علي الوردي : (33) ابن خلدون هو "هيجل" العرب

# توظيف الوردي لأطروحات ابن خلدون في دراسة المجتمع العراقي : 

لكن ما يوازي إعادة اكتشاف ابن خلدون فكريا هو القيام بتوظيف المُنجز النظري لابن خلدون والذي نُسي بعد وفاته وتقادم القرون ، برغم محاولات الاستفادة منها من قبل المقريزي وابن خلدون الأصبحي ، فقد حلّت الفترة المظلمة وأصبح اهتمام الناس مُنصبّا على النحو والصرف والبيان والبديع أكثر مما يهتمون بشؤون ومشكلات المجتمع .

ويمكننا القول أن الوردي هو أول باحث عربي يوظف الأطروحات الخلدونية القديمة لدراسة مجتمع معاصر هو المجتمع العراقي . لقد اعتمد الوردي على أفكار ابن خلدون – وأعلن ذلك مرارا – في طرح فرضيته الأولى عن صراع الحضارة والبداوة في المجتمع العراقي خصوصا ، وفي المجتمع العربي عموما ، وما لها من انعكاسات في خلق معضلة أخرى أشد ضررا وتمثلت في فرضيته المتأخرة حول ( التناشز الاجتماعي ) . يعتقد الوردي أن العصبيّة في المدن العراقية هي أنموذج لما يجري في المجتمع العربي عموما من صراع بين قيم البداوة والحضارة . يقول الوردي :

(( لعلني لا أغالي إذا قلت إن مجتمعنا الراهن هو من أكثر المجتمعات في العالم تأثرا بالقيم البدوية في محاسنها ومساوئها . ولعل المساويء البدوية أوضح أثرا فيه من المحاسن . لاحظت هذا في المجتمع العراقي ، وهو المجتمع الذي نشأت فيه وأولعت بدراسته منذ زمن غير قصير . فقد وجدت أن العشائر الريفية ، التي تؤلّف نسبة ستين بالمائة من سكان العراق تقريبا ، لاتزال تسلك في الحياة مسلكا يقارب مسلك أجدادها من بدو الصحراء . فلديها قيم العصبية والمَشيخة والدخالة والثأر وقتل المرأة غسلا لللعار وما أشبه )) (230) .

ويرى الوردي أن حال العشائر العراقية بات أسوأ من حال المجتمعات البدوية الصرف ، فقد فقدت بعض محاسن البداوة كالصدق والأمانة والوفاء والإباء ، لكنها لم تفقد المساويء . ويعيد القسم الأكبر من ذلك إلى الحكم العثماني الذي استمر أكثر من أربعة قرون ، كانت الدولة فيه ضعيفة وغير قادرة على حماية المواطنين وتوفير الأمن لهم ، ولكنها كانت قاسية في جباية الضرائب ومقاتلة الممتنعين عن دفعها . ولذلك اضطر الناس إلى التمسك بقيم العصبية والثأر والغزو وغيرها من القيم البدوية السلبية في سبيل المحافظة على أرواحهم وأموالهم ، واضطروا أيضا إلى التخلّق بصفات الكذب والمراوغة والمماطلة لكي يداروا بها تعسف موظفي الحكومة وجُباتها . لقد أدى هذا إلى أن يشهد المجتمع العربي الحديث صراعا شديدا في القيم بين القيم البدوية المتغلغلة في النفوس من جهة ، والقيم المُضادة التي جاءت بها الحضارة الجديدة . وهذا الصراع يكون بدرجة أشد في المدن منه في المناطق الريفية التي لم تؤثر الحضارة في نفوس أبنائها تأثيرا كبيرا . ولهذا نجد الفرد أحيانا يتقمص مظاهر الحضارة ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن يتخلص من بعض بقايا القيم البدوية المتغلغلة في عقله الباطن . يظهر هذا في تناشز موقف المتعلّمين – وحتى بعض المثقفين – في المدن حيث نراهم يدعون في المقالات والخطب واللقاءات العامة إلى تحرير المرأة ومساواتها بالرجل ، ولكنه يتصرّف نقيض ذلك في سلوكه اليومي مع زوجته وأخواته . والموظّف الذي يعلن دائما أن المواطنين سواسية أمام القانون لا يساوي بينهم عمليّا عندما يراجعونه لأنه يفضل أبناء محلته وعشيرته على غيرهم ، وهذا الأمر هو تعبير عن " العصبية " ، وهذه العصبية التي تشيع في المدن العراقية يجد فيها الوردي – حسب قوله – نموذجا لما يجري في المجتمع العربي عموما من صراع بين قيم البداوة والحضارة . وهو يعتبر سبب استفحال هذه العصبية في المدن العراقية راجع في جانبه الأكبر إلى عجز الحكومة في العهد العثماني كما أشار سابقا . لكن الأمر الأكثر أهمية هو أنه يعتقد أن :

