محبرة الخليقة (48)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

الناقد:

     النصّ القاتل

------------------

(                    قال

                     إبليسْ :

                     ليسَ هذا النصُّ في معرفةِ

            الكونِ

                     مقدّسْ .

                     كيفَ حيٌّ خالدٌ

                     لا يتنفس ؟!

 

                     مُطلقْ .

                     غيرَ أنّي لا ارى فيهِ سوى

     نصٍّ جناحاهُ ضئيلانِ ،

                     وقمعيٌّ ،

                     ومُغلقْ . )

 

 

 

 

وأنت تطالع عنوان هذا القسم "الناقد" ، لا يترك لك جوزف حرب أدنى فسحة تمهيدية لتمنح نفسك فرصة لتعدد تأويلات هذه المفردة كأن يكون الشاعر قد خصص هذا القسم مثلا ليلعب دور الناقد لظواهر الكون والحياة والوجود السلبية متسقاً مع اتجاهه العام في قصة خليقته هذه ، أو أن يخصّص نصوص هذا القسم لتناول دور الناقد في العملية الأبداعية ويعبر منه إلى فضاءات نقدية أوسع ترتبط بموضوعات محبرته الجوهرية . لا يترك لك أدنى فسحة حيث يلقي على منضدة ذهنك – وبصورة مباشرة وفوريّة وبلا مقدّمات في استهلال المقطع الأول – ما يعنيه بصفة "الناقد" هذه :

(                    قال

                     إبليسْ :

                     ليسَ هذا النصُّ في معرفةِ

            الكونِ

                     مقدّسْ .

                     كيفَ حيٌّ خالدٌ

                     لا يتنفس ؟!

                     مُطلقْ .

                     غيرَ أنّي لا ارى فيهِ سوى

     نصٍّ جناحاهُ ضئيلانِ ،

                     وقمعيٌّ ،

                     ومُغلقْ . – ص 1215 و1216) (نصّ "الناقد") .

إذن فالناقد المقصود هو "إبليس" !! الذي لا بدّ أن يجعله الشاعر يضطلع بدور الناقد "الكوني" بسبب صلته بالله وحضوره ودوره الكوني . وهو – أي إبليس وليس الشاعر لأنّ البعض قد يخلط بين الدورين بسبب الجانب الشيطاني من دور الشاعر – سيفرض دوره النقدي – كما صمّمه الشاعر – وجود "نصٍّ" يقوم الناقد بنقده كما هو الحال في ايّة عملية نقدية . ولأنّ أطراف العمليّة النقدية الأربع : المؤلّف والنصّ والقاريء والناقد لن تكتمل من دون "مؤلف" ، فإنّ من المحتّم أن يتعرّض الناقد لمؤلف هذا النص الذي بين يديه وهو "الله" . وسوف يلتحم في الناقد دوري الناقد والقاريء ولنسمّه المتلقّي لتصبح العلاقة "مثلّثة" ، برغم أن هذه الصفة "المتلقي" توحي بالإستقبال السلبي أكثر مما توحي بالتلقي الفاعل والإيجابي .

ولأنّ النص الذي سيقوم الناقد بتقييمه (وليس تقويمه كما يرى البعض لأنّ قوّمه جعل له قواماً والتقييم من القيمة كما يقول الراحل هادي العلوي) مؤلفّه الله ، فهو "مقدّس" بطبيعته . ولا يمكن التقرّب من المقدس ونقده إلا برفع صفة القداسة عنه ، لأنّ من اشتراطات المقدّس النفسية هي "المسافة" الفاصلة المحرّمة بين الفرد وبينه . وعليه فقد خطا الناقد الخطوة الضرورية الأولى (ليس هذا النص في معرفة الكون مقدّس) ، وبعد أن صار النص "اعتيادياً" يصبح من اليسير التعرّض إلى صفات مؤلّفه (كيفّ حيٌّ خالدٌ لا يتنفس ؟!) . وبهذا يكون هذا الناقد الجسور قد نزع ايضاً صفة القداسة عن المؤلّف ، وسوف تترتب على هذه الخطوة خطوات أكثر جرأة أخرى تتعلق بـ "اللغة" المستخدمة في تقييم النصّ – والمقصود به قصّة الخليقة طبعاً – وطبيعة حدّة المفردات التوصيفيّة ، والتوازن في علاقة الناقد به من موقع مقابل وبلا مقدّمات تقرّبية خارجة على النص ، ولذلك نجد الناقد يعلن ، وبلا مقدّمات ، وبدخول مباشر إلى ساحة النصّ أن هذا النص ليس "مطلقاً" برغم أنّه يعرف أنه من الخالق ، وأنه لا يرى فيه سوى نص (جناحاه ضئيلان ، وقمعيٌّ ، ومُغلق) .

