المعارضة الشعرية بين شوقى وفرغلى
"سلوا قلبى ، حنين الشوق نموذجاً"
الاختيار قطعة من عقل المرء ، وهو دال على ما يُؤْثِرُهُ ، ويتفق معه ، ويعبر عن ذاته ، ولقد أكثر الشاعرُ المبدع عبد المجيد فرغلى من معارضاته لكبار شعراء العربية قديماً وحديثاً ، فعارض المتنبى فى أكثر من قصيدة ، عارضه فى (الملك لله القدير ، سفينتى وشراعى) ، وعارض البوصيرى فى (واقف على باب القبول) وعارض ابن الفارض فى (أشواق وعاشق)([1]) ومن المحدثين عارض محمد التهامىَّ فى قصيدته (أنا مسلم) بقصيدته: (قبس من الإيمان)([2]) وعارض شوقي في أكثر من قصيدة ، إذ عارضه فى "الهمزية" بقصيدته (تائب إلى الله) ، وفى قصيدته "ذكرى المولد" بقصيدة "حنين الشوق"([3]).
ومن معارضات فرغلى يتبين أنه عارض كباراً مشهورين من الشعراء ، وذلك طبَعىٌّ ؛ إذ لا مزية فى معارضة الصغار ، فإنها من الصَّغَار: كما يتبين وهو الأهم فى الدلالة على منحى فرغلى الفكرى ، أنه عارض إسلامياً وفى أغراض إسلامية ، مما يكشف عن شاعر عاش لدينه وكان إبداعه رسالياً ، إذ لم تستهوه إلا أحاديثُ الدين ومقالات الإسلام.
وسأعرض هنا لواحدة من معارضات فرغلى مع شوقى ، وهى معارضته الأخيرة فى قصيدته (حنين الشوق) مع قصيدة شوقى (ذكرى المولد)([4])
تمهيد فى مفهوم المعارضة:
تفيد مادة (عارض) المشاركة ، والمغالبة ، وفى (العين):
"عارضته بمثل ما صنع ، إذ أتيتَ إليه بمثل ما أتى إليك ، ومنه اشتُقَّت المعارضة"([5]) وتكون المعارضة فى الشعر والنثر ، وهى دوماً بين طرفين ، متقدِّمٍ ومتأخر بحسبان زمن الإبداع ، ولو كان الفارق بينهما يسيراً وتعاصرا ، والمعارضة فى الشعر كما يرى الأستاذ أحمد الشايب:
"أن يقول شاعر قصيدةً فى موضوعٍ ما من أىِّ بحرٍ وقافية ، فيأتى شاعرٌ آخر ، فيعجب بهذه القصيدة لجانبها الفنى وصياغتها الممتازة ، فيقول قصيدة من بحر الأولى وقافيتها وفى موضوعها أو مع انحراف عنه يسيرٍ أو كثيرٍ ، حريصاً على أن يتعلق بالأول فى درجته الفنية أو يفوقه فيها دون أن يعرض لهجائه أو سبِّهِ ، ودون أن يكون فخرُه صريحاً علانية ، فيأتى بمعانٍ أو صور بإزاء الأولى ، تبلغها فى الجمال الفنى أو تسمو عليها بالعمق أو حسن التعليل أو جمال التمثيل"([6])
المعارضة إذن تقوم على قصيدتين لشاعرين ، الأولى معارَضة ، من اسم المفعول ، إذ هى لم تشأ أن تعارِض ، ووقعت عليها المعارضة من الثانية (المعارِضة) ، وبينما تمثل الأولى المثالَ تسعى الثانية نحو الكمال عبر المثال المطوَّرِ ، استفادة مما أُتيح للثانى من فضل رؤيةٍ وحسن استعدادٍ ، منشؤه من نزعتين متميزتين ، شكلتا الدواعى العامة للمعارضات الشعرية عند الأندلسيين ، هما:
الأولى: نزعة الإعجاب والتقليد.
الثانية: نزعة التفوق والإبداع([7])
وفنُّ المعارضات موغلٌ فى القدم بتراثنا الأدبى ، وقد ارتبط بحثها بفن الموازنات الذى مارسه النقادُ قديماً ، وقد تكون القصائد المعارضة رافضة معاكسة ، وتمثلها النقائضُ ، وقد تكون مجارية وتمثلها البديعياتُ والمقصورات ، ومن أشهر قصائد العربية معارضة بردة كعب بن مالك ، وبردة البوصيرى ، ومن أشهر شعراء العصر الحديث فى إبداع المعارضات أحمد شوقى.. وقد عارضه الشاعر عبد المجيد فرغلى فى واحدة من أشهر مدائح الشوقيات ، ومطلعها:
سلوا قلبى غداة سلا وتابا لعلَّ على الجمالِ له عِتابا
وأبياتها واحد وسبعون بيتاً([8])
والحق أن فرغلى لم يعارض قصيدة شوقى هذه (ذكرى المولد) بقصيدة واحدة ، بل باثنتين هما: اشتياق وأبياتها ثمانٍ وسبعون ، وحنين الشوق وأبياتها مائتان وتسعون([9]) ، وبين القصيدتين من ملامح التماثل كثيرٌ جداً ، بحيث بدت الأولى القوامَ الرئيسَ للثانية ، وبدا أن الثانية هى الطبعة المطورة.. والمطولة للأولى ، فقد أبدعها فى 9/4/1993 ، وكانت الأولى (اشتياق) فى 1990.
أما ملامح التماثل ، فتبدأ من العنوان ، الذى ألح فى المرتين على حضور الشوق ، ومنها جريانهما على الوافر ، وروى الباء المطلق بالفتح ، الموصول بألف خروج ، وقد أحسن محققُ الديوان وموثِّقُهُ حين قدَّم الثانية وأخَّر الأولى فى لفتةٍ ذكية احتفظت لكاتبهما بتقدير المتلقى والرغبة فى القراءة ، ولو راعى زمن الإبداع لربما فقد المتلقى رغبته فى قراءة (حنين الشوق) !
