحو ما يفتتح به نصه ( تردد) ملتزماً الهاء الموصولة بالألف لأكثر من اثنتي عشرة مرة .. يقول :

    " في تاريخها ما يملأ مجلدة ضخمة ، تحكي حكايات من أزمنة ترددها ،

                                                   مقاومة النخلة المثقلة بداخلها ،

                                                                 كأن حديثه إليها ،

                       هجوم طيفه المباغت كل ليلة ، احتلاله محيط غرفتها ،

                                                                 اقتحامه لكيانها ،

                                                             قدراً نزل بساحتها ،

                                   لم يكن يدري ما هذه التفاصيل التي تؤرقها

                                                                         تعذبها !    

                                                                 تحتل أريكتها ؟        

                                                     وتزاحمها فوق وسادتها ؟

                     تنزع الصرخة المكتومة الملتهبة من فيض مشاعرها ؟    

                                                                     وتزلزلها ؟

                                                           كان ، وهو يكبرها ،

                                                          يدرك حجم توترها ،

                                                    وصراع الأفكار بداخلها ،          

الخجل الفطري ، كلام الثرثارين ، فضول الأصحاب "

      وقد يأتي بما يشبه القافية المتناوبة ، المتغايرة ، مثنى مثنى ، يتغير الروي بعد كل سطرين .. ذلك في نصه ( استبداد ) إذا يقول :

     "عام في بحاره ، فاغتسل من كل شراسته

لانت كل حرونته

عاود يلتهم الروضة

يطمئن إلى المصون في سر الهوى المكنون

يتعلق بنفائس الأعلاق

وتحل فيه مآثر العشاق "

     ومن تكرار التركيب ما يسهم في توازن أسطر النص ، فيعلي من إيقاعيته بما يسهم في طرب المتلقي ، وقناعته على نحو ما في حشو (تردد) إذ يقول خالد فهمي :

    "استدعاها

أرسل ساعة غابت من يرجوها ..

من يكسر حدة غضبتها

من يغسل غبرة وحشتها "

         فالأخيران يستقيمان صوتياً بحسبان الدوال ، وهي بحسبان تفعيلات العروض رباعية من المتدارك ، على اختلافٍ في الزحاف .

(3)

     أما ملامح القصة الشاعرة بالمجموع فكثيرةٌ على عدم اكتمال .. تلقى بعضها هنا ، وبعضها هناك .. بما يقرر قابلية النص وصاحبه لأن يكون واحداً من مبدعي القصة الشاعرة التي تهدف إلى ترسيم الواقع للكشف والإمتاع عبر تقنيات خاصة بالنوع الأدبي كما ارتآها رائدُها المبدع الشاعر محمد الشحات .

    ومن أهم ملامح القصة الشاعرة : 

*التدوير الشعري ؛ إذ لا تسكين .

* التدوير القصصي؛  إذ لا وقف . فهي دفقة سردية متصلة .

*توظيف الرمز .

*استثمار دلالات علامات الترقيم .

*اللفظة رباعية الأبعاد (الايقاع، القص، المعنى الذي يضمره المبدع "الرمزية" ، الاختزال والاندماج)

*دوران الموضوع في الغالب عن الوطن ومقاومة الاستعمار .

* هي ليست قصيدة تحكي قصة .. بل قصة شاعرة .

  وهنا ينبغي التأكيد مجدداً على أن مجموع (الدقيقة الخامسة والأربعون) يحمل هنا وهناك ملامح القصة الشاعرة .. وهو في حاجة إلى مزيد التزام بخصائص النوع إن شاء أن يُنَسَّبَ إلى القصة الشاعرة .. جميع ملامحها موجود قائم .. لا يٌخطئه إحساس أو تحليل .. لكنها ملامح تـــتشظَّى ، ولا تجتمع ، من ذلك :

3/1 الرمزية

3/2 إستقامة الشعر مع السرد .

