محبرة الخليقة (54)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً .

يا أيّتها العَتمة:

عتمة التساؤلات المميتة

-----------------------

(                   يا

                    أيّتها العتمةُ ، ليتَ سوادكِ بعدَ

           الفلكِ الذهبيِّ

                    الأزرقْ

                    بحرٌ ،

                          وأنا ملّاحٌ ، لا أملكُ إلّا

           المجداف ، وهذي الريحَ المرخيّةَ ، والإنسانَ

           الأخضرَ ،

                    والزورقْ ،

                    والشوقَ الراحلَ

                    نحو المُطلقْ )

هذا القسم : "يا ايّتها العتمة" ، هو قسم الفزع الأكبر ، فالشاعر يهرع مرعوباً تسحق ذاته سلسلة من التساؤلات المتلاحقة التي تمزّق روحه . وكلّها أسئلة بلا جواب ، وهو يعرفُ أنها محاولة بلا رجاء ، فهي تساؤلات أبديّة لم تحصل على إجابات مقنعة حتى يومنا هذا ، طبعاً هناك الكثير من الإجابات العلمية على تساؤلات الشاعر لكنها لا تقنعه لأنها ليست من "جنس" دوافع سؤاله ، وتأتي من حاضنة عقلية وذهنية غير التي نضجت تلك التساؤلات في أحضانها عنده :

(                   ما

                    هذي العتمة ؟ ما فيها ؟ ما هذا

         الأسودُ ، واللامتناهي ؟

                    ما يُدعى

                    قمراً ، ونجوماً ، وكواكبَ ؟

                                                  أينَ الجنةُ ؟

         أينّ جحيمُ اللهِ ؟ - ص 1423 و1424) .

والنصّ عبارة عن قصيدة طويلة في ستٍّ وستين صفحة (1423 – 1489) ، تتكوّن من ثمانية وعشرين مقطعاً ، تبدأ بالتساؤلات المفتوحة وتستمر بالتساؤلات المفتوحة في عشرين مقطعاً ، لتنتهي في المقطع الحادي والعشرين وهو الأخير بـ "لازمة" أعادها ثلاث مرّات في مواضع مختلفة (نهاية المقطعين الأول والثالث عشر ، والمقطع الحادي والعشرين) ، وهي لازمة "تغلق" القصيدة على دائرة اندهاشتها العاجزة ، فهي عودة للتمنّي المستحيل الذي يعكس في عمقه عجز الشاعر واستسلامه :

(                   يا

                    أيّتها العتمةُ ، ليتَ سوادكِ بعدَ

           الفلكِ الذهبيِّ

                    الأزرقْ

                    بحرٌ ،

                          وأنا ملّاحٌ ، لا أملكُ إلّا

           المجداف ، وهذي الريحَ المرخيّةَ ، والإنسانَ

           الأخضرَ ،

                    والزورقْ ،

                    والشوقَ الراحلَ

                    نحو المُطلقْ – ص 1489) .

وهنا تتفاقم موجات التمزّقات ولهيب الإحباط التي عانى منها طوال رحلتنا الحارقة السابقة . ويزداد موقف الشاعر إشكالاً وتعقيداً وعذاباً حين يتساءل عن كلّ شيء . وتتسع دائرة أسئلته لتعكس ظلمات عالمه الداخلي المفزعة ، وشدّة قلقه الذي يربك حتى أولوياته العقلية في تسلسل أسرار الكون التي يتساءل عنها . فهو يتساءل عن العتمة الكونية وما فيها .. عن الأضواء التي تلتمع في عمقها .. النجم ونور الشمس والليل والأرض والثقب الأسود وعن الزمن .. وعن بدء الكون ونهايته .. كلّ شيء كلّ شيء .. والأهم عن الله . وهنا يتعدى الحدود التي رسمها الناقد الأكبر لنفسه ، ويفوقه بمراحل في النقد التعرّضي . أين هو الله ؟ .. و :

(                 هل خالقُ هذا الكونِ هو اللهُ ؟ (...)

