محبرة الخليقة (44)
تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"
ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً .
ولكن أفظع ما يعانيه هو ضياعه المرّ بعد أن انفصل عن رحم أمّه ، إلاهته المؤصّلة التي كانت روحه مستقرة في ظلال عرشها . ولكنّ صوت الله ناداه ، فحطّم صنمه وسار إلى الله . ثم أصغى إلى صوت الكفر بالله ، ورحل إليه . وهنا لم يلق راحة ، وصار في روحه بعضه يشكّ في بعضه . حياته رحلة قلقة لم تجد روحه فيها مستقراً مقنعاً تحطُّ رحالها في ظلاله . ويبدو أن اللعنة قد انطلقت شرارتها من لحظة الإنفصال عن الأم ، وهي لحظة أوصلته إلى مفارقة مركبة ومُربكة بين إله هو سبب وجوده (الأم) لا تجوز عبادته ، وإله تُفرض عبادته عليه وهو لم يره ولا يعرفه ، ولأن هذه المفارقة لا حلّ لها ، فإن رحلة روحه الممزقة المفتوحة على اللانهاية لن تنتهي ابداً :
( وأمشي ،
وأمشي ،
وما زلتُ في كلِّ أرضِ
أهيمُ ،
وأسألُ عندَ نهايةِ كلّ
طريقٍ :
إلى أينَ أمضي ؟ - ص 1135) (نصّ "إلى أين؟") .
وقد يعتقد القاريء أنّ الشاعر قد نقلنا في النصّ السابق نقلة شاسعة إلى آفاق "ميتافيزيقية" متعالية بعيدة عن الهموم الأرضية التي أغرقنا في لججها في النصوص السابقة . لكن الأمر خلاف ذلك ، ونصوص جوزف مترابطة كما قلت ، وهذه انتقالة مشروعة . فحين تخيب آمال الإنسان في كلّ قوى الأرض الحامية ، فإنه سوف يفتّش عن الرجاء في السماء ، سوف يبحث عن "قوّة متعالية" توفّر له الطمأنينة والعدالة وتدفع عنه الجور والظلم في عالم اللامساواة والحقد هذا . وليس "العجز" الذي يتسم به جهدنا الإرادي ، بل ليس "النقص" الذي يشوب نشاطنا العقلي والأخلاقي ، سوى مجرّد تعبير واقعي ملموس عن تلك "الحقيقة المتعالية" التي تفرض نفسها على فكرنا وإرادتنا من حيث ندري أو من حيث لا ندري . وكون الشاعر قد تحيّر واضطرب في تعامله مع هذه القوة المتعالية التي قد تتمثل في أي قوّة أو شيء (يقول النبي محمد "ص" : من آمن بحجر كفاه) فهذه حيرة طبيعية أولاً ، وقد قال البعض أن كلمة "الله" في لغتنا العربية قد اشتُقّت من ألِهَ يألهُ إذا تحيّر (ومن معاني هذا الجذر أيضاً الأمن والحماية واللجوء) . وهي ثانياً نابعة من فرادة الإنسان ، هذه الفرادة التي يؤكّد الشاعر عليها في النصوص المقبلة كثيراً جداً :
( وأعلمُ
أنّيْ أنا مفردُ الكائناتِ .
فلستُ
جماداً .
ولستُ أكرّرُ خلقيَ إلّا
لأرقى .
ولا أستطيعُ رُقيّاً بذا الوعيِّ
إلّا إذا كنتُ
حرّاً .
وحريّتي
ليس تعني لعقليَ
إلّا اختياري . – ص 1136 و1137) (نصّ "الرحيل") .
أو :
( ولستُ أعيشُ لحفظِ بقائيْ . أعيشُ
ليغدو بقائيَ
أرقى .
ومن أجلِ ذلكَ أفرحُ
إن كنتُ أشقى .
ولولا ارتقائي لما كنتُ أسعى
بيومٍ
لأبقى . ص – 1140 و1141) (نصّ "غاية") .