ومطلعا قصيدتي فرغلى يُقِرَّان هذا التماثل ، وأن النصين ما كانا إلا لغرض واحد ، هو معارضة (ذكرى المولد .. سلوا قلبى) لشوقى ، وإن تبديل موقعى الصدر والعجز بين النصين لم يُعَمِّ التماثل على المتلقى ، وقد يسَّر إبدال الصدر بالعجز تصريعَ المطلع ، والمطلعان هما:
حنينُ الشوق باعثُه أهابا بقلبٍ رامَ للطُّهر انتسابا بقلبٍ رام للطهر انتسابا حنينُ الشوق نحوكَ بى أهابا
ومن الجلى أن تكرير: (حنين الشوق) بالنصين مما يؤكد إبداع القصيدتين لغرض واحد ، وأن (حنين الشوق) ليست إلا تطويراً لـ (اشتياق) .
وقد بدت القصيدة الأولى (اشتياق) جنين... عَفِىٌّ ، تعهده وليُّه ورعاه كفيلُه حتى شبَّ ونضج.. على نحو يحتفظ بالشبه ، ويرقى إلى الاكتمال والتحدِّى والتفوق ، فإن المعارضة كما يرى الدكتور أحمد الحوفى:
"تحمل دعوى التحدى والتفوق ، وإدراك ما عجز عنه الأول ، أو على الأقل تتضمن دعوى المناظرة والمسامتة والمساواة"([10])
وبخلاف المطلع فإن المبدع فرغلى كرر فى ثانيته من أولاه أبياتاً كثيرة بشكل واضح ، أحياناً بذات ألفاظها تماماً ، وأحياناً بتغيير ، لا يمنع الصلة ، الأمر الذى يؤكد أن (اشتياق) أشبه بهيكل حىٍّ أضيف إليه من نضج التجربة وطول المعايشة ، والرؤى المستجدة ، ما يقرر انشغال الشاعر بالموضوع (المديح النبوى) واحتشاده للنوع الشعرى (المعارضة) .
وبمقطع المطلع فى (حنين الشوق) يتكرر قولاه:
بَعثت به يرفرف من ضلوعى إلى أرضٍ له طابت رِحابا فلاذ ببطنِ مكةَ مستقرًّا وعن زيغِ السبيل نأَى وتابا
فى الموضعين (2،3) من (اشتياق) مع تغيير بسيط .. لكنة دالٌّ .. على نضج المبدع ، ذلك حين استبدل فى الأول (من ضلوعى) بـ (فى اشتياق) ، وهو يتحدث عن القلب المذكور بالمطلع ، ولئن ناسب (اشتياق) عنوان النص فى الأولى ، فإن (من ضلوعى) يقرر أن المقصود بالفعل (بعثت) إنما هو القلب لا سواه ، فلئن بدا ذلك مفهوماً فى الأولى ، لتتابع الأبيات مع المطلع (1،2،3) فما هنالك من لبسٍ.. أما فى (حنين الشوق) فقد فصل بين المطلع والبيتين بآخرين .. الأمر الذى قد تتلبس معه دلالةُ الفعل بَعثت ، أو تغمض ، وقد دعم وضوحَ المقصود التعبيرُ الوارد (من ضلوعى) وتقدمه بقوله فى الموضع (3)
وراح القلبُ يهتف فى اشتياقٍ من الأعماق ألهِمْنِى الجوَابا
فكأن فرغلى حلَّ بيتاً من الأولى فى اثنين بالثانية([11])
وتتبع مواضع الأبيات المتكررة من الأولى فى الثانية يطول.. وربما بعد بنا عن الدخول فى صلب معارضة فرغلى لشوقى .. وهنا تكفى الإشارة إلى أن الأبيات الخمس المتتابعة([12]) (44 : 48) تكون بأعيان ألفاظها ، مع تغييراتٍ موفقة تماماً فى الأبيات (220 : 224) فى "حنين الشوق" ، وقد استبدل ألفاظاً بألفاظ ، وتعابير بأخرى ، فى مسلك إبداعى يرقى بالأسلوب ، وكأنه يُحَكِّكُ شعرَه كزُهير والحُطيئة ، ومن ذلك أنه استبدل فى الرابع (تهدى) بـ(تدعو) والهداية أعمق فى الدلالة على خيرية الأمة ، إذ تعدت ممارستها للدعوة ، إلى استجابة المدعو ، وتقبله. وقد استبدل فى الخامس العجز كاملاً من:
طوى عن عالم الدنيا اكتـــئابا
إلى: سوى مَيْلٍ عن الزيغ اجتنابا
وهو أيضاً أقوى فى التأكيد على خيرية الأمة.
أما التغيير الأقوى فى الدلالة على نضج الثانية عن الأولى ، وأن مراجعة التجربة الإبداعية مُجْدٍ ويسير نحو الأفضل ، فهو ما جاء بالمنصوب الأول من عجز البيت الثالث ، حين استبدل (قرباً) ببعداً ، ولأنهما متضادان ، فإنهما يستوقفان الموازن بين النصين ، إذ لا يصحُّ فى موضع واحد متقابلان .. ويظل المعنى واحداً .. والحق أن التغيير وجيه جداً .. إذ راعى هنا ما يوافق الأمر بالمعروف (قرباً) ، وما يوافق النهى عن المنكر (اجتناباً) ، وفى الأولى فالمنصوبان المعطوفان لا شأن للمعروف بهما ، فإنما يخصان النهى عن المنكر.. وفى إجراء التعديل مراعاة للمعروف.. والمنكر ، كلّ بما يناسبه.
