العابثون بالتاريخ! (32- شهادة العاديّات المِصْريَّة- 2)

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 184

يقع تلّ العمارنة في (دير مواس)، بمحافظة (المِنْيا)، شمال صعيد (مِصْر).  وكان موقعه عاصمةً للفرعون الشاعر (أمنحُتِب الرابع)، الذي غيَّر اسمه إلى (أخناتون، -1336/ 1334ق.م)، ويعني اسمه: "الأَهْنَأ بآتون"، وهو زوج المَلِكة (نفرتيتي).  وسمَّى أخناتون عاصمته: (أخت آتون)، وجعلها مركزًا يدعو منه لربِّه (آتون)، أو آتوم، الذي كان يمثِّل قُرصَ الشمس.  و(آتون) هو (أَتُّوْن)، بالعربيَّة، وهو: المَوْقِدُ، والجمع: أَتاتين.(1)  وتُشبِه تجربة أخناتون في هذا تجربة (إبراهيم الخليل)، حسب قِصَّته القرآنيَّة، الذي لمّا رأى الشمس بازغةً، قال: "هذا ربّي"، لولا أن أخناتون ظلّ على اعتقاده، ولم يصدّه عن ذلك أن رأى الشمس من الآفلين.(2)  

اتَّخذَ أخناتونُ آتونَ اسمًا لربِّه، وحَظَرَ الشِّركَ به على المِصْريّين، ومنعَ المعابد القديمة، وصادر أملاكها، وحطَّم التماثيل، وحرَّم الرُّقَى، وأحرق ما تبقَّى من ألوان السِّحر والشعوذة، ساعيًا إلى ديانة توحيديَّة. لكن مذهبه هذا قُوِّض من بعده، واضطَهد الانقلابيُّون- مِن أتباع الآلهة المتعدِّدة التقليديَّة- أتباعَه، وتحوَّل ابنُه من عبادة آتون إلى عبادة (آمون)، وتسمَّى بـ(توت غنخ آمون)(3)، ونعتوا أخناتون بـ"المجرم الأكبر".  ويُروى أن اليهوديَّة في مِصْر كانت على تداخلٍ حميمٍ مع الآتونيَّة، مؤثِّرة أو متأثِّرة، إلى درجة التطابق، كما يُرجِّح (فرويد).(4)  ونحن نجد مصداق ذلك في "التوراة"؛ فإذا كان أخناتون قد اتَّخذَ آتون ربًّا- وهو الشمس، كـ"أَتُّوْن/ أَتُوْن" بالعربيَّة، أي: النار الموقدة- فإن "التوراة" تحكي عن (يَهْوَه) شيئًا شبيهًا، كما في قولها: "وكَانَ جَبَلُ سِينَاءَ كُلُّهُ يُدَخِّنُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ نَزَلَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وصَعِدَ دُخَانُهُ كَدُخَانِ الأَتُونِ، وارْتَجَفَ كُلُّ الجَبَلِ جِدًّا."(5)

على أن افتراض أن كلمة "العابيرو"، في تلك المراسلات المعثور عليها في العمارنة تعني: "العبرانيِّين" مُشْكِل؛ لأنه إذا كانت الرسائل من عهد أخناتون، فالمفترض السائد أن العبرانيِّين لمّا يكونوا- على بعض الآراء، ووفق تصوّرات فرويد عن علاقة أخناتون بـ(النبي موسى)- قد خرجوا من مِصْر بَعد.  إلَّا إنْ قيل إنها كانت في (الشام) قبائل أخرى من العبرانيِّين وأنهم المقصودون. 