3/1

   وفبل الخوض في الرمزية بـــ (الدقيقة الخامسة والأربعون) للمبدع الدكتور خالد فهمي .. يُشار إلى أن التدوير .. التدفق والتسارع الشعري القصصي بالمجموع في غير ما حاجة إلى مزيد بيان ، فهو ظاهرة بارزة جداً بالمجموع .

   أما الرمز، فهناك نصوص، هي بكاملها رمزية كما في : ( بقايا حلم من ليلة شتاء ) وهو عن الثورة ، وكذا (رؤيا) ، (رِيّ) ، (رحيل ، حزن ، نصٌّ ، لقاء) وأخيراً (الدقيقة الخامسة والأربعون)

   وبطول المجموع يتردد الدال (النهر) تيمة ثورية بامتياز ، كما في أكثر الأحيان ؛ إذ يتردد في مفتتح أول نصوص المجموع (بقايا حلم من ليلة شتاء) .. يقول :

    " ألقى بجسمه في نهر الشارع الذي بدا خاليا مكتظاً معاً

كانت روحه متعبة جداً

وكانت نفسه متألمة حزينة

وكانت أعضاؤه جميعاً مستنفرة من الإرهاق .

توارت وسامتُهُ المعهودة خلف أحمال السنين التي يحملها

كأنما كان عائداً من جنازة ابتعدت المقابرُ فيها ، وقبعت هناك في نهاية طريق ترابي طويل جداً "

   ويتكرر الدال في : ( عند النهر ، ابتسامة ، لحظة ) وفي الأخير تتلبس دلالة الدال الواقعية مع الرمزية على نحو بديع ويمتزج الذاتي بالمجتمعي .. يقول مُنصصاً لأغنية "أم كلثوم": (فكروني) :

   ( يشعر أنه ينسيها آلام السنين القاسية ، والذكريات النابتة من تربة المحنة، يزغرد صوتها، يتحدَّر نغماً ، يتناثر ندىً ، يغسل سمعه ، يجلو بصره ، كزخَّات مطرٍ عُذْرٍي، يملأُ البلدة بهواء نقي،

 كطفلة عابدة انتهت لتوها من وضوئها ،

"فكروني

صحُّوا نار الشوق

في قلبي

وفي عيوني ،

رجعوا لي الماضي"

    كان الصوت العذب الذي طالما ملأ روحه بهجة يأتي من بعيد، ينساب مع الحياة التي ينشرها منظر النهر الذي يتمدد أمامه كعروس مدللة، رائقة، غنية الجمال ، فاتنة، ساحرة)

     وفي (ابتسامة) .. الرمزية ، حديثٌ عن معاناة مصر قبل الثورة .. وغياب الحرية وفساد الإعلام .. يقول في المفتتح عنها :

"كانت منكفئة على نفسها ، تبكي مما فقدته،

وسقط منها،

وكانت غارقة في أحزان تراكمت ،

وأثقلت كاهلها ،

كانت ممدة عل أرض الغرفة، تئن من وجع السنين ،

ويزيد آلامها غياب الشمس ، وانتشار الهواء العطن الذي يزكم أنفها الدقيق الجميل الذي يعكس أصولها العريقة الراقية ، والذي ترك آثاره المَرَضِيَّةَ على شفتيها الذابلتين " ويقول في (الدقيقة الخامسة والأربعون) وقد تسرب إليه لمرور سني عمره الخمسة والأربعون عن الفقد .. ومرارة الارتداد .. ربما إلى أرذل .. السنين :

  " يقهر شيئاً ، يهوى يتفلَّتُ منه، 

يكسر كل قيودٍ يبعثها العرفُ الفاسد ، الحمقُ الأعمى ،

فتنة الجهل المتراكم ، عرق الأجساد المتزاحمة عند رصيف المحن،

سَوْقُ الناس إلى الذل سعيدة ! "

