رغم أنفي.. وهذا المبدع الذي يستحق الدراسة والتقدير
نكتب هذه الكلمات بمناسبة صدور كتاب جديد للأديب عبد الرحمن هاشم، وهو مجموعته القصصية الثانية بعنوان "رغم أنفي"، التي تفوق فيها على يوسف إدريس الذي طبلوا له وزمروا لمجرد إنتمائه الأيديولوجي الماركسي مثلهم.
أقول: يوسف إدريس لم يكن متمكناً من الإدارة الفنية للقصة، وقد كان ضعيفاً في لغته العربية من حيث الأسلوب، وذلك بعكس كاتب مثل نجيب محفوظ الذي كتب بلغة عربية راقية ومثل طه حسين والعقاد والزيات والرافعي والمنفلوطي.
أقول: عبد الرحمن هاشم يكتب بلغة شاعرية بليغة ويتمكن من الأدوات الفنية للقصة القصيرة التي تصور حدثاً أو فكرة أو شخصية.
وهو يجيد رسم الشخصية بأبعادها البيولوجية الجسدية، والاجتماعية والنفسية، ويزيد على ذلك بعدين آخرين هما البعد الميتافيزيقي الصوفي والبعد السياسي، وذلك كله من خلال نسيج فني من حيث الوصف والسرد والحوار.
وكاتبنا بذلك يجيد كتابة القصة القصيرة باعتبارها عملاً درامياً يعتمد على الحدث والصراع النفسي والاجتماعي بمعنى الصراع الداخلي والخارجي.
ويجيد كاتبنا "عبد الرحمن هاشم" تصوير أعماق المجتمع المصري بهمومه ومشكلاته وآماله وأحلامه، وهو يقف مع القيم الإنسانية الإسلامية ولا يضادها مثل قيم العدل والخير والسلام والحرية والفضيلة في مواجهة قيم الظلم والشر والعبودية والقهر والرذيلة.
وبذلك يكون للأدب عند كاتبنا وظيفة اجتماعية ورسالة أخلاقية هادفة وليس مجرد عبث أو بناء هندسي لفظي على طريقة "الفن للفن" أو "الوجودية واللامعقول".
نعم، لم يسقط كاتبنا المبدع "عبد الرحمن هاشم" في هوة الإلغاز والتعقيد باسم "البنيوية"، و "الحداثة"، وغيرهما من دعوات التجريب والتغريب والتغييب، فما ذلك كله إلا الطاعون القادم من الغرب.
وكاتبنا كما يجيد كتابة القصة القصيرة بشكلها الكلاسيكي الذي عرفناه في قصص "تشيكوف"، و "موباسان"، و "إدجارآلان بو"، وهم رواد القصة القصيرة في العالم، فإنه يجيد كذلك كتابة القصة القصيرة جداً.
والقصة ليست فناً مستورداً من الغرب كما أشاع القوم في بلادنا، وإنما هي "بضاعتنا ردت إلينا"، فقد عرفنا القصة قديماً في كتابات المويلحي وقبلها في الملاحم الشعبية، وألف ليلة وليلة، التي تأثر بها "بوكاشيو" في قصصه (ديكاميرون) ولا ينبغي أن ننسى أن القصة جاءت في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.
ففي القرآن الكريم سورة تسمى سورة القصص، وفيه قصة سيدنا يوسف عليه السلام وجميع قصص الأنبياء من أول خلق آدم عليه السلام وحتى خاتم الأنبياء والمرسلين.
وفيه قصة أصحاب الكهف وأصحاب الجنتين وموسى والخضر ومريم وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام وقصة ذي القرنين وقصة الفيل وقصة البقرة وبني إسرائيل والرجل الذي أماته الله مائة عام وقصة إبراهيم والطير وقصة مائدة عيسى وقصة أصحاب الحديقة التي يمكن أن نضرب بها المثل في القصة القصيرة جداً.
وفي الحديث الشريف قصة الثلاثة نفر الذين أطبقت عليهم صخرة في الغار، وقصص الأقرع والأعمى والأبرص، وقصة المرأة التي حبست قطتها، والرجل الذي سقى الكلب فغفر الله له، وغير ذلك كثير.
لقد استطاع هاشم سرد قصصه في سطور قليلة تنقل إلى القارىء لحظة التنوير أو الإحساس بالفكرة في سلاسة ويسر وبساطة وتلقائية مؤثرة وممتعة في الوقت نفسه.
وتلفتنا مجموعة "رغم أنفي" من عنوانها، ومضمون قصصها إلى ذلك الإحساس العام وهو الإحساس بالقهر الذي لا ينال إلا من الضعفاء وقليلي الحيلة في المجتمع، وقد يستشعر القارىء من العنوان ومن المضمون ذلك الإحساس العام بأن كل ظلم أو استبداد في المجتمع إنما يتم رغم أنفه أو رغم أنف الجميع.
يتضح ذلك أكثر ما يتضح في رائعة عبد الرحمن هاشم "وجه القطة" التي تجعل منه كاتباً يتضاءل أمامه "يوسف إدريس"، بدون مبالغة، لأن "وجه القطة" تذكرنا برائعة "تشيكوف"، "محنة" التي صور فيها محنة صاحب الحصان المسكين الوحيد الحزين الذي لم يجد أحداً من البشر يبثه حزنه وحسرته على وفاة ابنه الوحيد فلجأ إلى حصانه ليبثه ألمه ولوعته.
وكذلك أورد عبد الرحمن هاشم قصة الطفل الصغير الذي يتكسب من بيع الذرة المشوي بعد أن تنكر له أبوه وفقد إخوته ومن بعدهم فقد أمه فلم يجد وجهاً يحنو عليه سوى قطة ترتعد من البرد فقاسمها كوز الذرة.. إنها هنا بالنسبة له المعادل الموضوعي لأنها مثله وحيدة مشردة مسكينة.
إن قصص عبد الرحمن هاشم تشهد ميلاد كاتب كبير يستحق الدراسة والتأمل والتقدير.
وسوم: 638