إذن فقد جعلنا هذا الناقد – ومن ورائه الشاعر طبعاً – في مركز عملية نقدية عاديّة – برغم الرهبة التي تعتمل في نفوسنا حتى الآن – عملية يومية مثل تلك التي تجري على صفحات المجلات الأدبية ، وفيها يتناول الناقد المؤلّف ونصّه بصورة مباشرة وبتوصيفات أدبيّة معتادة . لقد شكّك الناقد في المؤلّف منذ لحظة البدء ، واعتبر في وجوده تناقض طامغ : فكيف يكون هناك "حيّ" بصفة من أسمائه الحسنى وهو لا يتنفس . وهو في الحقيقة يُخلخل "هويّة" المؤلّف بل وجوده أصلاً . ويبدو نّ هذا الناقد مهتم بالمؤلّف لأنه يؤمن بقاعدة أن المؤلّف لا يموت ، وأن صلته لا تنقطع بنصّه بعد كتابته وانتقال مسؤوليته إلى المتلقي (ناقداً وقارئاً) . يبدو أن الناقد إبليس ليس ناقداً حداثوياً – ليس بنيوياً أو تفكيكياً مثلاً - . كما أنّه سوف يقف فوراً – وكتحصيل حاصل – ضدّ جبهة "علماء" الغيب والدين (ولا أعرف كيف تتفق صفة العالم مع "باحث" يؤمن بخلود النص والحقائق وحرمتهما ؟!) . وهؤلاء هم الذين جعلوا النصّ مغلقاً وقمعيّاً :

(                حرّموا فيه السؤالً ،

                                        الشكَّ ،

                                    والتأويلَ ،

                 ألغوا كلّ فكرٍ ،

                                     وحوارٍ ،

                                    واجتهادٍ ،

                 جعلوني الكافرَ ،  الخائنَ ،

                                  والزنديقَ ،

                                   والملحدَ ،

                                والمطرودَ ،

                                 والملعونَ ، - ص 1216 و1217) .

وهنا ، حصل تحوّلٌ في "اتجاه" الخطاب النقدي ، من المؤلف ، إلى "هم" ، الذين هم جموع "الأبناء" القرّاء الذين يتعصبون للنصّ ، ويرون في التقرّب منه بأي ملاحظة مروقاً ومساساً جائراً لا يُغتفر بحقِّ الأب الأكبر . وهذا الإبن العاصي الخارج عن إرادة جماعة الأخوة يصبح مصدر الخطر لأنه في حقيقة الأمر صورة "مُسقطة" مخيفة تتجمّع فيها كلّ نوازع العدوان والرغبة في قتل الأب مجسّدة في الأخ "الأصغر" كما عوّدتنا الموروثات حكاية وأسطورة ، والذي يكون شاعراً عادة ، والمفضّل عند الأمّ أيضاً حسب اشتراطات العلاقات بين أطراف المثلّث الأوديبي . هؤلاء الأبناء المتعصّبون بمظاهر الرغبة المناقضة ، الساعون نحو التكفير عن آثامهم الثقيلة ، هم الذين يحرّمون المساس بالنصّ بنفس درجة تحريم المساس بمؤلّفه وكأنه هو ، يجعلونه "تابو" و "يصنّمونه" في الوقت نفسه . وهذا السلوك في واقعه النفسي هو خطوة انقلابية على الأب نفسه ، ورغبة في قتله حيّاً عن طريق مقترب "نقدي" آخر . وهؤلاء أيضاً هم الذين يتفقون على "نفي" الإبن المارق والعاصي من "القطيع" أو "النقيل" البشري الأول ، ويلحقون به أبشع صفات التمرّد والكفر والإلحاد والزندقة .