                  وهلْ أوجدنيْ اللهُ ،

                  أمْ أنّيْ أوجدتُ اللهَ ؟

                  وهل هذا الكونُ به نقصٌ ليكونَ

هناكَ وجودٌ للخالقِ ، أم أنّ الكونَ هو الخالقُ

كليّتَهُ من غيرِ حدودٍ ، حيثُ يصيرُ اللامتناهيْ مِنْ

أبديّتهِ ،

ومداهْ ،

شكّاً

بوجودِ اللهْ ؟ - ص 1428 و1430) .  

وفي دوّامة هذه التساؤلات التي لا تبقي شيئا إلّا واستفهمت بإلحاح عن سرّه وماهيّته ومصيره ، يصبح حال الشاعر كحال الإنسان البدائي في نقطة صفر وجوده حيث كان ما نراه ظواهر طبيعية الآن في الكون والطبيعة مهما كان بسيطاً ، كان ألغازاً لا يستطيع إدراك كنهها ، وتحاصره من كل جانب ، وكلّها كانت مرعبة بالنسبة له ويجب عليه أن يتوقّى منها بالسلوك التقرّبي الخائف أو المذعور أحياناً . حتّى الدودة التي تنخر السن كانت لها أسطورة وتقرّب في سومر . ولكن أهمّ ما كان يخيف الإنسان الأول هو "العتمة" ممثلة بالليل . ففي الظلمة وهدوئها المتوجّس العميق ، تنشط ظلمة أعماق الإنسان في الداخل لتلتحم بظلمة الخارج . ولهذا تغيّر كل وجود الإنسان مع اكتشاف أو اختراع النار ، ولهذا تهدأ روح الإنسان مع نور الشمس ، ويمتنّ كثيراً لبزوغ الإله القمر :

(                     أنظرُ في أسودِ هذا الليلِ ،

         هنالكَ تسكنُ اشباحٌ . يسكنُ ماضي هذا

         الكونِ ، هنالكَ عتمٌ تعتقدُ العينُ بأنّ

         به كوناً

                      مهجورْ ،

                      ممتلئاً ليلاً ،

                      وقبورْ . – ص 1426) .

وحتى في المقاطع التي لا تطغى عليها صيغة التساؤلات المباشرة مثل المقاطع : الخامس والسابع والثامن والتاسع على سبيل المثال ، فهي تثير تساؤلات القاريء بصورة غير مباشرة عبر إعجازية الظواهر الطبيعية التي تتناولها ، واستتارها على أسرارها منذ فجر الخليقة ، والتي يستطيع العلم ان يجيب على "كيف" .. ها ، ولكنه لم ولن يجيب على "لماذا" .. ها .

 في المقطع السابع يصوّر الشاعر تحوّلات فصل الخريف الإكتئابية من خلال إحيائها ، وتجسيدها ِ ، وأنسنتها وشخصنتها ، وهي تحوّلات الموت التي يضفي عليها الشاعر جمالاً حركيّاً يعكس حركة "روحها" السائرة نحو الفناء ، حيث سيبتلعها حوت الزمان ، ونحن معها ، ومن ورائها ، نلاحق المشهد في مرآة الخريف ، لنرى كيف يتحوّل جسد الطبيعة شيئا فشيئا ويذبل ، ليصبح عظام رفاتٍ ، فتثور في نفوسنا ونفس الشاعر الـ "لماذا" المدويّة ولو لم يعلنها . في الخريف ، تنزلق الحياة بقسوة نحو "العتمة" :

(                      في ايّام خريف الأرضِ تلوحُ

   غماماتٌ تلمعُ مثلَ اللؤلؤِ . تمتصُّ من الألوانِ شراباً

   قزحيّاً . تبدو سجّاداً من ورقٍ لا أخضرَ فيه . تشعُّ .