(( النزعة الطائفية المستفحلة في العراق بين الشيعة وأهل السُنة قد اتخذت طابع العصبية القبلية . فأهل المدن المختلفة من الطائفة الواحدة قد ينسون عصبيتهم المحلية والبلدية في نزاعهم العام مع الطائفة الأخرى ، ويتخذون بدلا عنهما عصبية على نطاق أوسع )) (231) .

ثم يوس~ع الوردي نظرته هذه إلى العصبية بصورة جريئة وغير مسبوقة فيعتبر النزاع الحزبي الذي حدث في العراق إثر ثورة 14تموز1958غير خال من بعض آثار تلك العصبيات المحلية والبلدية والطائفية على وجه من الوجوه  (232) .

والوردي يرى أن هذه القيم تترسخ في نفس الفرد منذ طفولته الباكرة ، وحين يكبر ويُصبح متعلما – وقد ينال منصبا رفيعا في الدولة – ولكنه لا يستطيع مع ذلك التخلّص من أثر تلك القيم الكامنة في أعماقه .

ويشير الوردي إلى أن ابن خلدون يرى أن العصبية تكون في أوج قوتها وأوضح معالمها لدى البدو من أهل الأباعر . فهؤلاء متوغلون عادة في حياة الصحراء ، وهم لذلك بعيدون عن تأثير الحضارة وما فيها من ظلم وترف . أما الدولة فهي لا تظهر إلا في الحضارة ، وهي طبعا من أهم العوامل فيما يحدث هناك من ظلم وترف . ولكن النزعة الواقعية عند ابن خلدون جعلته – كما يقول الوردي - لا يقف عند هذا الحد في التصنيف الثنائي الذي لا وسط فيه فنراه يقول أن العصبية قد تظهر في المدن أحيانا ، وذلك عند تقلص ظل الدولة القوية عنها . وكذلك قد تظهر بعض بوادر الدولة في البادية عند تجمع العصبيات المختلفة تحت مَشيخة واحدة . وهذا ما ذكره في مقدمته في الفصل الذي عنوانه : " في وجود العصبية في الأمصار وتغلب بعضهم على بعض " ، حيث قال :

(( من البيّن أن الإلتحام والإتصال موجود في طباع البشر ، وإن لم يكونوا أهل نسب واحد ، إلا أنه كما قدمناه أضعف مما يكون في النسب ، وأنه تحصل به العصبية بعضا مما تحصل بالنسب . وأهل الأمصار كثير منهم ملتحمون بالصهر ، يجذب بعضهم بعضا إلى أن يكونوا لحما لحما وقرابة قرابة ، وتجد بينهم من العداوة والصداقة ما يكون بين القبائل والعشائر مثله ، فيفترقون شِيَعا وعصائب . فإذا نزل الهرم بالدولة وتقلص ظل الدولة عن القاصية ، احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم ، والنظر في حماية بلدهم ، ورجعوا إلى الشورى وتميز العلية عن السفلة . والنفوس بطباعها متطاولة إلى الغلب والرياسة ، فتطمح للشيخة ، ويستوصلون بالأتباع من الموالي والشيع والأحلاف ، ويبذلون ما في أيديهم للأوغاد والأوشاب ، فيعصوصب كل لصاحبه ، ويتعين الغلب لبعضهم ، فيعطف على أكفائه ليقص من أعنتهم ويتبعهم بالقتل أو التغريب حتى يخضد منهم الشوكات النافذة ، ويقلم الاظفال الخادشة ، ويستبد بمصره أجمع . ويرى أنه قد استحدث ملكا يورثه عقبه ، فيحدث في ذلك الملك الأصغر ما يحدث في الملك الأكبر من عوارض الجدة والهرم )) (234) .