ولأن بعض النقّاد – كما نلاحظ في ممارسات الحياة الأدبية اليومية – يستعجلون الكشف عن دوافعهم الذاتية ، ويمرّرونها خلف أستار الفعل النقدي ، فإنهم "يستعجلون" الكشف عن تلك الدوافع المكبوتة اللائبة ، فيخرجون عن "النص" ، وهو الأمر الذي وقع فيه ناقدنا الأستاذ إبليس حين أعلن في خطوة حكم قيمة استباقي ينبغي أن تكون خاتمة واستنتاجاً :

(                لا أؤمنُ بالثالوثِ ، أو أيِّ

          ملاكٍ ، لا

                 أوحّدْ ،

                 جعلوني

                 المتمرّدْ .

                 ليسَ في ذاكرتي

                             بدءٌ ،

                 ولا طيفُ سماءٍ . – ص 1217) .

ومن هنا يظهر أنّ هذا الناقد لم يستطع التكتّم على "المبادىء" التي يشتغل في عمله النقدي على أسسها ، حيث يبدو أنه ينظر إلى تصارع العوامل الذاتية والموضوعية في العملية النقدية على أّنها محكومة إلى حدّ كبير بالعوامل الذاتية الفاعلة في نفس الناقد . فالناقد ذاتي في البدء ، اختياراً وموقفاً ، ثم يبذل المستحيل كي يصبح موضوعياً . لا وجود لأطروحة "الناقد الموضوعي" الحديدي في النقد . وبخلاف قواعد العملية النقدية المنضبطة التي لا تتيح للناقد أن يدخل ساحة "النص" بأهوائه ورغباته المكشوفة ، نجد ناقدنا التعرّضي يكشف ما يؤمن به وما لايؤمن به ، وما يحبّه وما لا يحبّه . كما أنه يتعرّض للسلوك الشخصي لـ "منشيء" النص – الحداثيون الغربيون أحلّوا مصطلح "منشيء" محل "مؤلّف" كخطوة لإماتة المؤلّف أو نتيجة لها - ، فهذا المؤلّف بدوره - ويبدو أنّ سلوك الناقد السابق جاء كردّة فعل على سلوك المؤلّف أو بالعكس – لا يتورّع في القفز باستجابته فوق النصّ ؛ فهو لا يُحاسب النص النقدي وفق الأفكار الواردة فيه ، بل يأخذ بتلابيب مؤلّف النص ، الناقد ، ويُخرسه ، أو يطفىء وجهه ، أو يكفّره :

(                لم أحبَّ اللهَ يوماً .

                 كلّما ناقشتهُ في النصِّ اسرى

     في لساني الصمتَ ، أو أطفأَ ليْ وجهيْ .

     ولم أنهضْ بنقدٍ مرّةً إلّا رمى نقدي

     بكفرٍ . – ص 1218) .

وهذه من معضلات الحياة الثقافية العربية حتى يومنا هذا ، وهي أن نترك الأفكار المطروحة في النصوص ، ونطارد أصحابها ونلاحقهم ونكيل لهم التهم . لقد مرّت كل شعوب الأرض بهذه المرحلة ، ومنها من تجاوزها وعَبَرها بترسيخ أسس احترام العقل والإنسان وحقوقه ، والفصل بين محاسبة النص "نقده" ومحاسبة مؤلفه ، ومنها من ظلّ يراوح في دائرة مأساتها ، ومنها ما تدهور أكثر ، وصار أشدّ انحطاطاً ، ومن هؤلاء نحن :

(           أطرقُ الأبوابَ في النصِّ لكيْ أعرفَ

     ما أسرارهُ ، ما

                   يتوقّدْ ،

                   منهُ ، أو ما

                   يترمّد ،

                   أو يُرى شيخاً على عكازّهِ ، أو

                   يتجدّد ،

                   تُوصدُ الأبوابُ في وجهي ، وأُطردْ . ص - 1218) .

والناقد يؤكّد على أنّه قد تعرّض لظلم آخر تعدّى المحاسبة على "حدود" سلوكه النقدي . فلأن المؤلّف الخالق امتلك ، وسوف يمتلك ، "رعيّة" بشريّة "قارئة" هائلة جداً في المكان ، وممتدة في الزمان ، فإنه قد حاسب الناقد ليضرب به مثلاً للإنسان ، يرى فيه جزاءه وصورة عقابه حين يتصدّى له ، و"ينتقد" مثله . النقد "محرّم" . وقد ألحق به الله صفاتٍ مشينة شوّهت صورته في عقول البشر ، ولكنها كلها صفاتٌ لا تمتّ إليه بصلة ، بل هي خطيئة بحقه من جانب ، وهي خطأ في الفكر الذي يقود الكلمات من جانب آخر . وهي أوّل وقفة تكشف النقص في ما خلقه الله من ناحية ، وتُظهر "البشري" المسكوت عنه من السلوك في شخصية المؤلف الخالق من ناحية ثانية مكمّلة :

(                كمْ صحيحٌ أنّ هذا اللهَ قد

       أوجدني حتى يرى الإنسان إن خالفهُ ، كيفَ

       سيغدو ! غيرَ أنيْ لستُ ما صورّهُ اللهُ .

