عالم سائل لا قوام له

يقول الدكتور "عبد العزيز حمودة" في كتابه المرايا المقعرة: "يعيش العقل العربي منذ القرن التاسع عشر ما يمكن أن نسميه "ثقافة الشرخ" والشرخ هنا هو التوتر المستمر بين الجذور الثقافية العربية والثقافات الغربية التي اتجه إليها المثقف العربي بعد عصر التراجع والانحطاط. وقد ازدادا الشرخ اتساعا مع بداية القرن العشرين، ثم أصبح خطرًا يهدد الهوية الثقافية مع التحول الحداثي في أعقاب هزيمة 67 لينقلوا عن الحداثة الغربية في انبهار أعماهم عن "الاختلاف" والخطر، بل أن البعض ذهبوا في تحمسهم للتمرد على التقليدي والمألوف، وهو جوهر الحداثة لا إلى الدعوى بقطعية معرفية مع التراث العربي فقط بل إلى التقليل من شأنه وهكذا جاءت ثنائية "الانبهار" بمنجرات العقل الغربي واختصار منجرات العقل العربي كأنهم وضعوا التراث العربي أمام "مرايا مقعرة" صغرت من حجمه وقللت من شأنه" من كتابه المرايا المقعرة ص 17 (عالم المعرفة رقم 272 – الكويت)

والدكتور عبد العزيز حمودة ظاهرة أدبية فريدة أقلقت أهل الحداثة المعاصرة وأقضت مضاجعهم وهدمت نظرياتهم الفلسفية الغامضة الفاسدة وأنهت فلسفات الدكتور (كمال أبو ديب) وأسقطتها إلى الأبد ومعها ما يروج له البعض في مصر من القطيعة مع إرثنا الثقافي (ديننا) لأن ثقافة الأمة هي دينها كما يقول العلامة محمود شاكر، إذن المراد القطيعة مع الدين ! خبل عقلي، وكما يقول (روجية جارودي) "حداثة فن البوب والرسم الحديث والموجه الحديثة والرواية الحديثة وأيضا الفلسفة الحديثة التي تتصف بانعدام الفلسفة تعمل على محق إنسانية الإنسان في كل مجالات الثقافة، أصبح هذا التغييب للإنسانية هو المعيار المهم للحداثة) من كتابه حفاروا القبور.

نعم عالم سائل لا قوام له، عالم بلا أساس ولا مركز ! هذه هي الحداثة التي يطلبها معظم كتابنا الأماجد ! لا رسالة، لا لغة، غموض، رمز شديد التعقيد، ثم ما علاقة كل هذا بالأدب ؟.. لابد أن يحمل الأدب رسالة مفيدة للمجتمع إلى جانب المتعة الفنية، إنها فوضى العالم كما يعنون أستاذنا الدكتور عماد الدين خليل أحد كتبه الرائعة (فوجئ العالم في المسرح الغربي) والسؤال ما علاقة مجتمعنا الإسلامي بكل هذا العبث الذي نراه في الآداب الغربية، هم ينطلقون من أساطير ونحن ننطلق من منهج رباني لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه، لا علاقة مطلقا بينهما وإن محاولات وضع الأساطير موضع الحقائق هو بلا شك انطباعات مضللة متخذة شكل الحقائق.

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في هذا الخصوص: "إن الآداب الغربية لها قاعدة ترتكز عليها بخلاف قاعدتنا نحن، لابد من قاعدة فكرية تقوم عليها الأعمال الأدبية والفكرية وكل النشاطات وألا يكون المجتمع فاقدا للخصوصية التي تميزه عن غيره من النشاطات" من كتابه (البذور)

والسؤال الذي يحير النفر منا ما هو الجميل الأخاذ الذي يميل بالعقول إلى محاكاة الغرب في انحطاطه ؟ ولماذا لا يكون التقليد والمحاكاة في تبني التقنية الحديثة في كل المجالات المادية وتظل قضايا الإنسانية مستمدة من خصائصنا الحضارية، وهل لابد من فقد إنسانيتنا أولا حتى نتحصل على العلوم المادية ؟.. إن مجرد شعورنا بهذا يدفعنا نحو المزيد من التخلف والانحطاط العقلي. ويحدد الدكتور عبد الوهاب المسيري هذا الأمر على النحو الأتي:

"إن المطلوب هو حداثة جديدة:

أولا: تبني العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم الإنسانية عرض الحائط

ثانيا: تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود

ثالثا: تحيي العقل ولا تميت القلب

رابعا: تعيش الحاضر ولا تنكر التراث

(من كتابه البذور)

ويستكمل عبد الوهاب المسيري حديثة قائلا:

إن الحداثة المطلوبة أو الحداثة الجديدة مسألة ولاشك صعبة ولكنها ليست مستحيلة ومن أجل التقدم نحو هذه الحداثة البديلة ينبغي:

أولا:    فصل الحداثة البديلة عن الاستهلاكية وعن مفهوم التقدم المادي وربطها بمفهوم الطبيعة الإنسانية المشتركة بحيث يمكننا أن نحدد هدفا للحداثة غير الإنتاج والاستهلاك.

ثانيا:   توسيع مفهوم التقدم بحيث يضم المادي والملموس وكذا المعنوي والروحي.

ثالثا:   أن يفيد تحديد معدلات الاستهلاك في إطار احتياجات البشر المادية والمعنوية وليس مجرد زيادة الاستهلاك.

وبهذه الطريقة قد يمكننا أن نحقق مشروع الحداثة البديلة وأن نحقق التقدم دون أن نفقد اتزاننا ودون أن ندمر الكون من كتاب (البذور)

هذا ما يقول كبار كتاب الأمة عن الحداثة ! ولكن أصحاب (ثقافة الشرخ) عند رأيهم بضرورة القطيعة المعرفية بل وتقليل قيمة تراثنا والحط من قدره !!

(كُتاب البعث) أغرقوا الأمة في متاهات واطعموها كل فاسد وتالف من ثقافات فرويد ودارو وآدم سميث وسارتر وسيمون دي بفوار عشيقته مثال العصرية في نظر بعض من كتاب البعث ! أي عصرية في الدعارة والقمار والجنس الثالث !

سبحان الحي الذي لا يموت – الحساب شديد.

كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) للدكتور طه حسين أفسد العقول كما أفسدها من قبل كتابه (في مصادر الشعر الجاهلي) حتى بعد تعديله بأمر المحكمة ويضاف إليه كتاب (هؤلاء علموني) لسلامة موسى وغيره من مؤلفاته.

لقد رجع الدكتور عبد الوهاب المسيري وروجية جارودي، عن الأفكار المادية واعلنا تسليمهما لله على حد تعبير أعظم كتاب القرن الماضي (علي عزت بيجوفيتش) رئيس دولة البوسنة والهرسك في قلب أوربا لفترتين متتاليتين ! رحمه الله (على عزت بيجوفيتش) صاحب كتاب (الإسلام بين شرق وغرب) الحائز على جائزة الملك فيصل العالمية.

لابد لهذه الأمة الكبيرة مليار وأكثر من نصف مليار علم أن تعود إلى خصائصها التي تعرف بها وألا فهي في النهاية بالاستبدال.

وسوم: 636