ومن المنطقى هنا أن تستند الدراسة فى معارضة فرغلى لشوقى على قصيدته الثانية (حنين الشوق) لا على (اشتياق) لأن الثانية فيه كل ما فى الأولى وزيادة ، ولأنها وحدها التى نصَّ الديوانُ بمتنه وهامشه على معارضة (سلوا قلبى) لشوقى ، إذ يقول فرغلى([13]) يخاطب النبى:
نظرتُ إليه فى أسمى علاه (فشوقى) فيه نازعنى الخِطابا وقال لقد مدحتُ نبى خُلْقٍ سبقتُ لمدحه وفتحت بابا وسلْ عنى (سلوا قلبى) فمن ذا يطاولنى بها يعلو قبابا فقلتُ له كمثلك رُمْتُ قُرباً (معارضة) وأزمعتُ الرِّكابا
وفرغلى حينما تعرى (اشتياق) عن هذا التصريح بالمعارضة.. مبدعٌ ذكىٌّ ، وربما كان ذلك ذكاءً من ابنه محققِ الديوان وموثقه.. حينما لم يُنَصّْ عَلى معارضة (اشتياق) لسلو قلبى.. بحيث بدت (اشتياق) كالبروفة.. أو المسودة ، أو المحاولة الأولية.. لقصيدة التحدِّى (حنين الشوق).
وعليه فستكون الموازنة فحسب بين معارضة شوقى فى (سلو قلبى) وبين معارضة فرغلى (حنين الشوق) وبخلاف الإطار الموسيقى بين نصى شوقى وفرغلى (الوافر ، وروى الباء الموصول بالألف فإنه يجمعها كذلك :
* الاتفاق على حب النبى وتقديره ، ليس فى هذين النصين ، بل فى نصوص أخرى يعمر بها ديوانا المبدعَيْن([14]).
* حاجة الأمة للنبى ، ومنهجه.
* التنقل بين أحداث الماضى ، ووقائع الحاضر ، فى محاولة للبحث عن حلول لأزمة الأمة الراهنة ، كلٌّ وفْقَ عصره ، وما أُتيح له من حرية ، وما كان له من رؤية وشجاعة.
وبين النصين فروقٌ أكثر ، لتباين الشاعرين ، فى المنحى الأسلوبى والرؤية ، وفيما يتعلق بالإطار الشكلى ، فقد توزعت أبيات شوقى على أربعة مقاطع؛ هى:
مقدمة غزلية (الأبيات من 1: 11)
مخاطر الدنيا (الزهد) (12: 28)
أدواء المجتمع "رؤية إصلاحية" (29: 54)
ذكرى المولد (مديح النبى) (55: 71)
أما "حنين الشوق" بأبياته المائتين والتسعين ، فقد كفانا صاحبه مهمة التقسيم ووضع لكل مقطعٍ عنواناً فرعيّاً ، فجاءت مقاطعه السبعةُ على النحو التالى:
فى مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) (1: 67)
معجزات النبى وعالم متناقض (68: 95)
متناقضات (96: 138)
عام الفيل (139: 195)
دعاء (196: 227)
قضية الحَجَرِ (228: 265)
توسُّلٌ (226: 290)
ومن الوجهة الشكلية ، فقد أحسن فرغلى ، حين صفَّى قصيدته تماماً للنبى ، دون أن يهمل الواقع والمجتمع وأدواءه.. لكنه عرض لذلك كله "قديماً وحديثاً" لعهد النبى ولعصرنا الحديث ، عبر حديث لا ينقطع عن النبى ورسالته ، وأمة الإسلام ، إن مديح شوقى لا يتجاوز الستة عشر بيتاً الأخيرة من نصه ، ويكاد لا يخرج عن نص فرغلى بيتٌ لا يتصل بمدح النبى إلا ما كان من استغراقه المحمود فى الحديث عن مأساة البوسنة وجرائم الصرب فيها ، وقد جاء ذلك غير مُقْحَمٍ على النص ، بل جاء بما يشبه تلقائية بارعة ، جمعت بين تكالب قبائل العرب على النبى قديماً ، وتداعى الأمم على المسلمين حديثاً.. وقد كان ذلك بمقطعى (متناقضات ، عام الفيل ) فالتوظيف ذكىٌّ.. محمود .. مقصود ، فما أشبه الليلة بالبارحة.
ويكفى أن نثبت هنا بعض أبيات ، لا تذكر الصرب إلا فى سياق تشبيهى ، طرفه الآخر فساد حال العرب القديم سياسياً واجتماعياً ، يقول فرغلى:
96 بعالمها تُرى متناقضاتٌ (كعالمنا) هنا يشكو انتحَابا 97 وما نلقاه من (صربٍ وغرب) تناسى (البوسنويَّةَ) واسترابا 146 كمثل الصربِ حالتُهم تماماً (بعرق الجاهلية) شقَّ غابا 159 .. كذا مثلُ ابتغاء الصربِ أرضاً وعِرضاَ مزَّقُوا عنه الثيابا 160 وما أدرى لذا سنداً وإلا فإن الصرب صاغوا الغدر دَابا
إن فرغلى لم ينشغل عن مدح النبى إلا بمدارسة أحوال المسلمين ، فى سعى حثيث للتأكيد على تشابه ما كان وما هو كائن.. فى المقدمات والنتائج ، فتحزب الأحزاب قديماً وحديثاً يستوجب وحدة الصف المؤمن ، والاحتشاد للمواجهة التى لن تكون نهايتها إلا بزوغَ الفجر والنصر.. وفرغلى إذاك لا يتحفَّظُ تحفظَ شوقى فى عرض فكرته ، إذ ليس متصلاً بالسلطة كما هو شأن شوقى.. يقول فرغلى بشأن الصرب:
161 وحُقَّتْ غَضبةٌ ُصَبتْ عليهم من الآفاق تخترقُ السحابا 162 وتلقى من سماوتها حِجارا أبابيل الردى ُصبت لهابا 163 ومثلُ بزوغ فجر نبىِّ قومٍ أرى فجراً حوى نوراً أهابا 164 أهاب بكلِّ مظلوم بأرضٍ بأن يلج الوغى يغشى العبابا