   وتصفوْ . تصبحُ مرآةً ملأى بكآباتٍ ، ووداعٍ ، وخيالاتِ

   رحيلٍ . لكأنّ خريفَ الأرضِ يرى قبلَ الموتِ عظامَ

   رفاتهْ .

   في مرآتهْ . – ص 1446) .

وقبل أيّام قرأتُ خبراً علمياً مفاده أن مجموعة من العلماء الفرنسيين على وشك تحديد صوت الشجرة حين تعطش .. فكم تأخر العلم عن الشعر ؟ كم تحدّث جوزف حرب مع الأشجار ، واشتكى لها واشتكت له ؟ كم مرّة سمعها تئنُّ .. وتبكي .. وتضحك .. وترقص . وسيستطيع العلم تحديد "كيف" تئن الأشجار من العطش ، ولكنّه لن يستطيع تحديد "لماذا" تئنّ وهي "شيء" لا إنسان ، لأنّ هذا يدخله في "ميتافيزيقا إحيائية" خاصّة بعيدة حتى عن الفلسفة ، وعندها يدخل في مختبر الشاعر .

وفي المقطع السابق أيضاً ، بل في كلّ نصوصه ، يصبح "اللون" لدى الشاعر  - كما قلنا سابقاً – هو الشيء نفسه ، هويّته وماهيّته ، ليس في كينونته حسب ، بل في صيرورته . فتحولات خريف الطبيعة التي مدّها الشاعر لتشمل الحياة بدأت بغماماتٍ "بيض" تلمع مثل اللؤلؤ ، امتصّت من جسم "الألوان" أو نبعها شراباً قزحيّاً ، شربت وامتدّت سجّاداً أجرد لا "أخضر" فيه . وحين لا يحضرُ الأخضر في عرف الشاعر فإن الوجود تحتلّه الألوان الأخرى المعبّرة عن الجفاف واليباس والتفكّك . ثم تشعّ روح الجفاف .. روح المرآة فتكشط وجه الطبيعة بمخالبها القاسية لتظهر مرآة اللالون وهو مركّب ألوان الفناء .

وتتجلّى فلسفة الشاعر اللونيّة هذه في المقطعين الثاني والثالث ، حيث يتساءل في المقطع الثاني عن سرّ هذا "الرسّام" الساكن في كلّ الاشياء :

(                    من وهجِ سراجِ الليلِ ،

                     وهذي الألفِ المرسومة في قامةِ

                     رقصِ العشبة ،

                                حتى

                              الماء .

                     يا

                     للألوان السبعةِ ! يا للألوانِ المتناهيةِ

    الذوبانِ ! تروّى ،

                     تتساقى ،

                     تتمازجُ ،

                              تجري ، تتحوّلُ ، تصفو ، تصنعها

الرؤيةُ .. – ص 1433 و1434) .

وهذا مفتاح تلك الفلسفة ، فاللون بالنسبة له تصنعه الرؤية لا الطبيعة .. والرؤية في روح الشاعر لا في مادّة الطبيعة أو في الفرشاة . وأقرب الأمثلة وأنصعها على هذا الموقف يقوم الشاعر بضربها من خلال سلسلة من اللوحات التي رسما بألوان الكلمات وبعضها يصل مستوىً معجزاً من الخلق اللوني والدقّة التعبيرية :

(                    كيفَ يصيرُ لرأسِ امرأةٍ في منديلٍ

       أبيضَ أن يصبحَ أوسعَ من كتفيها في الليلِ ، إذا

       ارتدتِ الأسودَ ؟

                     كيفَ إذا ارتدتِ الأبيضَ في حقلٍ ،

       يصبحُ تفتيحاً رمليّاً من ناحية الشمسِ ، وتفتيحاً أزرقَ

       معْ طيّاتٍ خضرٍ حيثُ يكونُ العشبُ ؟

                     ومن أينَ يجيءُ الياقوتُ

                     إلى أطراف الغيمةِ ؟ !

