معالم الهوية والاغتراب في رواية "بحر الصمت" لياسمينة صالح

تعد رواية "بحر الصمت" للمبدعة الجزائرية ياسمينة صالح من النصوص الروائية التي لفتت الانتباه منذ الوهلة الأولى لأنها استطاعت معالجة موضوع الهوية الوطنية وإشكالاتها بأدوات فنية راقية ولغة شاعرية لا تخلو من الإمتاع وهذا ما أهلها لتحصل على جائزة مالك حداد بجدارة.

فهذا النموذج الذي قدمته ياسمينة صالح من خلال رسم معالم الهوية والاغتراب من خلال رمزية "بحر الصمت" هز الكثير من الأقلام هزا عنيفا في الوطن العربي وجعلهم يكتبون عنها بكثير من التحليل النقدي، لأنها أدخلتهم في عالم غير مألوف يذكرنا برواية "ذاكرة الجسد" لمواطنتها المبدعة أحلام مستغانمي التي قفزت هي الأخرى عن الكثير من القوانين والضوابط التي اتبعها العديد من الكتاب آنذاك.

ولعل أهم ما يميز رواية "بحر الصمت" هو دخولها عالم التجريب لترقى صاحبتها إلى مستوى القيمة الأدبية التي بات يفتقدها الكثيرون والكثيرات من الذين دخلوا عالم الرواية لمجرد أننا نعيش "عصر الرواية" لا لكونها جنسا أدبيا له آلياته الفنية والدلالية التي تحتاج التركيز والتأني لنسج خيوطها السردية أين سيجد القارئ نفسه يغوص في ثنايا صفحاتها دون سابق إنذار.

تستوقفنا الشخصية الرئيسية لهذا العمل الأدبي "سي السعيد" الذي يحاول بكل جهده تغيير مرسى حياته لما يعيشه من ضياع وحيرة بين ثنايا الماضي والحاضر، وكل هذا جعله ضائعا لأنه وجد نفسه يغرق في وحل الخيانة الوطنية. وقد اهتمت ياسمينة صالح بعرض الحالة النفسية لهذه الشخصية وإبراز ملامحها، وهذا ما نلمسه في التوجهات النقدية الحديثة التي تعتني بما يحوم حول الشخصية داخليا وخارجيا لإعطائها فرصة البروز وفرض وجودها ضمن المتن السردي.

فشخصية "سي السعيد" هي رمز للجزائر المعني باليأس والانكسار، ومن ثم الشعور بعدم القدرة على التكيف والحلم والتغيير وللأسف هو حال الكثير من المواطنين الجزائريين اليوم، وهذا ما يعكس صور ذلك الاغتراب النفسي وكذا طمس معالم الهوية الوطنية لما يسود المجتمع من ثقافات مشوهة وتضليل سياسي وتضارب في الآراء والأفكار.

ما يلفت الانتباه هو حضور ضمير المتكلم المذكر في مجمل الرواية رغم أن الكاتبة امرأة (ياسمينة صالح) كما هو الحال في رواية "ذاكرة الجسد" للجزائرية أحلام مستغانمي وهذا تجريب مغاير لما هو مألوف في المحكي السردي العربي إجمالا.

نجد شخصية البطل في "بحر الصمت" تحمل سمات المعاناة منذ الطفولة ليتولد لديها جملة من المكبوتات راجعة للسلطة الأبوية الجائرة لتجد نفسها مرة أخرى تعيش من جديد نفس التجربة مع الزوجة التي تقابلها بالاحتقار والجفاء وصولا إلى الابنة التي صنعت أيضا حاجزا منيعا بينهما إلى حد الإدانة في كل شيء حدث في حياتها.

إن إدراك المبدعة ياسمينة صالح لحقيقة هذه العلاقات التي عايشتها شخصية "سي السعيد" تمثل بذورا أولى لإدراك خوالج النفس البشرية وهو تكنيك استعملته الكاتبة للتعبير عن ظاهرة الاغتراب بشكل جمالي ينصرف لمعالجة فقدان الهوية الوطنية من خلال كشف نفسية الشخصيات عموما كل وفق مفهومها ورؤيتها للمجتمع.

يلاحظ أن صالح استعملت آلية المونولوج الداخلي كتقنية للاسترجاع ومخاطبة النفس، حيث نكتشف كقراء صورة شاملة للذات المتشظية تلتقط الروائية ذبذباتها وأنينها بأسلوب لا يخلو من التشويق.

يتجسد هذا الحوار الداخلي في علاقة الأب "سي السعيد" وابنته التي وجدته مثالا للأب السيئ في نظرها كونه كان سببا في جميع المآسي التي لحقت بالأسرة أين نجده يلتزم الصمت ويجعل كلامه باطنيا للتعبير عن وحدته وحرمانه العاطفي فهو بالتالي ضحية للاغتراب النفسي ضمن معطيات وظروف عائلية بحتة.

يخلق المونولوج حركية ممتعة في رواية "بحر الصمت" لكونه يستنطق أغوار الذات ليعرض صوتها الصارخ ليكون مؤشرا دلاليا على تطور السرد وتطور الأحداث حيث تقول صالح في منجزها النصي ما يلي: "أتساءل لو لم يكن الصمت بحرا شاسعا بيني وبينك؟ لو كنت قادرا على الكلام، لو جئت إلي لتقولي مثلا هيا تكلم، قل ما عندك يا أبي، ماذا كان سيجري بي عندها؟ يخيل إلي أني سأجهش بالبكاء متذكرا أن البكاء لن ينقذني من عينيك، ومن ذاكرتي التي يسكنها، كل من ترك ذكراه عندي الصمت..." (ص 68).

في النهاية استطاعت رواية"بحر الصمت" رصد تلك العلاقة الأسرية وما اعتراها من خلل وتفكك داخلي ناتج عن ضغط نفسي ببراعة، وهذا بالأساس يكون بداية لحدوث خلل في الكيان الاجتماعي كما تشهده الجزائر في الوقت الحالي بكثرة وخاصة مع مشكلة الفقر والتهميش التي باتت تعكسها نفسية المواطن المقهورة للأسف الشديد.

*كاتب صحفي جزائري

وسوم: 637