وتبدو شخصية فرغلى المبدعة منصفة.. تعى خصوصية موضوعها الشعرى ، وقدر نبيها.. أما إنصافه ، فلأنه أنصف شوقى من نفسه ، وأقر له بالأسبقية والتقدم ، ثم صرح بمشاركته الأميرَ حبَّ النبى الشفيق.. يقول:
23 فإن يَكُ سابقاً فى المدح قبلى أميرُ الشعر لى أبغى منابا 24 فما الشوقُ الذى أملى عليه هواه لم يكن عندى خِلابا 25 ولكن كان حبّاً من يقينى ومن بأس (يقينى) ذا عذابا
أما وعى فرغلى بخصوصية موضوعه ، فتجلى فى تخليصه نصه من أية صوارف عن المديح النبوى ، وقد بدا من المطلع ورديفه وضوحُ المقصد الإبداعى وتمحوره حول المديح لا غيره .. دون مقدمات تقليدية ، وهو يلمز بمقدمة شوقى الغزلية([15])، فما عشقه وهيامه إلا بالنبى.. يقول:
14 فإنى عاشقٌ لنبى نورٍ ولم أرَ غيرَ (مدحيه) مثابا 18 فما مدحى الجمالَ بحسن أنثَى أحبُّ إلىَّ من (هادٍ) طلابا 36 حبيبُ حبيبِ ربِّ الخلق أولى بحبى والهوى خلعا عِذابا
إن حب فرغلى منصرفٌ لا لأحدٍ إلا للنبىِّ ، فهو المملوء بحب النبى شوقاً وعشقاً.. يقول:
41 مُلئتُ بحبِّهِ شَوقاً وعشقاً أَأَكتمُهُ بأحشائى حِقابا
ولئن كان إخلاص فرغلى مدحته للنبى وما يتصل به.. دون صوارف تشغله عن ذلك.. وإن كانت من تقاليد إبداع المدحة ، بحيث تميزت مدحته عن (ذكرى المولد).. لئن كان ذلك الإخلاص واحداً من مزايا نص فرغلى ، فإنه يحسن قبل المضى فى بيان ما يميز النصين أن نشير إلى مواضع تماهى فيها نص فرغلى مع شوقى ، وكيف كان التعبيران.
يقول شوقى ، وعندى هو أروع ما بمدحته:
62 مدحتُ المالكين فزدتُ قدراً فحين مدحتكَ اقْتَدْتُ السحابا
يتماهى مع المعنى فرغلى ، فيحسن أيما إحسان ، دون مبالغة (اقتدت السحابا).. غير المُستملَحَة ، بل فى دقة تعبير ، تكشف عن إيمانٍ فطرىٍّ ، وضبط مشاعر ، وقدرة على الإمساك بزمام الأسلوب ، والتحكم بموضع الضرب.. يقول المبدع فرغلى:
30 شربتُ الحُبَّ من كأس التَّصابى وكدتُ بمدحِهِ أغْشَى السحابا
وفى مطلع مقطع المدح ، يقول شوقى
55 تجلَّى مولدُ الهادى ، وعَمَّتْ بشائرُهُ البوادىَ والقِصابا
وفيه عموميةُ تجلى بشائر مولد الهادى.. بلغةٍ تراثية لئن ناسبت مرحلة البعث والإحياء.. فما يُعرف مقصود القصاب إلا الأقلون.. يشير فرغلى إلى المعنى ذاته.. المستكن فى وعى الأمة الجمعى ، بلغة ملؤها عاطفة صادقة ، وإثبات لتفاعل الذات المبدعة مع الممدوح (صلى الله عليه وسلم) دون أن يهمل عمومية تجلى البشريات.. فيقول :
39 بمولده الهدى عمَّ البرايا وقد غطَّى الحنايا والشِّعَابا 40 وفاح شذاه من أرضٍ وروضٍ ومن إشراق قلبى كم أذابا؟
وتقديم "الجار والمجرور" بالأول يكشف عن خصوصية التجلى والعموم معاً ، أما المسند إليه (الهدى) فَبموقعه تنداح دلالته ، مدعومة بالفعل (عم) ، بالبرايا كلها .. أما العجز بالبيت فيقرر انسراب الهدْى النبوىِّ إلى الدواخل لا الخوارج.. إلى النفوس والإنسان فضلاً عن المكان.. يدعم هذا المعنى العجز الثانى. أما صدر فما أجمل تجانس الأرض والروض مع شذاه الفواح (صلى الله عليه وسلم).
وإذا ما تلبثنا لحينٍ أمام واحدٍ من أروع أبيات شوقى فى مدحته (ذكرى المولد) ، إذ يقول:
60 أبا الزهراء قد جاوزتُ قدرى بمدحك ، بيْدَ أن لىَ انتسابا
وبالصدر بعد النداء شيءٌ من مماحكة لفظية ، نراها عينَها عند فرغلى ، فما أدرى كيف يجاوز المحبُّ قدرَه حينما يمتدح حبيبه؟! وشوقى لا يرى شفيعاً له فى مديحه النبى إلا انتسابه إليه!! فى حين يبدو فرغلى – مع مماحكته التى وقع فيها أسير تعبير الأمير- منساب بقوة فكراً وعاطفة إلى نبى النور ، بحيث وهب شعره فى هوى النبى.
إن فرغلى ينتمى إلى النبى بكليته ؛ بالفكر والعاطفة.. والإبداع ، فجميعها يدفعه إليه (صلى الله عليه وسلم) وليس مجرد الانتساب.. يقول:
نبىَّ الهدى قد جاوزتُ قدرى وجزتُ حدودَ عاطفتى مآبا فمولدك المسارُ لدرب فكرى ومن درب الهدى سرتُ احتسابا ومدحى لم يكن منى احترافاً ولا ميلاً عن الحب انتساباً فإنى فى هواك وهبتُ شعرى وما أدرى لعاطفتى مثاباً
(2)
ومن أهم ما يميز فرغلى فى (حنين الشوق) الوعى بالتاريخ والواقع ، والتفاتاته الذكية الواعية إليهما ، وقد تأسس عن هذا الوعى ، تضفير فرغلى للماضى بالحاضر ، وضرورة بعث الأمل ، وبث روح المقاومة بالأمة المنتمية لنبى العدل والكرامة.