بيد أني سأطرح فرضيَّة أخرى هاهنا، تبدو قابلة للتوفيق بين هذه الأحداث والآثار.  فلعلّ الفرعون الذي خرج على عهده موسى هو الفرعون السابع من الأسرة الثامنة عشرة (أمنحُتِب الثاني، 1427- 1401ق.م)، وهو الجَدّ الثاني لأمنحُتِب الرابع/ أخناتون.  وكأن أباه (تحوت موسى الثالث، -1425ق.م) هو فرعون التسخير.  ويؤيِّد هذا ما ورد في مخطوطٍ بَرديٍّ هيروغليفيٍّ، يعود إلى عهد تحوت موسى الثالث، يشير إلى أقوام يسمّيهم المخطوط (الآبيروسApiru ، أو الهابيرو Hapiru، أو Habiru)، ليسوا بمِصْريّين، كانوا يعملون بالسُّخرة في مِصْر، في أعمال البناء، والفلاحة، وقطف الكروم.(6)  ويبدو أن هذا اللقب يشير إلى العبرانيِّين، الذين جاءت الإشارة إليهم باللقب نفسه في رسائل الكنعانيِّين المعثور عليها في تلّ العمارنة.  وقد وردت الإشارة إلى هذا التسخير في "سِفر الخروج"(7) هكذا: "فاسْتَعْبَدَ المِصْرِيُّونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعُنْفٍ، ومَرَّرُوا حَيَاتَهُمْ بِعُبُودِيَّةٍ قَاسِيَةٍ في الطِّينِ واللَّبِنِ وفي كُلِّ عَمَلٍ في الحَقْلِ. كُلّ عَمَلِهِم الذي عَمِلُوهُ بِوَاسِطَتِهِم عُنْفًا."  وربما كان من أسباب العثور على (الهابيرو) لقبًا لطبقة العمّال في عهود لاحقة للعهد الذي قدَّرنا أن العبرانيِّين خرجوا فيه من مِصْر، أي بعد عهد (أمنحُتِب الثاني)، هو أنه قد أصبح لقبًا مهنيًّا شعبيًّا لهذه الطبقة العاملة، وإنْ لم يكن أفرادها من العبرانيِّين بالضرورة.(8)   

وعليه، فإنه، بناءً على الوثائق التاريخيَّة المتمثِّلة في:

- ما سبقت الإشارة إليه ممّا نقله (ول ديورانت) عن (جارستانج)، عضو (بعثة مارستن Marston)، التابعة لـ(جامعة ليفربول)، وهو أنها كُشفت في مقابر (أريحا) المَلَكيَّة أدلَّة تُثبت أن موسى قد تربَّى في بلاط الملِكَة (حتشبسوت، -1458ق.م)، وأنه فرَّ من مِصْر حين تولى المُلْكَ (تحوت موسى الثالث، -1425ق.م)، عدوّ حتشبسوت. 

- ما أشير إليه حول ما وردَ في المخطوط البَردي الهيروغليفي، الذي يعود إلى عهد تحوت موسى الثالث، والذي يشير إلى أن (الآبيروس، أو الهابيرو) كانوا يعملون بالسُّخرة في مِصْر.

- رسائل الكنعانيِّين إلى (أخناتون، -1336/ 1334ق.م)، المعثور عليها في تلّ العمارنة، وشكواهم من غزو (الهابيرو: العبرانيِّين)، الدالَّة على أن هؤلاء باتوا يمثِّلون قوَّة غازية تُهدِّد ممالك الشام.

- ما جاء في كلمات الفرعون المِصْري (مرنبتاح، الذي حكمَ من 1213 إلى 1203ق.م)، التي سجَّلها على لوحته الشهيرة بـ"بلوحة بني إسرائيل"، [تناولناها في المقال السابق]، الدالَّة على أن بني إسرائيل قد أصبحوا في عهده عدوًّا خارجيًّا لمِصْر، لا عدوًّا داخليًّا، أو مجرَّد متمرِّدين على سُلطانه.  هذا مع الإشارة المهمَّة إلى "ضياعهم" في قوله: "يسرائر/ يسرائل/ إسرئيل ضائعة، وبذرتها عقيم"، الموحية بـ"تِيْه" بني إسرائيل المشهور، وكأن ذاك قد صار سُبَّتهم بين الشعوب، منذ ذلك التاريخ. 