إن الشاعر محكوم بحريّته واستقلالية إرادته ، فهو يدركُ أنّ فرادته في هذا العالم استثنائية ، بل مقدّسة ، وإدراكه لأبعادها يفرض عليه مسؤوليات هائلة ينبغي أن يكون بمستواها ، وأن يتعالى ويسمو ليلاحق متطلباتها ، وفي مقدّمتها السموّ على الحاجات الأرضيّة ، وعدم القناعة بما هو كائن ، والتطلّع إلى ما هو أعلى وأنقى . لكنه لا يجد في كل ملتجأ يصله غير الغبار ، وموعد رحيل جديد . يحاصره الواقع الجائر فيشوّه نقاءه ، ويمسخ "بياضه" ، فيشعر – مع الوقت – أنه صار أكثر فتكاً وظلماً ، وقد كان من قبلُ أرقى وأنقى (ص – 1141 ، نصّ "غاية") .
ولكنّ كلّ هذه الإنكسارات القاصمة ، والخسارات الباهضة ، لم تودي بجسارته وشجاعته في المواجهة حتى ضد "قوّته المتعالية" التي آمن بها . ففي نصّ "سيرة" جسارة وروح تعرّضية مخيفة تصل حدود التجديف في ظاهر العتاب والإلفة . لكنها في باطنها عودة إلى الله بعد ضياع واستماع لصوت الكفر به . وهي عودة فرضها إحساس الشاعر بنقص هذا العالم وتفاهته وجوره التي عرضها في النصوص السابقة التي جاءت متسلسلة ومترابطة لتوصلنا إلى هذا الموقف الذي يعاتب فيه خالقه بقسوة :
( تُحمّلني
ايّها اللهُ وِزرَ الخطيئهْ
وتروي بكتبكَ كيفَ أكفّرُ
عنها . – ص 1142) .
لقد كان العالم الرياضي والطبيعي الكبير "لابلاس" يشرح يوماً لنابليون بونابرت نظامه الكوني ، فدُهش الإمبراطور دهشة عظيمة حينما وجد أن "الله" لا يقوم بأيّ دور على الإطلاق في هذا التفسير العلمي للكون ؛ وعندئذ واجه العالم الفرنسي الكبير بقوله : "ولكن ما عساك صانعٌ بالله ؟ " . وهنا أجابه لابلاس بقوله : "إنني لستُ في حاجة إلى هذا الفرض على الإطلاق" .
وهذه واحدة من مفاسد العلم حين اعتقد أن الصورة التي يقدمها عن الكون هي في حدّ ذاتها صورة مكتملة تستوعب الوجود بأسره ، فتحوّل إلى ضرب من الكهانة أو السحر أو الألوهية البديلة ، وتحوّل الإنسان إلى وحش . وقد يظن الشاعر في بعض الأحيان أن ملكوت الإنسان ملكوت أرضي مغلق على ذاته ، وأن ليس ثمة شيء يمتد فيما وراء عالم التجربة البشرية الناقصة بطبيعتها . ورغم معاتبة الشاعر لله في صورة "الأنت" المباشرة ذات الطبيعة البشرية ، وكونها عودة للإقرار بوجوده ، فإن نرجسية الشاعر المنتفخة كـ "تكوين عكسي – reaction formation" ، بالضد من انجراحاته وتحجيم ذاته ، تعود سريعاً بإعلانه لربّه أن لا صلة له به ، فقد جاء من ماء وطين ، وصار مفرد هذا الوجود ، وما كان عنده يوماً . (ص 1142 و1143) . لقد تخلّق ذاتياً من دون تدخّل أيدي الآلهة . لكن سرعان ما تتمزّق هذه الهالة النرجسية الخادعة من جديد ، ويعود الشاعر إلى حجمه الإنساني الطبيعي كقطرة منكسرة في محيط هذا الوجود العارم ، وليعترف – من حيث لا يدري – بأنّه قد صنع الله من خوفه وضعفه ، وأنه باعترافه به قد أوقع ذاته في الفخ الذي نصبه لنفسه ، وحتى قصة الخطيئة ألّفها بنفسه ثم صدّقها . وكل ذلك لا يوصل الشاعر إلّا إلى "العودة نادماً" – كما تصف المصطلحات العسكرية عودة الهاربين من الخدمة العسكرية – إلى حضيرة الإيمان وإن بصورة مرحلية ؛ يعود ليتخذ وضعيته الطفلية في علاقته بربّه كحمامة بين يدي حّوره :
( وإنّي
صنعتكَ عبر سؤالي ،
وخوفي ،
وضعفي .