وفى حين ألمح شوقى لَماماً لبعض أحداث التاريخ المتصلة بمولده (صلى الله عليه وسلم) فى إشارات عَجلى ، لا تعدو ثقافة المسلم العادى ، فإن فرغلى ، وقد فرغ نفسه لمدح النبى قد أحسن توظيف التاريخ لينطلق منه إلى واقعٍ مُشابه ، تبشر مقدماته الصعبة بنهاية مشرقة..
يقول شوقى عن مولد المختار (صلى الله عليه وسلم):
56 وأسدتْ للبريَّةِ بنتُ وَهْبٍ يداً بيضاءَ ، طوَّقْتِ الرِّقابا 57 لقد وضعته وهاجاً منيراً كما تلد السماواتُ الشهابا
إنه مباشرة التجربة عن بعد.. وكأنه نظمُ التاريخ.. وقد أذهب وجاهة منصوبى الصدر الثانى كاملُ عجزه ، وفيه غياب لقدرة الله .. إذ تلد السماوات الشهابا ، ومع يقينى بحق المبدع فى حرية الاختيار والنظم فإن الأبيات مع ما يليها بالنص ، لا تكشف عن عاطفة حرَّى ولا عن إثبات لقدرة الله تعالى وفضله.. الأمر الذى لا ينبغى أن ننشغل عنه.. بالنبى .. وفى (حنين الشوق) تتجلى العاطفة الصادقة تجاه آمنة.. الطهورة.. ، وتتجلى قدرته سبحانه على عبد المطلب.. والبرية كلها ، يقول فرغلى:
55 وآمنةُ الطهورةُ بنتُ وهبٍ رأت نوراً تفتَّحَ أين جابا؟ 56 رأت نوراَ (ببصرى) ثم (كسرى) (مدائنه) "وغمدان" اقترابا 57 وأبصر جَدُّه شَبَهاً كبيراً بعبد الله والدِهِ اصطحابا 58 كأن اللهَ أبدله حفيداً مكان ابنٍ حناناً منه ثابا
أما حديث فرغلى عن معجزات ميلاده (صلى الله عليه وسلم) الأخرى ، ففيها ما يشبه النظم ، وربما صعب على أيِّ شاعرٍ أن يصبغها بذاته.. يقول فرغلى كاشفاً عن وعى بالتاريخ.. لكن فى أسلوب يعرى عن عاطفة بدت واضحة فى حديثه عن آمنة السابق.. يقول:
68 مواكبُ معجزاتٍ ليس تُـنسى تفوق مذاهب العقل انسيابا 69 (فنار القدس) قد خمدت لهيباً (وساوةُ) ماؤها فى الأرض غابا 70 (وماد) لدى (أنو شروان) صرحٌ وخرَّ (جبينه) يلقى الترابا 71 (وكُهَّانُ المعابد) فى ذهولٍ وحيرة مذهبٍ تأبى الذهابا 72 (وأصنام) منكسةٌ رؤوساً تحسُّ صداعَها أعيا الرقابا
أما وعى فرغلى بالواقع فمن أهم ما يميز إبداعه ، إذ ينشغل بقضايا الأمة.. لا القصر الحاكم.. وقد كان ابتعاد فرغلى عن ذهب السلطة وسيفها معواناً على التحرر من أيِّ قيدٍ إلا قيد الحقيقة والانحياز للحق ، وهو ما بدا فى موقفه الإسلامى الرجولى المنحاز إلى (البوسنة) فى صراعها المرِّ مع "الصرب" الذى لم يكن إلا عقدياً ، وإلا حرباً حاقدة على الإسلام.. يقول
105 وذنبُ (البوسنوية) ذنب أنثى لها (إسلامها) غشى نقابا 106 وقد جعلت كتاب الله شرعاً فأُجْبِرَتِ الفتاةُ ترى الكتابا 107 وقال لها بغاةُ الصرب (بولى) عليه وامسكى الكأس الشرابا 108 فلا خلقٌ ولا دينٌ قويم ولا شرعٌ تفئ له مُهابا 109 وسلبُ ثرى وعرضٍ دون ذنبٍ يثير تطلع الأمم ارتيابا 110 ولا (أمن) و (مجلسُ صون أمنٍ) (وهيئة دولة الأمم) استجابا 111 كَحالِ الجاهلية فى أساها وشكواها الشعوب غدت نهابا
إن المؤسسات الدولية وهيئة الأمم.. مشاركةٌ بسلبيتها فى مأساة البوسنة ، التاريخ يذكر هذا ، وسيذكر القائمين عليه بالعار.. إنها الجاهلية فى القرن العشرين ومن قبل إنها الجرأة والوفاء لأمة الحبيب (صلى الله عليه وسلم) من قِبَلِ فرغلى المبدع المنتمى ، الذى يرى استعادة الأمجاد مرهونة بالعودة إلى الإسلام (قرآناً وسنة).. يقول:
126 وأين يُرى الصوابُ بِدُجْنِ ليلٍ تنَمَّرت الذئابُ به اختلابا؟ 129 .. أليس هو الرجوع إلى كتاب وسنةِ مرسَلٍ حمل الكتابا؟
وفرغلى واثق تماماً من نهوض الأمة ، وعودتها إلى سابق عهدها رائدة تقود الأمم إلى طريق الهدى والخير.. يقول عن أمة الإسلام:
223 كأولِ عهدها ستعود تهدى إلى خيرٍ حوى الأمم اكتسابا
وحتى تعود الأمة عزيزة كريمة ، فإن فرغلى ينحاز إلى طريق المقاومة الشريفة التى تردُّ العدوان ، وتكف الطغيان ، وتحمى الأرض والعرض ، إنها المقاومة المشروعة باللسان والسنان على سواء.. يقول فى سياق حديثه عن جريمة الصرب ، يخاطب أهل البوسنة:
170 وردُّوا أرضَكم من كلِّ باغٍ عتا مُتَجَبِّراً نسيَ الحساباً 171 وذكُّوه بأسلحةٍ حدادٍ وألسنةٍ.. وردُّوه انسحابا 172 فإن الأرض عرضُ أخٍ وأخت وعرضُ أبٍ وأمٍّ قبلُ جابا
ولئن اتفق الشاعران ، المعارٍض (فرغلى) والمعارَض (شوقى) فى نصيهما على أهمية الأخلاق فى الحضارات ، فإن فرغلى زاد عن شوقى حسن توظيفه لأحداث السيرة النبوية وثيقة الصلة بواقع الأمة المعيشى ، وكأنه ما ركز على حدث بعينه إلا وعينُه على واقع الأمة يستلهم من الحدث العبرة والدواء الشافى للداء ، أما حادث محاولة هدم الكعبة من أبرهة واستخدام الفيل لذلك.. فيما عُرف العامُ معه بعام الفيل (عام ميلاده (صلى الله عليه وسلم)).. إن أبرهة حاول بفعلته هدم بنيان العرب الاقتصادى ، عبر هجوم باعثه دينىٌّ اقتصادىٌّ بالمقام الأول.. الأمر الذى بدا معه العربُ قليلى الحيلة ، إذ جهز الأحباشُ ما ليس للعرب قِبَلٌ بحربه.. جيوش نظامية ، عُدَدها غريبة مدمرة.. ومن ثم تسرب إليهم العجز ، فألقوا سلاحهم.. تماماً كحالة الأمة فى العصر الحديث أيام فرغلى التى لمَّا تفرغ بعد.. إن وهمَ العجز الإسلامى العربى ، داءٌ يجب أن يُسَلَّ من تركيبة النفس العربية المسلمة.. عن هذا الوهم يقول فرغلى:
142 وأبرهةٌ يحاول هدمَ بيت أعدَّ لغزوه بحراً عُبابا 143 فإذ هوَ فى الورى أضحى مثالاً لعقبى البغيِ إذ بالخزى ثابا 144 فما هذا الذى يخشون منه سوى الأوهام غرَّتْهم سرابا
أما حاجة البشرية عامة ، والمسلمين خاصة إلى روح التسامح فيما بينهم بسببٍ خلافات مذهبية أو جغرافية فماسَّةٌ ومُلِحَّةٌ.. وربما من أجل تنوير هذه النقطة ، استدعى فرغلى فى مدحته (قضية الحجر).. وفيما تجلت مهارته (صلى الله عليه وسلم) فى صنع التوافق المنصف الاختيارى الإنسانى فى روحه وطابعه.. حين أشرك الجميعَ فى نقل الحجر الأسود ، إنه التوافق المفقود فى دنيانا.. والمطلوب بشدة للنجاة.. يثنى فرغلى على الرسول (محمد) والرسالة (الإسلام) فيقول:
225 ألم يكُ عَلَّمَ الخلقَ التآخى طوى عن عالم الدنيا اكتئابا 226 فلو هُمْ حكَّمُوه بها لحَلُّوا قضايا الخلق ما اشتجرت حِرابا 227 ولو وافيتَ بين الخلق عودا لعالم يومنا قدتَ الرِّكابا 228 حسمتَ قضية الحجر ائتلافا لإيلاف القلوب دنت رقابا
إن حسن التصرف فيما يعرض للمرء سمةٌ إسلامية صرفة .. علمهم إياها النبىُّ (صلى الله عليه وسلم) الأمر الذى يلقى باللائمة على كل متعصب يتبع نهج الإقصاء والاستبعاد.. ويفتح المجال واسعاً سعة رحمة الله لِلَمِّ الشمل والتوافق.
إن شوقى شاد صرحاً للعلم والأخلاق فى مدحته مع إشارة خاطفة للبعد الإيمانى (الأبيات 18: 20) وقد شاد إلى هذا الصرح الحضارىَّ فرغلى فى مدحته صرحاً إيمانياً قوامه الجهاد وامتلاك القوة.. ذاك حين نبَّه لفضل الصحابة (عرى نص شوقى عن إشارة لهم أو إشادة بهم) فقال:
231 وصحبكَ فى حياتك هُمْ نجومٌ بأيِّهم اقتدى امرؤهم أصابا 235 بهم قد عزَّ دينُ الله شرقاً وغرباً فى كتائبه ارتحابا 238 وما لجأوا إلى حربٍ عَوان سوى للفتح قد خفُّوا وثابا 244 وقد فتحوا المدائن لا لغزو يذلُّ الخلقَ بل يُعلى الرقابا
إنه حديث المنتمى المحب.. الواعى بشبهات الآخر تجاه الأمة ، والحريص على دحض الشبهات ، وتصحيح المفاهيم.