ويعلق الوردي على وجهة نظر ابن خلدون هذه بالقول :

(( حين نقرأ هذا الكلام في مقدمة ابن خلدون نكاد نشعر كأنه كان يتحدث عن أحوال المدينة العراقية في العهد العثماني ، أو أية مدينة أخرى من المدن العربية التي مرت بظروف مشابهة . والظاهر أن المدن المغربية في أيام ابن خلدون لم تكن تختلف في أحوالها الاجتماعية عن غيرها من المدن العربية عندما يتقلص عنها ظل الدولة القوية ، إذ هي تلجأ إذ ذاك إلى نظام العصبية لتقوم به على أمرها الذي عجزت الدولة عن القيام به )) (235) . 

الدعوة إلى تأسيس علم اجتماع عربي:

--------------------------------------

إن العامل الأساس الذي جعل الوردي قادرا على الإستفادة من موروث ابن خلدون هو المقترب النفسي الذي قام على الثقة بذاته من ناحية والثقة بمنجز ابن خلدون من ناحية أخرى حيث قال بوضوح :

( كثير من متعلّمينا اليوم يستنكفون من دراسة علم الاجتماع الخلدوني ، إذ هم يعدونه من جملة العلوم القديمة التي ذهب زمانها ... وكأنهم يرون في علم الاجتماع الحديث ما يُغنيهم عن دراسة نظرية اجتماعية عتيقة أكل الدهر عليها وشرب . إنهم لا يدرون أن نظرية ابن خلدون لا تزال على الرغم من قدمها محافظة على الكثير من جدتها وقيمتها العلمية ) .

إن هذه الثقة القائمة على الدراسة الدقيقة والتقييم الثاقب ، هي التي جعلت الوردي يقف موقفين آخرين متفرّدين من تراث ابن خلدون : الأول هو تقييمه الموضوعي لهذا التراث ووضعه في نصابه الصحيح من محاولة خلق علم اجتماع حديث من دون تعصب أو حماسة . فبخلاف من اعتبروا ابن خلدون مؤسسا لعلم الاجتماع الحديث يرى الوردي أن الأساس الذي وضعه ابن خلدون لعلم الاجتماع أمتن وأصح من الأساس الذي وضعه ( أوغست كونت ) وفيه من الأصالة ما يندر أن نجد مثلها عند كونت ، ولكن كونت ظهر في الوقت الذي كان فيه الجو الفكري في حاجة ماسة إلى علم الاجتماع فلقيت صيحته في هذا السبيل أذنا صاغية ، ونما وتطور . ولهذا فالوردي لا يتفق مع المتحمسين الذين يعتبرون ابن خلدون مؤسسا لعلم الاجتماع الحديث ، لكنه في الوقت نفسه لم يبخسه حقه في الجوانب التي كانت له فيها الريادة والتي لم تُكتشف بصورة كاملة . مثال ذلك أن أطروحة "هيجل" في أن التناقض أصيل في طبيعة الكون ، فكل شيء هو وليس هو في آن واحد ، وكل فكرة تحتوي على نقيضها في صميم تكوينها ، كان ابن خلدون قد تناول ما يقترب منها بزمن طويل :