3/2  

    وفي المجموع مواضع كثيرة جداً ينتظم فيها إيقاع المقطع ، وغالبا ما كان ذلك على تفعيلات المتدارك ، ومن ذلك قوله في (تردد) :

" استدعاها

أرسل ساعة غابت مَنْ يرجوها

مَنْ يقذف بالرحمة داخلها

من يحملها نحوه

من يكسر حِدَّةَ غضبتها

من يغسل غبرة وحشتها ،

من يزرع بالرغبة قلباً منها ،

يسكنها ،

 جاءت مستنفرة فزعة

أسمعها حلو قصائدها ،

لوَّنَ بالكلْمات أضواء ملامحها

صوَّر بالإقبال عليها الفرح الراقص من رجعتها "

    ويقول في (لهفة) :

" تبدو لهفتها دوماً لهفة أُمٍّ حَيْرَى ، نزعوا منها سرَّ أمومتها

لهفة أم أشبه بالثكلى

وحين تعود ، تعود فتغمر كلَّ الأرض الرحمةْ ،

يتبدَّى القولُ الصادر منها جنةَ حيران

يشتاق إليها ،

يتلهَّف ، يبحث فيها عن سر المعنى المختالْ ،

يلقى اللهفة عنوان الشوقْ،

يلقى اللهفة عنوان العشق الكامن،

يلقى اللهفة تفسيراً للحب المتأجِّج في صدره،

يلقى اللهفة عنواناً للإقبال !"

   والتكرار الأخير (يلقى اللهفة عنوان .. ) مع ما فيه من كسر للنمط ؛ إيذاناً بالخروج والصمت تقنية شعرية إضافية بامتياز .

   ويقول في (أمومة) خالطاً نادراً بين تفعيلتي المتقارب كما في (تغني) والمتدارك المهيمنة على سائر الأسطر / الأشطر :

تتدفق منه دماه

تحي الأوراق

تبعث بالرقصة في الكلمات

تغني

تشدو بأرق الأضواء

تنير العالمَ من حوله

كانت مهجةَ روحه حين تئوب

كانت ماءَ حياته

كانت كلَّ العالم له

كانت كلَّهْ

كانت أمَّهْ

كانت ما شاء الله"

    وفي نصه الوطني الممتاز (نشوة) يتطاول الأمد الشعري حتى لينقلب النص على ذاته ؛ إذ يقول مُراعياً ما يشبه القافية :

" يأتيها

يتمسَّحُ فيها

يتلمَّسُ حبات القمح النامي في كفيها

نظرات الحب إليها زادٌ روحيٌّ يبعث بالحيوية فيها ،

تزدان شجيرات الفكرة في دمها ،

تترعرع ثمرات النور بداخلها ،

تتعالى،

تكثر،

تنمو،

تنضج،

تزداد حلاوتها،

تختال ، يعشق مشيتها،

تتقاطر حباتٌ من أنداء

تتمنى أن يبقى صوته،

ألا يتوقَّف أبدا

تزداد النشوة!

يطير هناك بعيداً ، عن هذي الأرض الطينية ،

يتألق، يتأنق ،

يزداد بها ، تتنامى النشوة ! "

    إن (الدقيقة الخامسة والأربعون) للمبدع الأكاديمي خالد فهمي ، لا تبدو لجمالها وعبر نوعيتها أبدأ أول إبداعاته .... فقد بدا فيها صاحبُها مبدعاً متمكناً امتلك أدواته  ، كأنما هبط وحيُ الإبداع عليه ؛ إذ صادف نفساً مبدعة .. لا غرو أن يكون الواقع والعنوان بعد الأربعين .. سنُّ النبوة ، واستقبال الوحي .

دام الإبداع المصري .....

ودام إبداع العربية ، متطوراً ، لا تنقضي ثمرات إيناعه الحلوة .  

دكتور مصطفى محمد أبوطاحون      

أستاذ الأدب والنقد المساعد بآداب المنوفية

وسوم: العدد 629