وصدّقتُ حين صنعتكَ
أنّكَ ربّي ،
وأنّي ارتكبتُ الخطيئةَ ثمّ طُردتُ
لأرجعَ عبر عقابي
إليكْ ،
وأحيا كأنيَ إحدى يمامِ
البراريْ
بحَوْرِ يديكْ . – ص 1143) .
وتحضرني هنا فقرة لـ "ألفرد دي موسيه" قال فيها : "إنّ الملحد حينما يُخرج ساعته من جيبه ، لكي يُعطي الله مهلة تبلغ نحو ربع ساعة "مثلاً" من أجل أن يصعقه ، فإن من المؤكّد أنه عندئذ إنما يريد أن يمتّع نفسه بربع ساعة من الحنق الشديد والتلذّذ الفظيع . إنها بلا شك ذروة اليأس ، ولكننا هنا بإزاء نداء مجهول يوجّه إلى شتى القوى السماوية ، إنّه مخلوق شقي مسكين يتلوى تحت قدمي ذلك الذي يسحقه ؛ بل هي صرخة مدوّية تنبعث من أعماق قلب جريح مفعم بالألم . ولكن من يدري ؟ فربّما كانت تلك الصرخة ، في عيني ذلك الذي يرى كلّ شيء ، ضرباً من الصلاة" .
والحقّ أننا هنا بإزاء "صراع ضد الله" ، فليس للتجديف من قيمة أو معنى إلا إذا كان الله موجوداً . ومعنى هذا أنّ الملحد حين يشتبك مع الله ، فإن الحاده يفترض سلفاً ذلك الذي ينكره . ولو كان الملحد على ثقة تامة بأنه ليس من وجود لخالقٍ على الإطلاق ، لما أجهد نفسه في التمرد عليه ، والصراع ضدّه . ولكن الأطراف دائماً في تماس ، فليس بدعاً أن يخفي الإنكار العنيف لله ، وراء مظهر التجديف والتحدّي والجسارة ، نزوعاً خفيّاً نحو الحقيقة المتعالية ، أو حنيناً قويّاً إلى الحبّ الإلهي ، وللإستكانة بين يدي الله وأحضانه كحمامة متعبة . ولهذا لم يكن موقف الشاعر ذا وجه واحد خالص ، سلبي أو إيجابي ، بل هو موقف متضاد متصارع تلوب في أحشائه متصارعة المتناقضتان :
( وقد أغلبُ الموتَ ، يوماً ، وأجعلُ
من هذه الأرضِ
جنّتيَ
القادمهْ .
ويا
ربُّ ، قد تغتدي حلماً طافّ
بالامسِ في مقلةٍ
نائمهْ .
وقد أنتحي كوكباً آخراً ، بعدهُ
كوكبٌ
آخرٌ .
غيرَ أنّيْ كما أمسِ أخطأتُ فيكَ ،
سأخطىءُ ، ذاتَ غدٍ في
سواكَ . – ص 1144) .
وفي الحقيقة فإن الشاعر في موقفه المتذبذب والمتصارع هذا لا يخرج عن طبيعة عملية الإيمان الحقيقي بالله نفسها ، إذ قلّما يخلو الإعتقاد بالله من كل شائبة من شوائب التناقض والالتباس والارتياب ، والتردد والتمزّق الداخلي والحصر النفسي . فليس المؤمن بالشخص المطمئن الواثق الغارق في فيض علوي من السعادة ، بل هو شخص معذّب قلق يحيا في صراع مستمر مع اللامتناهي ، ويجد نفسه دائماً في غمرة التناقض . ولعل هذا هو ما عناه "لوثر" حينما قال إن الإيمان لا يخرج عن كونه يقيناً مجاهداً . فليس في اعتقاد الشاعر بالله ثقة نهائية ، أو بيّنة خارجية ، أو يقين حاسم ، بل هنالك توتر ديالكتيكي ، وصراع حيّ ، وقلق وجودي . ويمضي كيركجارد إلى حد أبعد من ذلك فيقرّر أن القلق الوجودي المشوب بانعدام اليقين إنما هو الإمارة الصحيحة على وجود علاقة بين الإنسان والله ، ومعنى هذا أنه حيثما لا يكون الفرد على ثقة من وجود علاقة بينه وبين الله ، فهنالك فقط تكون ثمة علاقة بينه وبين الله (81).