       ولستُ الشرَّ ،

                   والقاتلَ ،

                   والمذنبَ ،

                   والدجّالَ ،

                   والمُفسدَ ،

                            هذي كلها

                            ليست صفاتيْ .

                   هي من بعضِ صفاتِ النقصِ

       في الفكرِ الذي خلفَ حجابِ

                           الكلماتِ ،

                            والدواةِ . – ص 1219) . 

هذا الناقد هو اوّل ناقد في الخليقة ، بل هو من حاز قصب النقد في الكون . وهذه الوقفة النقدية هي اول عملية نقدية في تاريخ الخليقة ، بل في الكون كلّه . وكانت الطبيعة الدرامية التي أُخرجت بها هذه العمليّة درساً كونيّاً اخترق حدود المكان وحجب الزمان ، وسار معنا حتى هذا اليوم ، وسوف يستمر إلى أن يفنى الكون ، لأنّ بعد هذه العملية لم تحصل عملية من نوعها أبداً ، ولم يظهر ناقد بجسارة وشجاعة هذا الناقد العظيم أبداً أيضاً . وقد تسلّم الرايةَ –  أو هكذا كان من المفترض أن تسير الأمور – الشاعر الذي يتكلّم بلسان الناقد الآن ، ويعيد علينا دروس جسارته وعِبَرَ روحه النقدية الإقتحامية ، ويكثر التأكيد على أنّ محاسبة الناقد – وهذه عظة الحاضر المسؤول عنها الشاعر - كانت على جرأته في "اجتهاده" ، وأنّ الناقد لم يقم بأكثر من أداء دوره المطلوب الذي تحكمه تطلّعاته كناقد يقع أمامه نصّ بهذه السعة والتعقيد والخلاقية من مبدع جبّار مثل هذا المبدع :

(            هيَ من بعضِ صفاتِ النقصِ في

      ما خلقَ اللهُ الذي لم يختملْ نقدي لهُ ،

      مدّعياً أنيَ قدْ أخطأتُ في تفسيرِ معنى

      نصّهِ حينَ

                اجترأتُ

                وقرأتُ .

                أنا لم أفعلْ سوى أنيْ انتقدتُ

      النصَّ .

                إنّيْ ناقدٌ ،

                والله مبدعْ .

                مرّةً ، يكتبُ بالنورِ ، وآناً ، كمرورِ

      الغصنِ في الريحِ

                  يوقّعْ . – ص 1220) .

وهذه من اشتراطات – وهي دروس طبعاً يلخّصها لنا الشاعر – العملية النقديّة السليمة ، أن يقرّ الناقد بإيجابيات مؤلّف النصّ ، وأن لا يغمطه حقوقه . أن لا يكون متحاملاً على المؤلف – طبعا إلّا إذا استعجل الشاعر أحياناً في كشف نوايا الناقد كما حصل قبل قليل – فيحرق إيجابياته بنيران سلبياته ، ويحوّل النص إلى رماد ، فتصبح العملية النقدية وكأنها تصفية حسابات فعليّة أو نفسيّة . وها هو الناقد يقرّ بعظمة وجبروت المؤلّف الذي ملأ الكون بأسرار الخلق "الكحليّة" – لاحظ أن الكحلي في نصوص جوزف ، يحلّ كلونٍ محل السرّ – وامتدت روحه في كلّ الاشياء . ولكن هذا لم يمنعه من أن يعيد التأكيد على وجهة نظره النقدية في النص "الرائع" كنصٍّ "مفجع" :

(             إنّي ناقدٌ ،

              واللهُ مبدعْ .

              مرّةً ، يكتبُ بالنورِ ، وآناً ، كمرورِ

     الغصنِ في الريحِ

              يوقّعْ .

              ويوشّي ،

              ويرصّعْ .

              وفضاءاتٍ من الكحليِّ مملوءاً بأبعادٍ

    من السريِّ ، في الكونِ

              يوزّعْ .