إن أبيات شوقى المادحة الستة عشر لم تسعفه على حضور ذاته فى مناجاته النبى ، فلم يطلب لنفسه شيئاً من شفاعة أو قرب.. فحسب طلب شوقى لأبناء دينه أن يرفع الله ما بهم من ضرٍّ – ما زال جاثماً بالأمة! – أما فرغلى فقد جمع بين الحسنيين حين ضرع إلى الله تعالى أن يقربه من نبيه (صلى الله عليه وسلم) وأن يغفر ذنوبه.. يناجى الله فيقول:
262 سألتكَ حلَّ مشكلةٍ تعاصى علىَّ ولوجُها عظمتْ صعابا 263 تؤرقنى وتملأ كل وقتى ولم أر برقَها إلا خِلابا 264 فهبْ لى من رسول الله قرباً بما قدمتُ من شعرى حِلابا 265 وإن كانت ذنوبى قد ترامتْ فعندك أبتغى الحسنى منابا([16])
ثم هو يسأل لأمته النصر والتمكين والوحدة.. أهم ما تطلبه المرحلةُ.. يقول تحت (توسل) بمدحته الملحمية:
268 وبلغ أمة الإسلام قصداً وجمع شملها منك اقترابا 269 وألهمنا الرجوع إلى صواب لتبلغ من مساعيها الصوابا 270 فإنا أمة بك مبتغاها ومنك النصر نبغيه مجابا 272 وجنبنا التفرق والتلاحى إذا داعى الوئام بنا أهابا
إن (حنين الشوق) مدحةٌ نبويةٌ من أجمل عيون الشعر الحديث ، فيها العاطفة والصدق والأسلوب والتحدى الذى فاق فيه فرغلى شوقيّاً فى كثير من الأحيان رؤية ورؤيا. لقد بدا فرغلى كالنائحة الثكلى من هموم أمته لا كالمستأجرة ، وبدا منحازاً لدينه وأمته غير وَجِلٍ من سلطان يرهبه أو أموالٍ ترغِّبُهُ ، ولا يعيب نصه بحال ما بدا تكريراً لحدث واحد (حادث الفيل) فى موضعين متباعدين فى نصه ؛ إذ ذكره فى البيتين (61 ، 62) فى سياق معجزات الميلاد ، ثم فى (141: 143) فى سياق الحديث عن عام الفيل.. ولا حرج فى ذلك.. خاصة أنها قطعت لنا شكاً بيقين أن المدحة نُظمت على فتراتٍ متباعدة زمنيّاً ، إذ عرض لحادثين معاصرين متباعدين هما (حرب البوسنة فى أبياته من 105: 108) وحرب الخليج الأولى "ببيته 274"
ومع ذلك ، فالقصيدة عارية تماماً من أية مسحة تفكك ، وهى متماسكة لحرارة عاطفة المبدع ، وتركيزها نحو مقصدها المدحى من مطلعها إلى مقطعها ، ولوضوع رؤية مبدعها ، ورغبته فى مسامتة الأمير ، وقد نجح فرغلى أيما نجاح فى مدحته التى استثمر فيها تقنياتٍ أسلوبيةً هى هى عين ما يميز الأمير ، فاتكأ على الموسيقى ، موسيقى اللفظ خاصة ، وعلى التنصيص ، ومن حسن توظيفه موسيقى البنى الصرفية ما جاء فى أقواله:
39 بمولده الهدى عم البرايا وقد غطى الحنايا والشعابا 91 وما من (راهم) يصغى (لباكٍ) ولا (شاكٍ) يقاسمه المُصابا 115 ولكن أنفسٌ حيرى ومَرضى (بداء الحقد) قد عميت شهابا
وقد يكون التوازن الصرفى لموسيقى الكلمة (رأسيّاً) كما بين (حلابا ، خلابا فى بيتيه 264 ، 264) وقد يشيع صوت بعينه فى بيت ما كصوت (الهاء) الجوفى الصعب ، فتتجسد دلالة أكثر الألفاظ احتواءً للصوت.. ويشيع المعنى المقصور بارزاً كما بقوله :
93 وأهواءٌ تسير على هواها تهيم بجاهليتها انتسابا
فهوى الجاهلية وأهواؤها هو ما يتمثل بارزاً للمتلقي .
وقد يستخدم فرغلى التقسيم ، فيطرب المتلقى لوضوح الدلالة كما فى قوله:
195 لكم دين / وللأعداء فُجْرٌ ومن فجروا / سقوا بالفجر صابا
أما التناص ، فقد استلهم فرغلى مصادره من القرآن والتاريخ ومن الشعر ، ومن تنصيصه القرآنى قوله:
173 وما للصرب منها من نقير ولا القطمير ، فلتثبوا اتِّشَابا([17])
ومن تنصيصه الواعى للتاريخ ، قوله حاكيّاً عن تحالف قوى البغى على الأمة:
94 يقول أنا (ابن قيسٍ) وابن عبس و(كلبٍ) ثم (تَيْسٌ) يل نانا 95 وزهو (للمغيرة) فى بنيه و(شيبة) ثم (عتبة) قد تصابى
إنها رموز الجاهلية والعدوان .
وقد نصَّص فرغلى "لطابع المعارضة" من شعر شوقى كما فى قوله:
168 وقيل لأهله السكرى أفيقوا وللحيرى (خذوا الدنيا غلابا)
وبعد فليس الإبداعُ حكراً على المشهورين.. ولربما حوت الأقاليم من المبدعين جذورَ ذهبٍ ، يعوزها فحسب نفضُ ترابِ الإهمال (الدرس) ، من هؤلاء بجدارة الشاعرُ المرحوم عبدالمجيد فرغلى.. فى رحاب الأخفياء الأتقياء من المبدعين بحقٍّ.
([1]) يراجع فى تلك القصائد الأربع:
ديوان: دموع تائب: عبد المجيد فرغلى ، تحقيق وتوثيق عماد الدين عبد المجيد 200 ، 204 ، 43 ، 209 "على الترتيب" الهيئة المصرية العامة للكتاب 2013.
([2]) تراجع فى: دموع تائب 274.
([3]) تراجع فى: دموع تائب 106.
([4]) تراجع بالشوقيات (الأعمال الكاملة) أحمد شوقى ، تقديم الدكتور محمد عبد المطلب 1 /68، المجلس الأعلى للثقافة بمصر 2007.
([5]) العين ، الخليل بن أحمد ، 1/271 ، تحقيق دكتور مهدى المخزومى ، دكتور إبراهيم السامرائى ، منشورات وزارة الثقافة والإعلام بالعراق ، سلسلة المعاجم والفهارس(16) طبع مطابع الرسالة بالكويت ، نشر دار الرشيد بالعراق 1980.
([6]) تاريخ النقائض فى الشعر العربى ، أحمد الشايب 7، مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة ، الطبعة الثالثة 1966. والمعارضة أيضاً هى:
"أن يحاكى الأديبُ فى أثره الأدبى أثرَ أديب آخر محاكاةً دقيقة تدلُّ على براعته ومهارته"
يراجع فى ذلك: معجم المصطلحات العربية فى اللغة والأدب ، مجدى وهبة وكامل المهندس 203 ، لبنان 1939.