                                               كيفّ تصيرُ

       الغيمةُ تحتَ الشمسِ كبيتٍ من سقفٍ أبيضَ ،

       ملقيٍّ في الريحِ على غرفٍ غامقةِ اللونِ ؟ - ص 1434 و1425) .

ولا أستطيع إلّا أن أستمر في إمتاع السيّد القاريء وإمتاع نفسي ، ومؤانسة أرواحنا "التكنولوجية" التي تلهث تحت سياط الرزق السوداء إلى حدّ أن كثيرين منّا لم تعد لديهم فرصة لمشاهدة لوحات هذين الرسّامين العظيمين ، الرسّام الأكبر الساكنُ في كلّ الاشياء .. هذا الرسّام الذي يشتغل ليل نهار ومنذ فجر الخليقة ، بتواضع وهدوء وحرص حتى أنّ الشاعر لا يريد ذكر اسمه الحقيقي ، أمّا العلماء فصاروا يعتقدون أنهم هم من يرسمون طبيعة جديدة بألوان العلم وأصباغه ، أمّا الفلاسفة فإنهم يعتبرون الطبيعة ورسّامها  "أغياراً" قد يكافح الإنسان ضدّهم أحياناً . الشاعر – الرسّام الكوني الأصغر  - فقط ، والذي لا يريد ذكر اسم الرسّام العظيم المتواضع ، هو الذي يُخرج هذه الأعمال إلى الضوء ليضعها أمام أعيننا الكليلة بسبب "عتمة" اقبية الإنترنت ، بعد أن يعيد رسمها أحياناً بريشة الكلمات محكومة برؤيا محبرته التي تسع الكون ، ولا ينضب مدادها بل يتجدّد . والشاعر الرسّام مثل الرسام الأعظم فنّه مشاع ، ومعرضه يجري في الهواء الطلق . في النور لا في "العتمة" . فدعونا نمضي مع هذه اللوحات المذهلة التي يمكن أن يُحفظ بعضها في أرقى المتاحف التشكيلية في صالة الرسم بالكلمات :

(                      ما هذا الأخضرُ في جريِ الشلّالِ

   على صخرٍ يغدو ذا لونٍ أحمرَ ؟

                                        كيفَ يمورُ بلونٍ

   أزرقَ وجهُ بحيراتِ الأرضِ إذا ما امتصَّ من

   الطيفِ اللونَ البحريَّ مع

                  الليمونيِّ ؟

                        وهلْ أنّ رطوبةَ ما بعدَ غيابِ

   الشمسِ توشّحُ هذي الأرضَ بألوانٍ يسكنها السحريُّ

   الغامضُ حتى تغدو الأشجارُ عقيقاً هنديّاً في

   صندوقٍ اسودْ ؟

                        لونٌ كبقيّةِ ألوانِ الضوءِ

                        هو الظلُّ ،

                        ولا يدخلهُ أيُّ سوادٍ .

                        والرملُ بساطُ بنفسجَ حقلٍ ، يجعلهُ

   النورُ مدىً من صبحٍ ذهبيٍّ .

                                    ما هذي المملكةُ

   الملأى توشيةً بفتيتِ اللؤلؤِ ، حين تطلُّ الشمسُ على

   الأرضِ بُعيدَ المطرِ النازلِ من سوقِ

                                    الفضّةِ

                                             في

                                                مدنِ

                                                     الغيمِ ؟ (...)

                        منْ يجعلْ هذي السحبَ الشفّافةَ ،

   والمرميّةَ في أعلى الأفقِ كأنْ بجعٌ منْ ذهبٍ

   رمّانيٍّ يسبحُ في هجرتهِ فوقَ بحيراتِ غمامٍ

                                            نيليْ ؟ -  ص 1435 – 1437) . 

وسوم: العدد 648