              لا

              صدى للشيءِ إلّا وهو في أوديةِ

    الأشياءِ كالمزمارِ في أغنيةِ الراعيْ

              يرجّعْ .

              إنّه الأروعُ

                           لكنْ

              نصّهُ بالرغمِ من روعتهِ في الخلقِ

              مُفجعْ . – ص 1220 و1221) . 

كان ردّ فعل مؤلّف النصّ / الله ، انتقامياً ، كما يصفه الناقد ، حيث تعدّى أفكاره الناقدة إلى "شخصه" ، فصار هذا الذي تعرفه الناس وتصمه بالمروق والعصيان والكفر والإفساد والإلحاد والزندقة وغيرها الكثير من الصفات المشينة . وعبثاً يحاول درء تلك الصفات القبيحة عن نفسه ، أو إثبات أن خصاله الحقيقية إنّما هي خلاف ذلك ونقيضه بصورة تامّة . لقد انبنت له صورة نمطيّة – stereotypy في أذهان الناس عبر آلاف السنين ، وصار من المستحيل تغييرها . إنّه هذا المطرود والملعون والمُعيب في الدين ، والمغوي في الفكر ، ونزوة الشر في علم النفس ، والشيطان في الفن ، والشرّ نفسه في الفلسفة . هكذا تعدّدت أوصاف هذا الناقد المسكين المُهينة ، وتضاربت أدواره المشؤومة في حياتنا . وكلّ دين وعلمٍ وفرع من فروع المعرفة ينظر إليه من منظاره المحتلف ، لكن الجميع متفقون على إدانته وتبشيعه وشتمه وتحذير البشر منه . ولكن في الحقيقة أنه كان أوّل من "عرف" وأوّل من أسّس "ألم" المعرفة وجحيمها :

(                    وانتقامُ اللهِ من نقديَ قدْ حوّلني

    في الأرضِ ما اصبحتهُ في الناسِ . لكنّيَ حقّاً

    لستُ هذا . فأنا ما بينَ غيبِ الدينِ ، والعلمِ ، وأفقِ

    الفكرِ ، والفنِّ المروّى بالرؤى ،

                     والفلسفهْ ،

                     ليسَ ليْ من منزلٍ أحيا بهِ

               إلّا

                     جحيمُ المعرفهْ . – ص 1222) .

وجحيم المعرفة أو لعنتها هو سقطة وامتياز لهذا الناقد في الوقت نفسه . فهي سقطة لأنه خرج عن إرادة مؤلّف النصّ الكوني .. خرج على النص كما يُقال في الأدب المسرحي عادة ، وهذا الخروج يقلق الكون بل يخيف الآلهة التي تريد أن تغفو مطمئنة إلى أن الكون محكوم بنواميس تسري سلطتها في الليل والنهار ، في النوم واليقظة ، وبإرادة المخلوق أو رفضه . لا شيء يغيّر من الأمر شيئا . هذا الناقد هو الذي "عرف" ذلك ، ثم – وهذا هو الأخطر – جعل الإنسان "يعرف" ، وحثّه على أن "يعرف ضرورة أن يعرف" . هو لم يوسوس كما يرد في أدبيات الدين عادةً أو في كتبه المقدّسة ، ولم يدنّس شيئاً ، ولم يطفىء شعلة روح ما . كان عمله الأول والأخير هو أن يشعل لهيب المعرفة أو جحيمها ، أمّا ما حصل بعد ذلك من محاولات تأليهه أو جعله قرين الخالق ، ورسم العبادات والديانات له ، وما يلصق به من تخصصه بالسحر الأسود الذي يوقع بالإنسان ويحطّم روحه ، ودعوته للزنى وخصوصاً إلى السفاح بالمحارم ، فهي أمور – كما يقول – اصطنعها الناس في سيرهم الشعبية والدينية ولم تكن له يدٌ فيها :

(                   لم

                    أوسوسْ .

                    لم أصبْ روحاً بسهمٍ يُطفىءُ

         الشعلةَ فيها ، لمْ

                    أدنّسْ .(...)

                    وما هذي العباداتُ ؟

                    وذاكَ الشائعُ الدينيُّ عنْ أنّي أقيمُ

  السحرَ ؟

          أُغوي كلَّ فردٍ

          بارتكابِ الإثمِ ؟

                          أدعو للزنى ؟

                          أطفىءُ في الروحِ الوصايا ؟

                    لستُ

                    هذا . – ص 1223 و1224) .