وهى كذلك: "أن ينظم شاعرٌ قصيدة فى موضوع معين على غرار قصيدة أخرى ، قالها شاعر تقدَّم عليه فى الزمن ، ملتزماً الوزن والقافية وحركة الروى ، فضلاً عن المضمون بالمتابعة والاحتذاء مجارياً ذلك الشاعر محاولاً بلوغَ شأوه ثم محاولاً التفوق والإبداع ، وهذا الضرب يمثل المعارضة التامة"
يراجع فى ذلك: المعارضات فى الشعر الأندلسى دراسة نقدية موازنة ، يونس طركى سلَّوم البجَّارى 232 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، الطبقة الأولى 2008.
ويراجع فى اصطلاح المعارضة أيضاً: معارضات قصائد ابن زيدون ، الدكتور عدنان محمد غزال 5 ، مؤسسة البابطين.. للإبداع الشعرى بالكويت 2004.
، الأسلوب والأسلوبية فى المعارضات ، إنعام بنكه ساز ، مجلة التراث الأدبى ، السنة الأولى ، العدد الرابع ، صفحة 43.
([7]) يراجع/ المعارضات فى الشعر الأندلسى 63.
([8]) الشوقيات 1/68.
([9]) تراجع القصيدتان فى دموع تائب 120 / 106 على الترتيب.
([10])الإسلام فى شعر شوقى ، الدكتور أحمد الحوفى 85 ، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر ، لجنة التعريف بالإسلام ، والمقدمة مؤرخة فى نوفمبر 1972.
([11]) الأولى فى هذا السياق دوماً هى قصيدة (اشتياق) والثانية : (حنين الشوق).
([12]) يراجع فى تكرير أبيات من (اشتياق) فى (حنين الشوق) ما جاء بالثانية فى الأبيات السبع المتتابعة (266: 272) تحت عنوان (توسل) وفيها:
رجعتُ إليك فى أثوابِ ذلِّى فهبِ العزَّ إن رُمتَ الإِيابا رجعتُ بأدمعى وتوسُّلاتى بحقِّكَ لا تُخيب لى طِلابا وبلِّغْ أمةَ الإسلام قَصداً وجمِّعْ شملَها منك اقترابا وأَلْهِمْنَا الرجوعَ إلى صوابٍ لتبلغ من مساعيها الصوابا فإنَّا أمةٌ بك مبتغاها ومنك النصر نبغيه مُجابا فلا تنصرْ أعادينا علينا إذا انقلبوا لأمتنا ذئابا وجَنِّبْنَا التفرقَ والتلاحى إذا داعى الوئام بنا أهابا
إن أكثر التغييرات بالمواضع المظللة تقع بالعجز.. الأمر الذى يتفق مع تعميق المعارضة، وتطويلها الكمى خاصة ، إذ يستند المبدع للفكرة الرئيسة ويمثلها الصدر ، ثم يحاول التطوير ولا يكون إلا بالعجز هنا.. تدقيقاً للمعنى ، وتوفيقاً له مع سياق مجتمعى.. سياسى مُستجدٍّ.. فمن الواضح أن سياق الأولى كان الواقع فيه عنيفاً من ناحية الآخر (1990) حرب الخليج الأولى وفى الأولى بنهاية عجز الثالث : (وامحُ العذابا) بدلاً من (منك اقترابا) بالثانية.. فالحرب إذاك مستعرةٌ.. همجية .. ثأرية.. ماكرة.. الأمر الذى يدعمه فى البيت السادس استبدال (انقلبوا) بـ(مكروا) والانقلاب كاشف عن الغدر.. والنفاق.. والتلوث.. والمفاجأة ، وفيه ما يدل على مكروا.. ويتصل بذلك ما غيَّره الشاعرُ فى الأخير مستبدلاً (داعى الوئام) بـ(داعى الجهاد) إذ صار التحام البنية القومية فى (1993) أولى من نفير الجهاد ضد الغزاة فى (1990).
والتغييرات كاشفة عن جديد.. وعن مبدع يتجاوز بحق اجترار ما قال إلى متابعة اللحظة ؛ فشعر فرغلى من هذه الزاوية كاشف عن مبدعٍ مهموم متابع لأحداث الأمة.. مشغولٍ بها.. فاعل فيها.. بإبداعه وروحه.
([13]) بهاش (دموع تائب) صفحة 106. تعليقاً على قصيدة (حنين الشوق) أنها قيلت فى: 9/4/1993 معارضة شعرية لقصيدة (سلو قلبى) لأمير الشعراء أحمد شوقى.
([14]) مدح شوقى النبىَّ فى أكثر من خمسة مواضع ، هى نهج البردة ، ذكرى المولد (به سحر يُتيِّمُهُ كلا جفنيك يعلمه) الهمزية النبوية (وُلِدَ الهدى..) وأرجوزة دول العرب وعظماء الإسلام؛ تراجع الشوقيات 1/199،
([15])عاب الدكتور أحمد الحوفى على شوقى مقدمته الغزلية فى "نهج البردة" فقال:
" أما بدؤها بالغزل فـ.. قد كان الأجدر به أن يتحرر من ذلك القيد القديم ، وأن يتسامى بمدحه لرسول الله عن بدئه بالغزل.. فمقام الرسول أسمى وأجلُّ من أن يُتخذ الغزل مقدمةً لمدحه" يراجع: الإسلام فى شعر شوقى 84.
([16])يراجع أيضاً فى أمنيات فرغلى الذاتية بمدحته قوله:
282 وهذا فى رسول الله مدحى به شوقُ الحنين سرى مذابا 283 وبلغنى زيارتَهُ إلهى فإنى قد وددتُ له انتسابا 286 فلى فى بيت ربى أمنياتٌ وما أملى لدى ذى الفضل خابا 287 زيارة بيته أملٌ وحبٌّ لعل الله للأمل استجابا
([17]) يراجع أيضاً تنصيصه للقرآن فى
232 كزرع كان أخرج منه شطئا وعانق دوحه الأعلى هضابا
وسوم: العدد 646