محبرة الخليقة (60)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً

وهكذا يستمر هذا الصراع الحامي (والذي سوف يصبح دامياً حين يصبح المال هو الله كما سيبيّن الشاعر) في صورة حوارٍ بين النعم واللا  ، بين الأنا / الإنسان الحائر ، والأنت / الله المتجبّر . فحين ينطلق صوت الأنا في صورة رمزي جلجامش وبرومثيوس على سبيل المثال ، يردّ عليه صوت "الأنت" أو ممثله ، بتذكيره بأن الله هو الذي قد خلق الأكوان ، وما الأنا سوى مخلوق بائس محكوم عليه بأن يمتد متوتراً كخيط بين لحظة ميلاد ولحظة موت لا يعرف متى وأين وكيف سوف يمتد مقص الله ليقطع هذا الخيط . (أنتَ قد تعرفُ لكن أنتَ لا تخلقُ) (ص 1525) هذا يجعل الإنسان في موضع المسخ نصف إلوهة (حياة) يعرف ، ونصف إنسان (موت) لا يخلق (لنسمّها من الآن "محنة جلجامش") ،  ويوصيه الصوت أن لا يدخل غير الأبواب التي يفتحها الكهّان فهم الذين (أوكلت إلى سواد ديرهم معرفة الأبيضِ من أسرار روحِ الله) (ص 1526) .

وهذا الردّ يذكّرك فوراً بجوانب من الردّ الشهير الذي قدّمته صاحبة الحانة "سيدوري" ، ولاحظ روعة اسمها الشاعري فهو يعني "الشباب الدائم" . لقد قال لها جلجامش وهو يبرّر لها مظهره الأشعث ووجهه الذابل والغم الذي يكلل محيّاه :

(  أفزعني الموت حتى همتُ في الصحارى

   إنّ النازلة التي حلّت بصاحبي تقضُّ مضجعي

   آه، لقد غدا صاحبي الذي أحببتُ تراباً وأنا ،

   ساضطجع مثله فلا أقوم أبد الآبدين

   فيا صاحبة الحانة ، وأنا أنظر إلى وجهكِ

   أيكونُ في وسعي

ألّا أرى الموتَ الذي أخشاهُ وأرهبه ؟ ) (107).

فقدّمت له سيدوري وصفة الجواب الشهير الذي رحل في حضارات البشر شرقاً وغربا :

(  إلى أين تسعى يا جلجامش ؟

   إن الحياة التي تبغي لن تجد

   حينما خلقت الآلهة العظام البشر

   قدّرت الموت على البشرية

   واستأثرت هي بالحياة

   أمّا أنت يا جلجامش ، فليكنْ كرشك مليئا على الدوام

   وكنْ فرحاً مبتهجاً نهار مساء

   أقمِ الأفراح في كل يوم من أيامك

   وارقص والعب مساء نهار

   واجعل ثيابك نظيفة زاهية

   واغسل رأسك واستحم في الماء

   ودلّل الصغير الذي يمسك بيدك

   وأفرحْ الزوجة التي بين أحضانك

   وهذا هو نصيب البشرية) (108).

وهذا طرح فلسفي عميق ، يصلح لكل العصور والمجتمعات . فهل هناك خلاص من عبثية الموت ، عبثية الموت كقدر لكل الناس ؟ لقد أجابت المرأة بحكمة وواقعية . وجوابها كان لسان حضارة كاملة ينطق من فم وعي التجربة الإنسانية . وقد ضخّم الكاتب – وهو شاعر مجهول ! – المشاق والدوافع التي قادت جلجامش ليّبرز أهمية هذا الجواب البسيط الذي يكون بمتناول كل إنسان على السواء : "هذا هو نصيب البشرية" (109).   

لكنّ المشكلة التي يؤججها الشاعر تكمن في الطرق المستمر على هذه الحقيقة القدرية التي من العبث مواجهتها ، والمتمثلة في الإحتجاج على الموت المقدّر . "الغرفة المغلقة" الوحيدة التي ظلت تقاوم فضول النفس  البشرية ، وتنفجّات العقل البشري ، وتشرخ نرجسيّته ، وها هو يصرّ مستميتاً على إلغاء "الأنت" ، والإبحار في الكون لاكتشاف "الأنت" الحقيقي ، وهو " "الأنا" ، ورفض "الأنت" الإله الزائف ، إله الكهّان ، إله الملوك ، إله الكنائس التي حوّلت الدين تجارة وسلطاناً ، وكللت رأس الأرض بالأشواك ، وأقامت للعقل المقاصل مستغلةً طفولته . والآن وقد نضج العقل واشتد ساعده ، و"أبحر" ، فقد صار لزاماً عليه أن يطيح بـ "الأنت" الزائف ، الله الكنائسي ، وينتزع السلطات التي ركزّها الكهان في أيديهم ، وينصّب "الأنا" على العرش :

(                   هذا هو الله الذي

                    لاحقه الفلاسفهْ .