هذا التضارب المدوّخ كان في "مضمونه ، أما "شكله" فلم يسلم من تضارب وفوضى مماثلة . فقد تفنّنت مخيلة الإنسان في رسم الصور البشعة والمخيفة له . فهذا يرسمه بقرونٍ وذيلٍ مدبّب مشطور ، وأنيابٍ طويلة ، وملامح تيس ، وقضيب ضخم (أكثرها مشتقة نفسيّاً من الوجه الأبوي الخاصي) ، وذاك يصوّره في مقدّمة مركب مجاذيفه أفاعٍ وريحه نار ، يخوض في بحار مياهها من نحاس ودم ، والناس في المركب جرحى يئنون وقد تفسّخت أجسامهم وازرقّ لحم أجسادهم . والناقد الأول يُنكر كلّ ذلك ، ويصرّ على أنّه "ليس هذا" . فمن هو إذن ؟

في الإجابة المباشرة التي يقدّمها لنا ، يحصل نوع من التراجع الظاهر في موقفه ، فبعد أن كان يعلن في المقطع السابق أنّه ضد الله ، وأنّه لم يحبه يوماً ، وشكّك حتى في وجوده ، تراه الآن يقول أنه ما هو إلّا كائن يحيا ضد الدين وليس ضدّ الله ، ويؤكّد على ذلك ، وأنّ الله الذي في الدين ، هو غير الله الذي خارجه ، وأن النص غير الديني (هل نقول العلماني بلغتنا المعاصرة ؟!) أفضل بما لا يُقاس من النص الديني ، و"أعقل" رغم أن الأخير يدّعي كمال العقل لأنه مقود بعقل مطلق لا تشوبه شائبة الخطأ من خلفه ولا من بين يديه :

(                 إنّني أحيا نقيضَ الدينِ ، لا أحيا

  نقيضَ اللهِ . واللهُ الذي في الدينِ غيرُ اللهِ في

  ما ليسَ ديناً . والذي ليسَ بدينٍ نَصّهُ أعقلُ منْ

  كلِّ نصوصِ الدينِ ، أو

                            أقربُ ليْ

                       منْ أيّ نصٍّ .

                  إنّني أؤمن أنّ الكونَ موجودٌ .

                  وأنّ الله

                            بُدُّ .

                  قوّةٌ لا هي تفنى ،

                            أو

                            تُحدُّ .

                  كلُّ بعدٍ ،

                            بعدهُ

                            بعدٌ ،

                            وبعدُ .

                  ولهُ في هذه الروحِ حنينٌ ،

         ومفاتيحُ ، وأسفارٌ ،

                            ووجدُ . – ص 1227 و1228) .

إذن فقد أزال غشاوة التهمة الأفظع والأشرّ وهي تهمة الكفر والإلحاد والزندقة ، فالناقد الأول يعلن أنه مؤمن بوجود قوة عليا تدير هذا الكون العجيب ، وأن الله ضرورة ، وأنه قوة ليس لها حدود ، خالدة خارج الفناء ، وأنّ في روحه لله حنينٌ وأسفار ، أي أن هذه القوة بلغة الفلاسفة ، حاجة أصيلة في النفس ، وأنه لو لم يكن الله موجوداً لخلقناه . إن الناقد الأول كائن يمكن أن يوصف بأنه مثل الإنسان الذي يحلو لبعض الفلاسفة وصفه بأنه "كائن متديّن" بطبعه لأنه لا يستطيع أن يستغني عن الإيمان بالله ، أو الكائن العلوي ، أو الموجود الأسمى ، أو الحقيقة المقدّسة ، أو "المتعالي" ، أو "المطلق" .. وسواءً آمنّا بإله الفلاسفة الذي هو أقرب إلى "العقل" منه إلى "الشخص" ، أم آمنّا بإله الأديان السماوية الذي ليس كمثله شيء ، أم أنكرنا وجود الله بدعوى أنه ليس وراء الطبيعة شيء ، أم وقفنا من الحقيقة الإلهية موقف المتجاهل أو غير المكترث ، فإننا في كلّ هذه الحالات لا بدّ من أن نجد أنفسنا مضطرين إلى الإعتراف بأن "فكرة الله" تتدخل في صميم حياتنا ، بوصفها فكرة ميتافيزيقية جوهرية تلعب دورا هاماً في تاريخ الموجود البشري . وإذا كان تصوّر المجتمعات لله قد اختلف باختلاف الحضارات وتعدد البيئات وتنوّع العقليات ، فإن "فكرة الله" نفسها تكاد تكون عاملاً مشتركاً بين شتى أنواع الحضارات . وهذا الناقدُ الأول الذي "أبلسهُ" العقل الجمعي هو مثلنا ، يشعر بالحاجة إلى المطلق والمتعالي واللامتناهي . وهو يشعر بوجود الله في كلّ مكان ، حتى رائحته تأتيه من الغامض (الكحلي ؟!) في الكون بهدوء كما ترسل الأزهار عطورها الحيية . كما أنّ صوته يناديه منبعثاً من أعماقه كشدو عصفورة زرقاء . إنّه ملتحم بوجوده من الخارج والداخل . ولكن .. تأتي هذه الـ "لكن" فيستدرك :

