رواية زمن وضحة تحارب التقاليد البالية
في روايته الجديدة "زمن وضحة الصادرة عن مكتبة كل شيء في حيفا، راح الأديب جميل السلحوت بمنجل من نار يكوي أفات المجتمع القروي التي كانت متفشية في الحقبة الماضية من الزمن، ومظاهر التخلف والجهل التي تمخضت عنها روايته الجديدة" زمن وضحة " قاضيا على كلّ نوبات الجهل التي تلوّت بها خاصرة هذه القرية التي اختارها السلحوت لتكون الارضيّة الخصبة والمسرح الذي تدور عليه أحداث هذه الرواية؛ ليجتث تراكمات الجهل والعادات البالية عن بكرة أبيها، واضعا لها حلولا جذرية بواسطة رفع مستوى العلم والتّعليم وذلك بالتّركيزعلى قضيّة تعليم البنات وعملهنّ... محاربا الاعتقاد السائد آنذاك بأنّه عمل مشين يلحق العار بذوي المتعلّمة! وأنّ تعليم البنات سيحول دون زواجهنّ! مقتنعا أن المرأة هي نصف المجتمع وأساسه، وعليها تقوم معظم الرّكائز في بناء مجتمع متكامل سليم.
جاءت لتمسح كلّ ملامح التّخلف الاجتماعيّ والجهل والتّقاليد البالية، التي كانت تفرض على المجتمع القرويّ، رواية تعالج قضايا مجتمعية أكثر منها وطنية، بل هي راوية اجتماعيّة بامتياز، تحفز على ترجيح كفّة العلم، فلم يتطرق الكاتب إلى موضوع النّكبة والوطن، ولا الاحتلال إلا في موقع واحد أو اثنين فقط، وذلك عندما وصفت نسرين حيفا بالجنة وظلت تشتم رائحة البحر وبرتقال يافا كما وصفتها قائلة :
"هذه الجنّة التي كنت أحلم بها بعد جنّة حيفا...فقمّة جبل
الكرمل ومنحدراته لا يضاهيها مكان في الكون.
جمال: ماما... أين جبل الكرمل.
جبل الكرمل هو الجبل الّذي تنام حيفا في حضنه"
لم يبخل السلحوت على قراء هذه الرواية بالكمّ الهائل، والذي لا بأس به من الأمثال الشعبيّة التي ازدحمت بها روايته لخدمة النّص، حتى تظنّ للحظات أنّها موسوعة خاصّة بالأمثال الشعبيّة!
في روايته الجديدة زمن وضحة حاارب الاضطهاد الذي كانت تواجهه المرأة المطلقة والعاقر والعزباء، وسلّط الضّوء على ظاهرة الزّواج المبكّر، والفتاة التي تتجاوز سنّ الخامسة عشر تكون بنظر أهل القرية قد تخطت عتبة العنوسة، والبنت التي تموت أختها تكون هي الزّوجة الثانية ومربية أطفال أختها الأيتام، وممنوع أن تفرح بزفافها كباقي البنات، وكأنّها اقترفت إثما، وحالة الحداد لمدة سنة كاملة مع أنّ الدّين والشّرع حدّد مدّة الحداد ثلاثة أيّام فقط، إلا علوج أربعة أشهر وعشرة أيّام ... هذا ما نسميه ب ظاهرة تغليب العادات والتّقاليد على الدّين.
بالنّار أشعل السلحوت مواضيع هامة كرفض الأهالي تعليم أبنائهم وخاصّة الاناث، وبالعلم أخمد نيران الجهل التي أشار إليها واضعا الحلول لكلّ تلك الآفات، كظاهرة التّداوي بالنّار التي لمسناها كثيرا في الرّواية! محاولا اقناعهم بالابتعاد عن هذه العادة السّيئة منوّها إلى ذلك غير مرّة، على لسان الدّكتور ممدوح كرّر عبارة: النّار لا تشفي الأمراض بل هي تعذيب للمريض.
أمّا بخصوص التّغير الملحوظ على حالة عارفـ الذي انتقل فجأة من حالة الجنون الى حالة العقل والكياسة، فهذا عائد لاصرار الدّكتور ممدوح على متابعة حالة عارف المرضيّة، وكذلك بيئة القرية المنغلقة كان لها عظيم الأثر السلبيّ على تراجع حالة عارف، مما دفع الدّكتور ممدوح إلى نقله لمكان آخر ليبنيه من جديد.
حالة عارف أرجعتني إلى الوراء لأ تذكر قصّة الشّاعر العباسيّ علي بن الجهم الذي كان بدويّا صحراويّا، وعندما قدم إلى بغداد لأول مرة آثر أن يبدأ عهده بمدح الخليفة على عادة الشّعراء فأنشده قصيدة منها:
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتّيس في قرع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا من كبار الدّلا كثير الذّنوب
ويعني بالذنوب كثير السّيلان بسبب امتلائه.
فعرف الخليفة كما جاء في الأثر حسن مقصده وخشونة لفظه، وأنّه ما رأى سوى ما شبّهه به، لعدم المخالطة وملازمة البادية، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة، فيها بستان حسن، والجسر قريب منه وأمر بالغذاء اللطيف أن يتعاهد به فكان – أي بن الجهم - يرى حركة النّاس ولطافة الحضر، فأقام ستّة أشهر على ذلك، والأدباء يتعاهدون مجالسته، ثم استدعاه الخليفة بعد مدة لينشده، فحضر وأنشد:
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ
سَلِمنَ وَأَسلَمنَ القُلوبَ
واخيرا أرى أنّ الأديب جميل السلحوت وفق بهذا الموضوع الذي اختاره للرّواية، بأسلوب جديد مختلف عمّا كان في راويته السّابقة "أميرة" أسلوب سلس وبسيط جدّا، والفاظه ليست بالغريبة، أمّا اسماء الشّخوص فكانت غريبة بعض الشيء مثل اسم جعبورة العيسى واسم زوجها جحيش الضبع، زعرورة وبهية كونها أسماء تتناسب مع شخصيّات هذه القرية المتعصّبة والتي لم تخرج من عباءة القبلية والتخلف .
وسوم: 640