                    هذا هو الله الكنائسيُّ ، مَنْ ثار عليهِ

  اللهُ ربُّ العقلِ ، فاستلّ جناحَ العلمِ ، حبرَ العدلِ ،

  ضدّ الدينِ . لم يتركْ ملوكاً . علّقَ الكهّانَ مِنْ

  صلبانهمْ . ردّ من الكنائس القاضيَ (...) لا

  مقصلةٌ للعقلِ . لا إيمانَ بالغيبِ . أنا ،

                                               أنا

  الجميلُ ، السيّدُ ، الحرُّ ، الإلهُ اللانهائيُّ . أليسَ ذا أنا

  يا أيّها الفلاسفهْ ؟ أيّتها

                 الثورةُ ؟ - ص 1530) .

نعم ، هذا هو "أنا" الذي بدأ بتوجيه الطعنات المميتة إلى صدر الكنيسة ليتهاوى الله كقيصر ؛ طعنة من نيتشه ، طعنة من هيغل ، وأخرى من يد ماركس , .. و.. و .. (ص 1531) . وتوالت الطعنات المميتة في جسد هذا الإله الأعزل المسكين . ولو راجعت الخصال التي ازدهى بها "الأنا" في نهاية المقطع السابق : الجميل ، السيّد ، الحرُّ ، الإله اللانهائي ، والمهمة التي اضطلع بها في بداية النص (كاشف الكون وخالقه من جديد) والتي تضعه في موازاة الله وندّه ، لوجدت أن نزعة الإلحاد ونفي وجود الله ما هي إلّا محاولة لانتزاع صفات الله الخارقة وأسمائه الحسنى المعبّرة عنها ، وإلصاقها بالإنسان . فطعنة نيتشه جاءت قاتلة ورهيبة الصدى ، فقد أعلن "موت الله" كما يقول "زرادشت"  ".. أما الله فقد مات .. وليس علينا سوى أن نسدّ الفراغ الذي خلّفه . إلى أين مضى الله ؟ سأقول لكم إلى أين مضى . لقد قتلناه ، أنتم وأنا . أجل ، نحن الذين قتلناه . نحن جميعاً قاتلوه . ألا تشمون رائحة العفن الإلهي ؟ إن الآلهة أيضاً تتعفن .. لقد مات الله . وسيظل الله ميتاً " .. لقد دعا نيتشه الإنسان إلى أن يحصل على ميراث "الغائب الأزلي" من أجل ولادة "الإنسان الأعلى" . وبصورة مباشرة ووضوح واختصار ، يعبّر نيتشه عن الفكرة التي قلناها . فبعد أن مات الله وقتلناه (علينا أن نصنع الله . ولكن حذار أن نصنع الله على صورتنا ومثالنا ، إلهاً بشرياً ، إلهاً غاية في الإنسانية . فلنصنع أنفسنا نحن على صورة الله . ولتكن هذه صورة فوق إنسانية " (110).

ثم جاءت طعنة ماركس الذي تبدّت له فكرة الله باعتبارها مجرد "بناء فوقي" يوجد الى جوار غيره من البنايات الفوقية الاخرى . لقد قرّر ماركس أنه لا توجد "روح دينية" و "ما الدين إلا افيون الشعوب" .. وأن الرجل الإشتراكي ينظر إلى تاريخ الكون بأسره كشيء يعكس عملية خلق الإنسان بفعل الإنتاج البشري . أعني عملية التحكم في مصير الطبيعة بفضل تدخّل الإنسان ، ومن ثمّ فإن الإنسان الإشتراكي إنما يملك الدليل الذي لا سبيل إلى دحضه على خلقه لنفسه بنفسه .

لكن ما الذي حصل من جرّاء هذه الطعنات المتلاحقة والشديدة المضاء التي أطاحت بالله عن عرشه ، وقتلته ؟

يرتفع صوت "الأنا" مستبشراً بجسارة من صنعوا عيد الطعنات القاتلة :

(                                 عادوا إلى

  الروحِ بعيدها . وأرجعوا اخضرارَ كفِّ كلِّ يابسٍ .

  وزيّنوا اليومَ بناسٍ خرجوا من نيرهمْ . (...)

                                   لا قيدّ لهمْ .

                                   لا قبوَ .

                                   لا مقصلةٌ .

                                   صارتْ لهم أجنحةٌ . لا بئرَ

  فيهمْ للبكاءِ . لا ثمارَ مرّةً .

                     لا أقنعهْ .

                     نادتهمُ الرياحُ . ماجتْ في ثنايا

  الخيطِ من قمصانهمْ رائحةُ البحرِ ،

                    وصاروا أشرعهْ . – ص 1531 و1532) .