والشاعر ، في تموّجات قلقه المؤلمة هذه ، يعاني ، ويتألم ، وتتمزق روحه ، فهذه المراوحة على جمر الإقبال والإدبار ، وبين الحنين إلى الماضي وضرورة قطع الجذور لتحقيق النضج والتقدّم إلى أمام ، تجعله هائماً متعباً وحزيناً .. حزين :
( إلى
أينَ ؟
أدريْ ، وقد لستُ أدريْ . ولكنّني
بينَ شوقيْ
لما سوفَ يأتيْ ،
وهذا الحنينُ
لما قدْ مضى ،
إنّني كائنٌ متعبٌ ،
وحزينٌ ،
حزينٌ ،
حزينْ . – ص 1145) .
والشاعر يمسك بنباهة محلل عالية لنفسه ، وللنفس البشرية من خلال ذاته ، بحقيقة أنّ هيمانه المرهق هذا ، وتعبه ، وحزنه ، وأساه ، لا يمكن أن تُلقى تبعاتها ، ولا تُعلّق أسبابها على كتفي الله ، خصوصاً في خيبة أمل الشاعر المستحيل في التغلّب على الموت ، وجعل هذه الأرض جنّته الأبدية ، أو في الإنتحاء في كوكب بعد آخر . صحيح أن تذبذب علاقته بإلهه الحامي المعاقب الغامض ، تسبّب له معاناة كبرى وبحثاً دائما عن سبيل للإستقرار والخلاص من جمرة القلق المستعرة التي يقلّبها بين يديه طول عمره . لكن هناك جمرة أخرى من نوع آخر أعقد مستعرة في الداخل ، جمرة أزلية مرهقة لا يمكن الخلاص منها ، فهي ملتحمة ببنيته ، وتتمثل في ما سمّاهن بحق بـ "بنات الجسد" .. الغرائز الحمر ، اللاتي هنّ حيٌّ آخر ، لا يموت إلّا بموت الإنسان الفرد ، لتبقى جمرتها ملتهبة في روح النوع :
( غرائزُ
هذا الجسدْ
على عنقها سيفُ فقرٍ ، وليسَ
لديها سوايَ
أحدْ . – ص 1146) (نصّ "بنات الجسد") .
هذه الغرائز النزقة ليست في صراع مع أناه ، ومع أناه الأعلى / ضميره أيضاً حسب ، بل هي في حرب مع الله ، باحثة ، شرهة ، أخطبوطية الأذرع ، تلتهم كلّ شيء . وهي بنات شديدات المكر ، مناورات ، مداهنات ، متآمرات ، كاذبات ، منافقات ، وبلا أدنى حياء . فهنّ – وبلا استفزاز لنرجسيّتنا – المكوّن الحيواني الطفلي في شخصيتنا .. هائجات لا يعرفن تعطيلا ، ولا يقبلن تأجيلاً لمتطلباتهن ، ولا يقنعن إلّا بالإشباع الفوري السريع والكامل والمتكرّر . لكن هذا ما لا يسمح به العقل ، ولا المنطق ، ولا النواهي الدينية والاجتماعية والأخلاقية ، فيقع الأنا المسكين في حلبة صراع جديد مستمر ، حيث يصبح مطلوباً منه أن يخدم سيّدين متضاربي الرغبات والأولويات ؛ الهو بإلحاحه الغريزي المشتعل النهم ، والضمير وكيل الله والمجتمع والأعراف بما يعنيه ذلك من تعطيل وإرجاء مراعاة للظروف والقوانين . هؤلاء البنات يعشن وسط معبد أرواحنا الذي ندّعي قداسته – ويا للمفارقة المفزعة – في غرفة تضجّ بدوافع الإنتقام والعهر والشيطنة . هي شيطاننا الداخلي الذي يفتح الأبواب للشيطان الخارجي "المهذّب" الذي لا يدخل نفوسنا قبل أن يطرق الأبواب بهدوء ، وهو متأكّد من أن هناك خونةً مستعدين لفتحها له على مصاريعها :
( وتأتي إلى العقلِ ،
راجيةً ،
باكيهْ ،
فيسعى
ليجعلها راضيهْ
ولا شيءَ يُرضي الغرائزَ .