بناءً على هذا كلِّه، يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، يمكن استنتاج الآتي:

أن موسى عاد من (مَدْيَن) إلى مِصْر بعد وفاة (تحوت موسى الثالث)، أي في عام 1425ق.م أو بُعيده، إثْرَ تَولِّي (أمنحُتِب الثاني).  وهذا الفرعون الجبّار هو مخضِع الثائرين وطالبي الحريَّة، وهو ذابح الملوك للآلهة بيده.  الذي قاد الحملات القاسية على (فلسطين) و(سوريّة)، والذي اقتاد 3600 مساجينَ من أولئك الهابيرو (العبرانيِّين) من أرض كنعان إلى مِصْر.  وقد لوحظ على مومياء هذا الفرعون ما لوحظ على مومياء أبيه وجدّه من القروح الجلديَّة، وربّما الجُذام.  وبدأت مطالبات موسى فرعونَ بالخروج من مِصْر، بعد عودته من مَدْيَن.  وفي عهد (أمنحُتِب الثاني) خرج العبرانيُّون من مِصْر، 1401ق.م.  وذكرت التوراة أن عُمْرَ موسى إذ ذاك كان ثمانين سنة.  وهذا متَّفق تقريبًا مع المدَّة من عهد (تحوت موسى الثاني، -1479ق.م)، الذي وُلد فيه موسى، إلى عهد (أمنحُتِب الثاني، -1401ق.م)، الذي خرج فيه.  ولا يتعارض هذا مع الإيمان بحادثة الغَرَق لفرعون وجنوده لدى من يؤمن بها؛ لأن فرعون- حسب القرآن- قد نجا ببدنه.  ولا يتعارض كذلك مع العثور على مومياء هذا الفرعون محنَّطة في مقابر الفراعنة؛ لأنه من المتصوَّر أن قومه قد حنَّطوه بعد نجاته ودفنوه في وادي الملوك، كغيره من ملوكهم.  ولكن هل نصَّ القرآن على غَرَق فرعون أصلًا؟  كلّا!  وإنما التفاسير التي تتَّخذ القصص التوراتي مرجعًا هي التي فرضت هذا الفهم على النصّ، ورسَّخت هذا الاستنتاج ترسيخًا، حتى صار كأنه من المسلَّمات البدهيَّة.  ثم تعال ابحث عن مومياء الفرعون الغريق، كما يُحاول بعض المعاصرين!  إن القرآن دقيق في تعبيره هاهنا، فهو لا ينصّ على غَرَق فرعون مطلقًا، وإنما على أنه "أدرك فرعون الغَرَق"، ثمَّ نجا.  وللتفصيل في هذا سيكون مقالنا الآتي، إنْ شاء الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر: ابن منظور، (أتن).

(2) وقد دفع هذا الشَّبَهُ بعضَ الدارسين إلى الزعم أن (أخناتون) هو (إبراهيم).

(4) انظر في هذا: فرويد، سيجموند، (1986)، موسى والتوحيد، ترجمة: جورج طرابيشي (بيروت: دار الطليعة)، 27- 00؛ ديورانت، وِل وايريْل، (1971)، قِصَّة الحضارة- الشرق الأدنى، ترجمة: محمَّد بدران (بيروت: دار الجيل)، ج2 م1: 168- 179؛ نعمة، حسن، (1994)، موسوعة ميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة، ومعجم أهم المعبودات القديمة، (بيروت: دار الفكر اللبناني)، 133؛ السواح، فراس، (1996)، مغامرات العقل الأولى، (دمشق: دار علاء الدِّين)، 131- 000.

بل إن (فرويد، 84- 00، 123) يذهب إلى أبعد من هذا، وهو أن اليهوديَّة ديانة مِصْريَّة الجذور، عقيدةً وشريعة، وأن (موسى) لا يعدو تلميذًا لـ(أخناتون)، وأن المسيحيَّة إنما تُمثِّل عودةَ كهنةِ (آمون) وانتصارَهم على أخناتون!

(5) سِفر الخروج، 19: 18.  وظاهرة الجبال في التوراة لافتة، فلا بُدّ للربّ من جبلٍ مقدَّس: الطُّور، صهيون، جرزِّيم.. إلخ.

(6) انظر: بوكاي، موريس، (1990)، التوراة والإنجيل والقرآن والعِلْم، ترجمة: حسن خالد (بيروت: المكتب الإسلامي)، 265.

(7) 1: 13- 14. 

(8) وانظر: بوكاي، 266.

.................................................................

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «العابثون بالتاريخ!: (32- شهادة العاديّات المِصْريَّة- 2)»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الأربعاء 11 نوفمبر 2015، ص40].

وسوم: 642