هكذا فرحَ "الأنا" الذي كان مقهوراً تحت وطأة سياط ونفاق الكهّان قروناً طويلة بهؤلاء ؛ فرسان الطعنات الأشاوس ، صانعي فجره – نيتشه سمّى أحد كتبه "الفجر" لأن موت الله هو الفجر الذي سيطلع على البشرية قاطبة – الجديد . لقد أزالوا المقاصل .. وأعتقوا العقل السجين ، لكي "يبحر" بعيدا وبعيدا في محيطات السؤال والكشف .. لكنْ .. وهنا يأتي هادم اللذات ومفرّق الجماعات ، ليثبت أن كل ما بناه "الأنا" المنتشي بحريّته وبانطلاقه من القيود ، وبموت الله .. واجتثاث الأنت والقضاء عليه لتفرغ الساحة له .. وله وحده ، كان محض أوهام وخيالات . فإذا كان قد قضى على كهّان الكنيسة وعزلهم ، فقد ظهر لـ "الأنا" كهّان من نوع جديد أكثر خطورة وشراسة . لقد فشلت عملية الإطاحة بالله وقتله . فديالكتيك الإلهي والإنساني عند نيتشه قد أدى في نهاية الأمر إلى موت كلٍّ من الله والإنسان ، واختفائهما وراء شبح "الإنسان الأعلى" الذي لا هو بالإنسان ولا هو بالله . وهكذا ظل نيتشه مخلوقاً قلقا معذبا يراوده الحنين إلى الله . بقي نيتشه عدو الله الحميم ، أو صديقه اللدود . أما ماركس فقد نادى في الواقع بديانة جديدة هي "ديانة البروليتاريا" ، حيث خلع على البروليتاريا صفات المخلّص أو المسيح المنتظر . كما أنه قد اضفى عليها في الكثير من الأحيان صفات "شعب الله المختار" (111). لكن هناك ما هو أخطر ـ فقد أدّت الطعنتان ، الديانتان الجديدتان ، ديانة نيتشه وديانة ماركس ، إلى إطلاق كهّان "الأنا" الجدد ، ذئاب الإنسان الذين جعلوا من الأرض جحيماً من الإبادات ، جعلوا الكون ضريحاً .. وانفلت الأنا الحسّي المجرم ذو الشهوة والأطماع كما يقول الشاعر (ص 1532 و1533) . الأنا الذي وقّع العقد مع الشيطان فوهبه روحه .

وهنا يرتفع (صوت) قبيل ختام هذه القصيدة الحوارية .. صوت غير محدّد .. صوت هو خارج "الأنا" ، وليس من "الأنت" . قد يكون صوت الضمير المعزول أو بقايا حشرجة احتضاره :

(                       - إلى أين ستمضي يا

                                                "أنا" ؟

                                                        ناداكَ في

  الليلِ الشيوعيُّ نبيُّ الجنةِ الأرضيِّ . ضوّأتَ في الليلِ

  القناديلَ ، عبرتَ الأسودَ الجمريَّ ،

                                                لكنْ ،

                                                لم تجدْ فردوسكَ

  الموعودَ . لم تلقَ سوى كهّانكَ الحمرَ الذينَ افترعوا

  النصّ كحطّابينَ ضدَ الأخضرِ

                      الأرضيِّ . – ص 1533) .   

وهنا ، في لحظة الختام ، يعلو هذا الصوت ، ويشتد ، ويبدأ بتوجيه نصيحة كونيّة – هل سيصبح "أنت" جديداً ؟ - تُمسك بظاهرةٍ مدمّرة ومتواترة في حياة الخليقة البشرية ، هي كيف يتحوّل النصّ إلى "دين" جامد وقاتل بعد أن يتسلّمه الكهّان / الإنسان . ومصيبة كلّ "النصوص" السماوية هي أن "مؤلفها" هو الله ، في حين أنّ قارئها وناقدها هو الإنسان .. أي الشيطان . كيفَ يُكتب نصٌّ في السماء ليقرأ في الأرض ؟ وفي تاريخ المعرفة البشرية يمثل هذا "النص القتيل" شكلاً من أشكال "الإله الشاب القتيل" الذي يولد من رحم معاناة الأرض / الأم ، بصرخات طلقها ، وجحيم آلامها ، ليترعرع وينمو ويصبح "أنا" مقتدراً .. فيسحقه الآباء الكهّان :

(                     يا

                      كلَّ نصوصِ الشمسِ عبرَ الوقتِ ، ما

  كان سماويّاً وأرضيّاً ، ووهماً أمْ

                             حقيقهْ ،

                      أيّتها الجسرُ الذي ما عبرتهُ نحوَ

  فردوسٍ لها روحُ

                           الخليقهْ ،

                      لا نصَّ إلّا وهوَ هادٍ ، وخلاصيٌّ ،

  وحرُّ ،

           وجميلْ ،

           لكنهُ على يديْ كهانهِ

           نصٌّ

           قتيلْ . – ص 1534) .  

وسوم: العدد 654