(                  ولهُ رائحةٌ تأتي منَ الغامضِ

         في الكونِ كما يُرسلُ في الريحِ جناحُ الطيبِ

                   وردُ .

                   وله صوتٌ ينادينيْ ، فأُصغي ، آهِ

         كمْ

             اصغيْ ،

                   كأنْ عصفورةٌ زرقاءُ في الأعماقِ

                   تشدوْ .

                   ليسَ مجداً كلُّ ما في الأرضِ

         يا

            إكليلُ ،

                   كشفُ الكونِ

                   يا أكليلُ

                   مجدُ . – ص 1229) .

وتبدأ من هنا خطوة الإفتراق الحاسمة عن الله ، وعنّا . عن الله لأنه لم يتوقّع أن يكون من "أنشأه" بيديه هو ناقده . لقد كان هذا الناقد في حقيقته "نصّاً" من نصوص الله ، فإذا به يتحوّل إلى مؤلّف يحوّل ربّه إلى نصّ يبحث في علله ونواقصه . إنها الثورة التي غيّرت أو ستغيّر وجه الخليقة والكون والحياة والتاريخ . المحاولة الأولى لقتل الأب التي يعزو إليها التحليل النفسي نشوء الحضارة والدين والقانون والفن والمجتمع . وعنّا لأنه ومنذ ذلك الحين سيكون الكائن الذي خرق التابو فصار تابو بدوره . وستحكم علاقتنا به ازدواجية عاطفية مريرة . فخارق الحرام يغدو نفسه حراماً وسينعدي بصفات الحرام نفسه ، ليصبح مُعدياً هو بدوره ، فـ (الحرام الذي هو فعل محظور ينزع إليه اللاشعور مدفوعاً بميل بالغ القوّة . ونحن نعلم بدون أن نفهم ، أن من يفعل ما هو محظور وينتهك الحرام يغدو هو نفسه حراماً ، لأنه يحوز مقدرة خطرة على حثّ الآخرين على الإقتداء بمثاله . إنّه يوقظ الغيرة والحسد : لمَ يكون مباحاً له ما هو محظور على الآخرين ؟ إنه إذن معدٍ فعليّاً . وذلك ما دام مثاله يحثّ على تقليده . ولهذا فإن تحاشيه واجب)(86). وقد ظهر هذا التحاشي في حملة التبشيع – شكلاً ومضموناً - التي شُنّت على الناقد الأول / الجسور صاحب المشروع الأول في قتل الأب الأكبر ، والذي جعل خطوته التمهيدية لتحقيق هذا الهدف / الإنجاز ، خطوة معرفية .. بحثية .. فهو يريد أن "يعرف" كنه "مؤلّفه" .. يريد جعل المجهول معلوماً ، وهو عمل عقلي مشرّف في ظاهره :

(                     كلُّ همّيْ هو أن أعرفهُ . ذلكَ يعني

     أنني أمضي لمجهولٍ لكي يغدوَ معلوماً . وليستْ

     رحلتيْ إلّا عذاباً يُشبه الجرحَ الذي يعلوه

                                           ملحُ .

                      إنّني امضي بممحاةٍ وحبرٍ . فإذا

     شاهدتُ وجهَ الدينِ في دربيَ

                                         أمحوْ .

                      وإذا شاهدتُ وجهَ العقلِ في

              دربيْ

                      أغطُّ

                      ريشتي في روح حبري ،

                      وأخطُّ . – ص 1230) .

وسوم: 642