لا
شيء .
تُنعلها الأرضُ ، تمشي على
أنها
حافيهْ .
وتُلبسها قدْرَ هذا الغمامِ ،
فتبكيْ على أنّها عاريهْ .
وتطمعُ ،
تقسو ،
وتُغري .
تُذكّرها
واسمها : ناسيهْ .
وملأى
شياطينَ ،
لِصّاً ،
غُزاةً ،
قراصنةً ،
مجرمينَ ،
وتتبعها
مثلما يتبعُ النبعُ
غيمته
الشاتيهْ . – ص 1147 و1148) .
ومتعبُ للعقل هذا الصراع . ولعلّ أهمّ مظاهره - بقدر ارتباط هذا الصراع بالنصّ السابق " سيرة" - هو الإحساس بالخواء والإكتئاب والإشمئزاز من الحياة والموجودات . إنّ الصراع الدائم الذي يسوقه "الكبت" الذي تفرضه نواهي العقل يستنزف طاقة الإنسان ، وينهكه ، وتتمظهر حيرة بنات الجسد الهائمات المحرومات في الداخل في صورة سلوك باحث عن سبل لتهدئتهن ، عن طريق الله بالزهد وحرمان الجسد تارة ، وبالإنفلات ليعبّ الفرد وبناته من بحار اللذة الحمر تارة أخرى . لذلك ينادي الشاعر عقله في الختام معبّراً عن مأزقه وامتحانه :
( ألا
أيها العقلُ ،
مالحةٌ ذي الحياةُ ،
ومرّه ،
وقد عِشتَ عبداً
لتَتْرُكَ هذي الغرائزَ
حرّهْ . – ص 1149) .
ويعيدني هذا النص عن "بنات الجسد" إلى موقف في نصّ سابق تركته للحظته المناسبة التي حانت الآن . والنصّ السابق هو قصيدة "الدائرة" (ص 1086 – 1098) التي حللناها سابقاً ومررتُ سريعاً بما يمكن أن أسمّيه بـ "محنة العلاقة بالجسد" حيث شاعت في نصوص كثيرة للشاعر مواقف إعلان القرف من الجسد والإشمئزاز منه ، والغثيان من حاجاته ، وهو اتجاه عام في حياتنا العربية – طبعاً هناك فوارق في دوافع الموقفين : موقف الشاعر والموقف الإجتماعي – ففي حياتنا العربية يتمً "تجريم" الجسد منذ وقت مبكر في حياة الفرد ، والحكم على "بناته" بالإعدام المرجأ الذي يُنفّذ مع أول تململ أو حركة لهنً لرفع رؤوسهن . الشاعر هنا في حيرة في موضوعة علاقته بجسده .. وبحاجاته بسبب الضوابط السماوية والمواقف الدينية اليومية المختزنة في لاشعوره والتي تقوم على "تأثيم" الجسد والتعفّف الخجول من حاجاته وكأنه مجرم ينبغي أن يُعذّب ويُحاكم ويُدان ليس في جلسة واحدة فاصلة ولكن في كل لحظة حتى تصبح حياة الفرد الباطنة ساحة جحيمية للصراع بين أناه و"بناته" :
( ما منْ أمٍّ ، أو قدّيسٍ ومسيحٍ ،
إلّا حذفوا هذا الجسدَ الفاسدَ منهُ .
أبقول للأمِّ
اللبنَ ،
الأحشاءَ ، ابقوا لللقدّيسِ
الصومَ ، وأبقوا لإبنِ
الآبِ الخالقِ
رِجلاً يمسحها شعرُ امرأةٍ ،
ودماً منْ جرحِ الحرّيةِ
يُسكبْ .
ما هذا الجسدُ المخجولةُ منهُ
العذراواتُ ؟ الهاربُ منهُ نبيُّ اللهِ ؟ المُتجنّبُ
كلُّ النُساكِ وساوسهُ
كالجملِ
الأجربْ ؟ - ص 1049) (نصّ "الدائرة") .
وسوم: العدد 633