( فكلّ أسرة في نظر ابن خلدون صالحة في أول أمرها ، طالحة في الأخير. وليس هناك إذن أسرة صالحة صلاحا مطلقا . وقد انتقد ابن خلدون المؤرخين الذين كانوا مبتلين بداء المفاضلة بين الأُسَر على أساس القيم المطلقة . فهؤلاء المؤرخون في نظره موسوسون خياليون لا يفهمون واقع الحياة الإجتماعية . وقد وصف ابن خلدون كيف تتحول كل أسرة حاكمة من الصلاح إلى الطلاح وصفا رائعا لم يسبقه إليه سابق . فمؤسس الأسرة يكون في العادة صالحا خيّراً ، إذ لو لم يكن كذلك لما استطاع في رأي ابن خلدون أن يؤسّس ملكا ويغلب منافسيه عليه . هذا ولكن ابن المؤسس لا يستطيع أن يكون على منوال أبيه في الصلاح لأنه نشأ مُترفا مدللا في بيت أبيه يحيط به الخدم والحشم من كل جانب ، فيبعده هذا الترف عن طبيعة الخشونة والقوة وبعد النظر الذي اتصف به أبوه . ويأتي الحفيد فيكون أكثر ترفا ودلالا ، وأقل دهاء وصلاحا . أما ابن الحفيد فيظهر انحلال الأسرة في عهده عادة حيث جعله ترف القصور كالمرأة نعومة وبلاهة وضعفا ) (236) .

# الوردي : إين خلدون هو "هيجل" العرب :

--------------------------------------------

ويؤسس الوردي على ذلك نتيجة مهمة وهي أن ابن خلدون هو "هيجل" العرب . ففلسفته الاجتماعية تدور في الغالب حول هذا ( الديالكتيك) الذي يقوم على التناقض . وهو بهذا نسف القانون الذي آمن به المناطقة القدماء وجعلوه نبراسهم الذي يهتدون به في تفكيرهم . ويقصد بالقانون القانون الثاني من المنطق الأرسطي الذي يُسمى بقانون (عدم التناقض) وخلاصته أن الشيء لا يمكن أن يكون فاقدا وحائزا لصفة معينة في آن واحد فالشيء في نظرهم مثلا : إما أن يكون حقّا أو يكون باطلا ، ولا يجوز أن يكون حقا وباطلا في نفس الوقت . وهذا معناه أن الحقيقة مطلقة لا نسبيّة .

أمّا الجانب الثاني الذي استثمر فيه الوردي تراث ابن خلدون فيتمثل في دعوته الريادية إلى تأسيس علم اجتماع عربي . يقول الوردي :

( نحن لا ننكر ما في علم الاجتماع الحديث من نظريات قيمة ، وما فيه من فائدة لا يُستغنى عنها في دراسة مجتمعنا . ولكن هذا لا يعني أننا نستطيع أن نستغني بهذا العلم عن علم الاجتماع الخلدوني . لست مغاليا إذا قلت بأن علم الاجتماع الخلدوني يمكن اعتباره مدرسة قائمة من مدارس علم الاجتماع الحديث . ولعل هذه المدرسة الخلدونية أقرب إلى فهم مجتمعنا من بعض تلك المدارس الأخرى ) .

لقد امتلكت دعوة الوردي التي أطلقها في مؤتمر ابن خلدون الذي أقامه المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في القاهرة في سنة 1962 نحو تأسيس علم اجتماع عربي ، أساسها المتين عن طريق مراجعته النقدية الموضوعية للتراث الخلدوني ، وإدراكه الحاد للفارق بين المجتمع العربي والمجتمع الغربي وخصوصا في مجالات تناولتها النظرية الماركسية ، برغم أن الوردي – وحسب "ستراتيجيته التقرّبية" المناورة المعروفة – لم يطرح المُسمّيات بصورة قاطعة . الوردي يرى أن الكثير من الباحثين قد غفلوا عن فارق مهم بين المجتمع العربي والمجتمع الأوربي في القرون الوسطى . فمن الظواهر الاجتماعية التاريخية التي غفل عنها كثيرٌ من الباحثين عند المقارنة بين المجتمع العربي والمجتمع الأوروبي في القرون الوسطى هو أنه :

(( بعد سقوط روما وجد الناس أنفسهم مضطرين إلى اتخاذ وسيلة يحمون بها أنفسهم بعد تقلّص ظل الدولة القوية عنهم . وكانت الوسيلة المتاحة لهم آنذاك هي نظام الإقطاع . ومن هنا رأينا الناس هناك يعيشون حول قلاع النبلاء يحتمون بها وبفرسانها على أن يقدّموا لرب القلعة قسطا من حرّيته وانتاجهم جراء ذلك )) (237).

وسوم: العدد 630